من المنطق الوطني والسياسي والوجداني أن تتوجَّه سهامُنا المسمومة دائمًا إلى صدر العدو الذي يقتلُ أطفالنا، ونساءَنا، وشبابنا، ويهدمُ بيوتنا
يصادف اليوم الثاني من تشرين الثاني العام 1917 صدور وعد بلفور المشؤوم، هذا الوعد الذي قدَّمه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور باسم بريطانيا الاستعمارية، بإقامة كيان يهودي على أرض فلسطين التاريخية، وهكذا يكون من لا يملك قد أعطى من لا يستحق أرضاً مباركةً عاش عليها الشعبُ الفلسطيني وأجداده منذ فجر التاريخ.
إنَّ هذا الوعد الاستعماري جاء منسجماً مع رؤية بريطانيا الاستعمارية، وتحالفها المتين مع الحركة الصهيونية لتطويع العالم العربي، والسيطرة عليه، والوصول إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية، والتحكُّم بالعالم العربي ومقدراته، وتحطيم طاقاته، والسيطرة على ثرواتِه، وتهشيمِ استقلاله.
لقد أصبحت الصورة أكثر وضوحاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأخذ الولايات المتحدة المبادرة في دعم الوجود الإسرائيلي، الصهيوني خاصة بعد إقرار قرار تقسيم فلسطين 29-11-1947، وقيام بريطانيا، وواشنطن بدعم العصابات الصهيونية لارتكاب المجازر في القرى والبلدات الفلسطينية، وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم. حصل ذلك أمام العالم وهيئاته الدولية، ووقف الجميع بما في ذلك الدول العربية متفرجين، ومازال الجميعُ متفرجاً رغم الجراح النازفة، ورغم المآسي التي لا تُطاق، ورغم انكشاف المؤامرة وأبعادها ومخاطرها.
بلفور مشروع صهيوني استعماري تأسس لإنتاج مأساة فلسطينية متواصلة، عمت الأرض الفلسطينية التاريخية. وسعت لتغيير الواقع الديموغرافي الفلسطيني.
وكان التركيز على تهويد القدس من اجل أن تصبح معقلاً للصهاينة.
وهذا كان يتطلب استخدام أدوات وأساليب القمع، والتهجير، والطرد، والتعذيب، والتنكيل كافّةً.
كما سعت السياسة الصهيونية إلى توسيع مساحة القدس كي تصبح %10 من مساحة الضفة الغربية، وهذا يعني ضم المستوطنات شرق المدينة وغربها إلى بلدية القدس، وهذا الأمر يعني ضمَّ حوالي مئةٍ وخمسين ألف مستوطن إلى المدينة، وإخراج مئة ألف فلسطيني منها.
إنَّ وعد بلفور الانتقامي من الوجود الفلسطيني التاريخي على أرض فلسطين، هو الذي خطط لطرد وترحيل العرب، ليس من القدس فقط، وإنَّما من كافة الأراضي الفلسطينية.
وهذا ما قام نتنياهو بتطبيقه عندما أخذ الكنيست قراراً عنصرياً باعتبار هذه الأرض هي أرض اليهود القومية، وعليها يجب أن يقرروا مصيرهم . علماً أن الوجود اليهودي في العام 1917 على الأراضي الفلسطينية لم يتجاوز 3%. أي أصبحت الأغلبية أقلية، والأقلية أغلبية.
إنَّ إقدام بريطانيا على تبني هذا القرار السياسي الإجرامي كان ينطلق من توسيع النفوذ الاستعماري، وفصل بلاد الشام عن مصر، وتعزيز الوجود الصهيوني في قلب الوطن العربي، كي تسهل عمليةُ تمزيق الأمة العربية، وضرب اقتصادها، والتحكُّم بالوطن العربي، لإفشال كل محاولات تحقيق الوحدة العربية، أو استنهاض الشعوب العربية .
إنَّ تنفيذ مضمون وعد بلفور أدى إلى تهجير ما يزيد على 60% من أهل فلسطين بقوة السلاح والمجازر. ثم كان تدمير نحو (536) قرية وبلدة، والهيمنة على الأراضي والممتلكات .
وفي غياب الموقف العربي الموحَّد القادر على التصدي للمشروع الصهيوني، دفع الشعب الفلسطيني الثمن غالياً من خلال تنفيذ المجازر بحق أهلنا، وإقامة سلسلة من المستوطنات في الضفة الغربية، بحيث زاد عددُ المستوطنين هناك على سبعماية وخمسين ألفاًّ، وهي في تصاعد متسارع .
إنًّ وعد بلفور المشؤوم هو السبب في وجود مأساة اللاجئين المشردين خارج الوطن، في مشارق الأرض ومغاربها، والذين يزيد عددهم عن ستة ملايين.
ولاشك أن هذا الظلم التاريخي والجائر الذي وقع على شعبنا، أوجد صراعاً داخل بريطانيا نفسها بين أحزابها، وكانت غالبيتها تدعمُ الحقوق الفلسطينية، وتقدِّم الاعتذار لشعبنا على ما حلًّ بهِ، وهناك إلحاح على دولة بريطانيا من داخلها، بأنها يجب ان تعترف بالدولة الفلسطينية المستقلة للتعويض عن الجرائم التي ارتكبتها.
يا جماهير شعبنا الفلسطيني في الداخل والشتات...
ونحن نعيش هذه الذكرى الأليمة بكل تداعياتها المدمِّرة على واقعنا الفلسطيني، وعلى قضيتنا العادلة، وعلى شعبنا شعب التضحيات، والشهداء، الذي أعطى لثورته كلَّ ما عنده ولم يتردد، فإنَّنا اليوم كحركة "فتح"، ومن موقع المسؤولية والأمانة التي حملناها منذ الانطلاقة، فإننا ندعو كافة القوى الفلسطينية إلى التمسُّك بالقضايا الجوهرية التي تصوّتُ مع حقوقنا، وتحمي شعبنا، وتحقق أهدافنا الوطنية ومن هذه القضايا الملحَّة:
أولاً: إنَّ حجم المؤامرة التي نتعرض لسهامها، والتي تستهدفُ وجودَنا على أرضنا، واقتلاعنا منها، تفرضُ علينا جميعاً أن نتوحَّد في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، والتي تعترف بها دول العالم وأن نكون على قلب رجلٍ واحد، وأن نوحِّد أهدافنا، وأن نعزِّز جبهتنا، بقلوبٍ مؤمنة، وإصرارٍ على تحطيمِ المؤامرة الصهيونية التي تستهدفنا جميعاً ودون استثناء. نحن اليوم في أتون معركة شرسة مع القرار العنصري الصهيوني الذي ينادي علنا بالقومية اليهودية، وطرد من يُقيم على أرض فلسطين من غير اليهود .
ثانياً: علينا أن نفكر بعيداً عن الأنانية الحزبية والتنظيمية، وأن نعيد حساباتنا جيداً مستفيدين من السنواتِ الماضية، التي تلت بداية الانقسام في الساحة الفلسطينية والذي بدأ من قطاع غزة، فما الذي حصدناه عبر هذه السنوات غير نزيف الدماء، والحصار، وتدمير العلاقات الداخلية، وتيئيس وإحباط الشعب الفلسطيني .
فلماذا لا نتجرّأ ونتوجّه إلى المصالحة الوطنية، وندوس بأقدامنا الانقسامَ وكلَّ تداعياتهِ إكراماً لفلسطين، ولقوافل الشهداء. جميعنا اليوم في مأزق، والحلُّ بأيدينا . والانتظارُ لا يخدمُ إلّا الصهاينة.
ثالثاً: إنَّ المعركة العدوانية الشاملة التي بدأها الرئيس الأمريكي ترامب على فلسطين أرضاً، وشعباً، ومقدسات، ما كان يجرؤ عليها لو كان موقفنا جميعاً موحَّداً، ونقولها بصوتٍ واحد، وكما قالها سيادة رئيس دولة فلسطين: لا لترامب، لا للعدوان الأمريكي على القدس، وعلى اللاجئين، وعلى "الأونروا"، وعلى دعم الاستيطان، ونعم لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية التاريخية . لو قلنا ذلك جميعُنا علناً وبصوتٍ واحدٍ، لأجبرنا العالمَ أن يحترمنا، وأن يقفَ إلى جانبنا، وأن يساندَ حقوقنا، وأن نتحرك كافةُ الهيئات والمؤسسات الدولية لحمايةِ شعبنا الذي يعاني تحت الاحتلال . وعندئذٍ سيجد ترامب نفسه وحيداً أمام شعبِ البطولات، والتضحيات، والانتصارات.
رابعاً: من المنطق الوطني والسياسي والوجداني أن تتوجَّه سهامُنا المسمومة دائماً إلى صدر العدو الذي يقتلُ أطفالنا، ونساءَنا، وشبابنا، ويهدمُ بيوتنا، ويسعى إلى تصفية حقوقنا ووجودنا . ولا يجوز توجيه السهام إلى صدر القيادة الفلسطينية ، التي تتحرك في كل أنحاء العالم، لكسب الدعم الدولي لشعبنا وثوابته الوطنية، والتي تتحدى الأعداء الصهاينة في كل المحافل، وهي تقف في الخندق الأمامي.
خامساً: إنَّ ما يؤكده الرئيس أبو مازن دائماً بأنه لا دولة بدون غزة، ولا دولة في غزة، ولا دولة بدون القدس الشرقية عاصمةً لها، ولا دولة ذات حدود مؤقتة، هذه ثوابت راسخة في قناعاتنا الوطنية والسياسية، وبالتالي المصالحة أولاً قبل كل شيء، لأن إصلاح البيت الفلسطيني وتحصينُه، أهم من أية تهدئةٍ مع العدو يقوم بها تنظيمٌ بعينه منفرداً وبعيداً عن القيادة الجماعية. وكما فعلنا العام 2014 فقد توافقنا على الهدنة جميعاً.
سادساً: إننا نتوجه إلى أهلنا في قطاع غزة ونحيي شهداءهم، وتضحياتهم، والجرحى منهم نتمنى لهم الشفاءَ العاجل. كما نحيي القيادات الوطنية المشاركة. كما نحيي أهلنا في الخان الأحمر الصامد بوجه الاقتلاع والاستيطان، ونشدٌ على أيدي المعتصمين هناك منذ أربعة شهور وخاصة القوى السياسية، والنقابية، والحشود الشعبية، وخاصة القيادات الفتحاوية، وهيئة مقاومة الجدار والاستيطان، لإفشال المشروع الاستيطاني في المنطقة (E1) ابتداء من المدخل الشرقي للقدس وصولاً إلى الأغوار للفصل بين شمال الضفة وجنوبها . إضافة إلى المسيرات المتواصلة في مختلف محافظات الوطن الشمالية، وخاصة الصمود الرائع لأبناء القدس ووعيهم الوطني، وصلابتهم الثورية، ودورهم الميداني خاصة نجاحهم في إفشال الانتخابات العربية في بلدية القدس .
إنَّنا في الوقت الذي نحيي فيه صمودَ شعبنا في الوطن، فإننا أيضاً ندعو أبناءَ شعبنا في لبنان إلى التكاتف، وتوحيد المواقف، والحرص الدائم على تجسيد الوحدة الوطنية، والعلاقات الأخوية من أجل ضمان الاستقرار والطمأنينة، فإننا بذلك نكون قد حققنا خطوةً أساسية على طريق تحرير فلسطين، لأن ثقة شعبنا بقيادته تزيده صلابةً، وتمسكاً بحقوقه، واستعداداً للتضحية، والمشاركة الفعلية في كافة الجهود والأنشطة الوطنية. ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى القاعدة الشعبية الصلبة والواعية، والمدركة لدورها الوطني، حتى تستطيع حماية قضية اللاجئين، وتفاعلاتها الميدانية، والتمسك بحق العودة إلى أرضنا المباركة استناداً إلى القرار 194 .
كما أننا نأمل وفي أقرب وقت أن يعودَ أهلنا من الفلسطينيين السوريين إلى بيوتهم ومخيماتهم آمنين، كي يمارسوا دورهم الوطني والنضالي من أجل تعزيز مسيرة الثورة الفلسطينية، وانتصارنا جميعاً على المؤامرة الصهيونية.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار
والعزة والحرية لأسرانا الأبطال
والشفاء للجرحى
وإنَّها لثورة حتى النصر
قيادة حركة "فتح" - لبنان
2018-11-2
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها