دونالد ترامب، هو نتاج السياسات الأميركية التاريخية، والامتداد الطبيعي للمركبات الأيديولوجية والدينية والسياسية، التي رسخها الرؤساء على مر الحقب التاريخية منذ وجود أميركا في الجيوبوليتك الإقليمي والعالمي. وإن تميز عن أقرانه من رؤساء الولايات المتحدة في عدوانيته ضد شعوب الأرض قاطبة، وليس الشعب الفلسطيني فقط، فإنما هو تميز نسبي، لكنه كشف بشكل فج عن الوجه الحقيقي لأميركا، وأزال آخر أوراق التوت عن عوراتها، وأعادها إلى غابر الأزمان في حروبها الداخلية ضد الهنود الحمر، والخارجية ضد شعوب ودول أميركا الجنوبية وباقي دول العالم.
وما ينتهجه من سياسات سافرة في عدوانيتها ضد شعوب العالم تحت شعاره، الذي رفعه يوم تنصيبه في العشرين من كانون الثاني/يناير 2017 "أميركا أولا"، انعكس في صراع متعدد الجبهات وفي قارات الأرض الخمس، وكل يوم يفتح جبهة صراع جديدة مع هذه الدولة أو ذلك القطب الدولي نجم عنه انعزال أميركا عن العالم، وابتعادها عن الشرعية الدولية وقوانينها ومواثيقها ومعاهداتها، وتغولها في فرض قانونها الخاص "قانون الغاب"، الذي لا يقبل القسمة على القوانين الناظمة للعلاقات الأممية.
وآخر ما تفتقت عنه السياسة الشعبوية الأميركية الهوجاء في تماهيها مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، هو انسحابها من لجنة حقوق الإنسان الأممية الأسبوع الماضي بذريعة، أن اللجنة منحازة لصالح الشعب الفلسطيني، وتتخذ موقفا مسبقا معاديا لإسرائيل؟! ولم يحاول الرئيس الأميركي أن يسأل نفسه عن جرائم الحرب الإسرائيلية، وإرهابها الدولاني المنظم ضد أبناء الشعب الفلسطيني، ومواصلة سياساتها الاستعمارية على الأرض الفلسطينية العربية، وحرمانها الفلسطينيين من حريتهم واستقلالهم السياسي والاقتصادي أسوة بشعوب الأرض كافة. لا سيما أنهم آخر شعب على الأرض ما زال يرزح تحت نير الاستعمار في القرن الحادي والعشرين.
الانسحاب الأميركي من اللجنة الأممية، هو بمثابة عدوان مباشر على حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، وفي ذات الوقت تخلي أميركا عن دورها كقطب مركزي في السياسة الدولية في رعاية حقوق الإنسان، التي كانت وما زالت تتغني بها، وهو استهتار بالقيم والقوانين الأممية، وضربها في عرض الحائط، ومشاركة إسرائيل الاستعمارية في حربها المسعورة على الشعب الفلسطيني الأعزل. لا بل باتت الولايات المتحدة في زمن الرئيس ترامب رأس حربة للاستعمار الإسرائيلي في حربها على الفلسطينيين.
وكانت إدارة ترامب انسحبت العام الماضي من منظمة اليونيسكو في حربها المفضوحة والمكشوفة على المنظمات والهيئات الدولية دعما ومشاركة لإسرائيل الإستعمارية، وقلصت مساعداتها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) كخطوة على طريق تصفيتها بهدف تصفية قضية اللاجئين، وتلازم مع ذلك الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم نقلت السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس في ذكرى النكبة السبعين للشعب الفلسطيني، وما زالت تضع منظمة التحرير في قائمة "الإرهاب"، ودفعت الأمور نحو إغلاق الممثلية الديبلوماسية الفلسطينية في واشنطن، وتعمل الآن بخطى حثيثة لتمرير صفقة القرن بهدف تصفية القضية الفلسطينية.
ولم تترك إدارة ترامب خلال العام ونصف العام الماضية من ولايتها مجالا ينصف الشعب الفلسطيني وقضيته السياسية العادلة إلا وعملت على ملاحقته، ومحاصرة الحقوق السياسية الفلسطينية بذرائع وحجج واهية ووهمية. الأمر الذي يضع أميركا مباشرة في صف وخندق العدو الإسرائيلي. وبذلك تخلت طوعا وعن سابق تصميم وإصرار عن دورها كراعٍ لعملية السلام، مع أن القيادة السياسية الفلسطينية حرصت على فتح الأبواب المغلقة مع إدارة ترامب، ومدت الجسور معها، لكنها أغلقت عينيها، وصمت آذانها، وأبقت أبواقها مفتوحة لصالح مشاركة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة في حربها على القيادة والشعب الفلسطيني.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب عار على أميركا وشعبها، وعار على السياسة الدولية، وأداة تدمير منهجية لمنظومة العلاقات الأممية، والشرعية الدولية، التي وضعت أسسها، وساهمت في بنائها الولايات المتحدة قبل ثلاثة وسبعين عاما خلت. ومثَّل ترامب بسياساته الشعبوية الخطرة تهديدا مباشرا على الولايات المتحدة الأميركية وعلى النظام الدولي القائم على حد سواء. الأمر الذي يفرض على العالم بشكل جمعي التصدي لسياساته العنصرية والرجعية المارقة لحماية أميركا من نفسها، وحماية البشرية من ويلات ما قد تحمله تلك السياسة المتهورة وغير المسؤولة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها