يُشير العديد من الخبراء في دراساتهم عن العالم الافتراضي إلى أنَّ العالم الافتراضي بات له سُكّـان وأبطال، حيث أنَّ سكان هذا العالم الوهمي يقضون أغلب أوقاتهم في التصفح والمشاركة والتعارف وكل ذلك إلكترونيًّا، وفي الوقت نفسه تجد أبطال هذا العالم الافتراضي يكتبون هنا ويشتمون هناك، ويعلقون على هذا وذاك وهمّهم الأول والأخير هو إرضاء الذات بأكبر عدد من (اللايكات).
لقد بات البعض يعيش في هذا العالم الوهمي بشكل شبه تام، فتجد مواقفه افتراضية وعلاقاته افتراضية وشكله (أقصد الصورة التي يستخدمها) افتراضي، وهذا حتمًا ضار بالمجتمع وبالفرد، فنحن ما زلنا بحاجة إلى دفء العلاقات الإنسانية، وما زلنا بحاجة للعائلة وما زلنا بحاجة للتعايش مع المواقف والحياة والتعلم منها، وفي السياق العام نحن ما زلنا بحاجة للتفكير بالمصلحة بواقعية بعيدة عن منطق المزايدة غير المسؤول، وهذا يقتضي منا أن نقول ما يجب وليس ما يُعجِب.
بالنسبة لنا في فلسطين حتمًا لدينا عالم افتراضي، بل لدى أبناء شعبنا نشاط واسع في العالم الافتراضي حيث تعامل البعض بإيجابية مع هذا العالم الافتراضي وجعل منه فرصةً لتعزيز الانتماء ولتقوية أواصر العلاقات الاجتماعية، وجعل من العالم الافتراضي منصّةً لابتكار مبادرات مجتمعية في جوانب الحياة كافّةً، ولقد شاهدت مبادرات مميّزة وتابعت قصص نجاح رائعة منها القرية الافتراضية المسماة (حكي القرايا)، والتي باتت على وشك أن تتحول إلى قرية حقيقية على أرض الواقع حيث باتت (حكي القرايا) تجمع أبناء الشتات الفلسطيني مع أبناء الوطن بحب وتقدير وانضباط وعلى عهد وقسم الحفاظ على القيم والتراث والانتماء الوطني الأصيل الذي يشير فقط إلى فلسطين وعاصمتها القدس الشريف .
لقد باتت (حكي القرايا) مثال على قدرتنا على الاستفادة من العالم الافتراضي فها هي (حكي القرايا) تتحول من العالم الافتراضي إلى الواقعي من خلال عمل المؤتمرات والنشاطات والليالي التراثية .
طبعًا في المقابل- وللأسف- تحوَّل بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى أبطال من ورق كعالمهم الورقي الوهمي. فتجد هذا يتحدث عن بطولات وهميّة في معتقلات وهمية بحثًا عن البطولة، وتجد كذلك مَن يطالب بالثورة وبمكافحة الفساد وبالقضاء على الفاسدين ليحصد المزيد من (اللايك) فهذا معنى البطولة لديه! ومع كوننا جميعًا ضد الفساد والفاسدين، إلّا أنَّ كيل التهم والتشويه وتعميم الخطأ يضر بأي مجتمع إذا لم يكن في إطار القانون والمحاسبة لأنّه يشيع الشك والسلبية القاتلة .
وقد لا حظ بعض المحلّلين النفسيين بأنَّ هناك حالة انفصال تام عن الواقع يعيشها بعض سكان وأبطال العالم الافتراضي، جعلتهم يواجهون مواقف الحياة الحقيقية ويردون عليها افتراضيًّا بهدف الاستعراض، وهذا انفصام عن الواقع ضار بالفرد وبالمجتمع وللأسف هناك بعض الحالات التي تعيش منعزلة عن الأسرة والعائلة والمجتمع بشكل مرضي فتجد هذا البعض يجلس في البيت وحيدًا ولا يشترك بأمور العائلة سواء إيجابًّا أو سلبيًّا، وينعزل عن المجتمع ويعيش في قضايا يجد فيها بطولته الوهمية.
الأخطر لدينا في فلسطين بأنَّ البعض وللوصول للبطولة المطلَقة في العالم الافتراضي يقوم بممارسة أقصر الطرق للشهرة، فتجده يشتم هذا، ويعارض هذا، وكلُّ ما سبق ممكن وبسيط ولن يأخذ من وقت من يكتب أو يقوم بالبحث سوى دقائق معدودة ،يعود بعدها لشرب الشاي في العمل أو المنزل منتظرًا (اللايكات).
إنَّ هذا الاستغلال لبعض مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي هو خداع حقيقي وتضليل خطير قد يشكل خطرًا على المجتمعات، ويجب محاربته بالوعي والكلمة وبممارسة الحظر القانوني والإلغاء ويجب أن يكون هناك منظومة قانونية تحمي مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي من التطرُّف والعنصرية والاستغلال بأي من أشكاله.
أخيرًا وببساطة أقول العالم الافتراضي كما هو كل ما في الحياة ممكن أن يكون إيجابيًّا للشخص وللمجتمع، وممكن أن يكون سلبيًّا للشخص أو المجتمع، ودورنا هو تعزيز النواحي الإيجابية فتكون هناك مبادرات في مجالات الثقافة والتعليم والحفاظ على التراث وحماية حقوق الطفل والمرأة وذوي الاحتياجات الخاصة، وفي الوقت نفسه علينا محاربة السلبية، وهناك ضرورة لعزل المصابين بفصام الشخصية من أبطال العالم الافتراضي حتى لا يتحوّلوا إلى ظاهرة مؤثّرة سلبيًّا على المجتمع، وهذا يقتضي الإهمال والتركيز على التوعية بخطورة بعض من يستغل وسائل التواصل الاجتماعي للبطولة الزائفة .
ومن المهم الإشارة إلى أنَّ خصوصية قضية فلسطين تقتضي منا الإيجابية والتركيز على تعزيز دوائر الانتماء العربي والإسلامي والإنساني، حيث أنَّ فلسطين جامعة للكل ونحن بحاجة ماسة إلى مَن يكون معنا لا ضدنـا، ولا يجب أن نُقحم أنفسنا أبدًّا في خلاف أو فتنة، ويجب أن نكون دومًا محافظين على كون فلسطين بحاجة لكل أحرار العالم ولهذا يجب الحذر عند التعاطي مع موضوع الديانات والقوميات والدول وخلافاتها ومواقفها، وهذا يفرض المسؤولية على كل فلسطيني فاعل ومشارك في العالم الافتراضي فلا يجب أن ننحاز في خلاف ولا يجب أن نشتم ويجب أن نحافظ على فلسطيننا وقضيتها وقدسيتها .
بالمختصر..
إنَّ أبرز عيوب سكان وأبطال العالم الافتراضي هو الشعور الطاغي بحقهم بالاستئثار بالرأي والشعور، الطاغي بأنَّ موقفه الذي يعبر عنه هو الصحيح بالمطلق، وهذا يفتح باب التشدّد والتطرف والنزاع والخلاف، ويعزز من ظاهرة التخوين والتكفير السياسي، ويجب أن تكون هناك معالجة وطنية وقانونية للكراهية والتحريض الذي يتم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي .
ولكلِّ ما سبق يجب أن يكون تفاعلنا مع العالم الافتراضي مدروسًا تمامًا، وهناك ضرورة للاستفادة من وزارة التربية والتعليم والجامعات والمساجد لتعزيز الوعي في كيفية التعامل مع هذا العالم الافتراضي بسكانه وأبطاله.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها