منذ ألف باء تجربتي الأدبيّة آمنت بقيمة الكلمة الّتي رسّختها فيما بعد قراءتي للكتب السّماويّة والأدبيّة والتّاريخيّة والفلسفيّة والسّير الذّاتيّة حيث وجدت أكسير الكلمة ورهبتها وأثرها وطعمها، فوقفت في محرابها خاشعًا أحيانًا، فرحًا أحيانًا، مذهولًا أحيانًا، محلّقًا أحيانًا أخرى.
اختار يوحنّا، عليه السّلام، أن يبدأ إنجيله: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله"، فلا قداسة أعظم للكلمة من هذا القول، وإذا أدركنا ما يعنيه يحيى بالكلمة وأبعادها الدّينيّة العميقة تعالت وتصاعدت قيمة الكلمة في قاموسنا.
نعت القرآن الكريم الكلمة الطّيّبة بالشّجرة الطّيّبة الّتي تهبنا ظلًّا وثمرًا ولونًا أخضر وأزهارًا وأوكسجينًا نقيًّا فجاء في سورة إبراهيم "ألم ترَ كيف ضرب الله مثلًا كلمةً طيّبةُ كشجرةٍ طيّبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السّماء تؤتي أُكُلها كل حين". وقد عثرت أيضًا على مثل هذه "الكلمات" في سير وأحاديث الأنبياء والرّسل والقدّيسين والحكماء، وفيما تركه لنا فلاسفة الصّين واليونان من قبل، وفلاسفة العرب فيما بعد، وفلاسفة الغرب في العصر الحديث.
اختار الأديب الفيلسوف الفرنسيّ جان بول سارتر أن يسّمي أحد أجزاء سيرته الذّاتيّة "الكلمات". ولا بدّ من أن أرى العمر هرمًا من الكلمات منها الشّجرة المثمرة ومنها القندول ومنها الياسمين ومنها الدّفلى والشوك.
نختار كلماتنا حينما نكتبها أو نخاطب بها الآخر قاصدين فحواها سواءً مقدّرين أثرها عليه أو متجاهلين ذلك الأثر ولا نحسب مدى حياة الكلمة في نفسية المتلّقي ومقدار مفعولها في حياته، فقد تحيا الكلمة الطيّبة سنوات وعقودًا في نفس السّامع أو القارئ سواءً في أثرها الحسن أو بقاياها السّيئة، وقد تكون عاملًا مؤثّرًا في سيرة حياة السّامع بدون أن يدري النّاطق بها.
كنت أتناول طعامي في مطعمٍ في مدينة صوفيا في أواخر السبعينات من القرن الماضي عندما وقف أمامي شابّ من قرية جليليّة يحمل صدرُه الهمومَ وترى عيناه الطّريق المسدود فقلت له: على رسلك فنصف الألف خمسمائةٍ، تفضّل لنتناول الطعام أولًا وسنهتدي الى الدّرب!
التقى الطّبيب الكبير إحدى بناتي قبل سنواتٍ مصادفة فقال لها: لولا أبوك الّذي قال لي "نصف الألف خمسمائة" لما وصلت الى مركزي اليوم.
وعزّيتُ قبل مدّةٍ سيّدةً بوفاة المرحوم زوجها ففاجأتني حينما قالت لي: لا أنسى مهاتفتك مهنّئًا أيّاي بولادة ابني الوحيد قبل ثلاثين عامًا.
الكلمة الطّيبة صدقة جاريّة وزاد طويل الأمد.