في أغلب الأحيان نجلس على الشرفات، ننظر الى الفراغ الواسع، فلا نرى غير المستنقع الذي يركد فيه المستقبل الثقافي والسياسي والاقتصادي والديني، ومع هذا كله لا يوجد سفينة خلاص لأحلام تشدو في الطابق العلوي من ظلام مرحلة سالفة، سواء كانت مرثية بصيغة الماضي، أو مرثية لم تبلغ سن الرشد على دروب غربة طويلة مزروعة بالشوك ومسامير الزمن الكريه.
هي مفارقة عظيمة في يوم استذكارِكَ، وأنتَ لم تغادر أبداً، أن نذكر دائماً ما كنت تقول من كلمات مأثورة، ستبقى راسخة من جيل الى جيل،
لا ننسى أنك قلت يوماً: يرونها بعيدة ونراها قريبة،
لا ننسى قولك يوماً: رائحة حبر الثورة كرائحة بارودها. في لحظة صفاء.
لا ننسى وقوفك وحيداً في يومٍ عزّ فيه المغيثُ يوم قلت: يريدونني إمّا قتيلاً وإمّا طريداً وإمّا سجيناً وأنا أقول لهم: شهيداً.. شهيدا..ً شهيداً
لا ننسى حماستك للشعراء والأدباء والمفكرين وذائقتك المرهفة العالية الإحساس، وتردادك لمطالع القصائد ومنها مطلع قصيدة أبو سلمى: أنشر على لهب القصيد/ شكوى العبيد الى العبيد.
لا ننسى أبداً أنك قلت يوماً: يا جبل ما يهزك ريح.
لا ننسى يوماً أنك قلت: شِدّي سَفَري، تأهباً للنزول الى أرض الوطن، يوم كان الوطن الحلم الأكبر بقلوب مزدحمة بأشجار اللوز وأزهار الليمون في بلاد المنافي. يوم وقفنا أمامك زائغي البصر نمشي على أرض لم تعد تشبهنا.
في ذكراك التاسعة، والعاشرة، وأكثر، نقف في منطقة تالفة الألوان، منطقة يعمها الخراب في قلبها المتصدع الى بقايا أرض وخرافة أوطان، هي مفارقة أن تبدو الأمة رثّة الى حدّ السّواد، يوم كنت تبلسم ثلومها وتداوي أوجاعها، كأننا بعدك في زمن يطغى فيه كل هذا الدم، ورغم ذلك لا ننسى ما قلته يوماً: ثورة ثورة حتى النصر. وعلى القدس رايحين شهداء بالملايين.
لا ننسى قلمك الأحمر الشفاف وعبارة – يصرف نصف المبلغ، لإسكات الريح الجائعة في خواء الكلام.
لا ننسى حرية الأفكار ووضوح التطلع الى اكتمال الفرح في سماء الوطن مع شعب الجبارين، في وقت لم يجد فيه شعبك وأرضك من ينصره من العبث بأرواحه بخناجر مسمومة على مفارق الطرق.
قلت: شِدّي سَفَري، ويومها كنا على أنقاضنا نقف بعد موتٍ عاصف وسفر منسي، ووطن بعيد، وخطوات بعيدة، في تونس واليمن والسودان وليبيا والجزائر وقبرص وكل مكان. قلنا يومها: خذنا معك، ونحن معك.
لا تسألْنا كيف تعلمنا درس السفر الى الموانئ باسم تأشيرة الدم والصمود والحصار. خذنا معك باسم القضية التي هدموا جدرانها وحاصروها في قلبك حتى الممات. حيث كنت اللغز والوجود والرقم الصعب، بينما هم كانوا سكاكين الغدر والاغتيال، حين افترق كل شيء على حين غفلة من اللامبالاة ورمل الوداع وجلبة خيول تملأ الأرض بصرير الجنازير، ودبيب الحوافر على أرض الفراغ. أمّا حقول القمح البعيدة عن أنظار الفلاحين فقد أوشكت على الانزلاق الى نهر التذكّر أثناء النوم تحت غيمة، فصدّقناك وصدّقنا ما تقول، ولم نصدق الكلام الماكر والخبيث.
مِنَ الطبيعي ان نعود الى الأمس بكل حذافيره، وهو الأمس الذي عشناه معك وخلالك ببياضه وسواده، نعود لنترقب ونتوقع ما كنت تقوله وتُلْفِتْنَا إليه، ولكننا في حمأة السؤال نقول:
مَنْ يا ترى الفاعل؟!
مَنْ كانت يده لئيمة وعقله كاره الى هذا الحدّ؟!
مَنْ أطفأ شمعة الحياة قبل الظلام، فافسد البحر والنهر ومجرى الدم؟! من جعل القمر يسكن الليل ويمسح بمنديله دمعة الصباح ليظلّ شهيّاً في عتمة الحياة.
مَنْ خطف العالم من أمام نداء الوطن؟
مَنْ هزّ قلوب الشباب وجرح الشيخوخة، وأهلك الطفولة قبل أن تبزغ في كبرياء الضوء؟
مَنْ كسر اسطورة الروح فيك وفينا وغرق في جوهر الكلمات دون ان ينطق بكلمة تدين الفاعل؟
يَدُ مَنْ كانتْ سافلة الى درجة الغبار؟!
يَدُ مَنْ تلك التي ساهمتْ في نصب مشنقة الإنسان في عراء الصمت؟!
مكروهٌ الى درجة الهبل.
ملعونٌ الى درجة الصقيع.
تافهٌ الى حدّ المرارة مَنْ خرج من روح الوطن الى سواد الخنجر، وصوّب سمّه الى روحك، وروح الوطن، وأهلك الحلم في قلب المواقد.
هي مفارقة أن يعود الملف في يوم ذكراكَ، لا لينفي أو يؤكد. وهل يستطيع أحد أن ينفي اليقين؟ هي قطرات قليلة من مادّة سامّة مشعّة موجودة في الرّفات، أثبتت بالدليل القاطع سبب الوفاة، ولا سبيل للتحايل والتعمية والتسييس، واخفاء الأدلة القاتلة.
من يريد أن يخفي الحقيقة فهو مساهم وشريك في الجريمة، وهناك تساؤلات كثيرة عن سبب اتلاف نتائج الفحوص الطبية في مستشفى بيرسي الفرنسي، ألا يمكن أن يكون هناك شك ما، في أن أحداً أوعز بإتلافها حتى لا ينكشف الفاعل الحقيقي، وهو معروف اللون والصورة، وخوفاً من ماذا؟ من مشكلة سياسية يمكن ان تنشأ بين الفاعل الحقيقي الملوّث بالدم منذ وطَأَتْ قدماه ارض الوطن، وبين أولياء الدّم الذين حلموا طويلاً بكشف الحقيقة دعماً للصدقية والسمعة والأخلاق والرصانة والنزاهة. ألم ينكر التقرير بداية عدم وجود مادة سامة؟ هل عجزت المختبرات الفرنسية المتطورة عن العثور على مادة البلوتونيوم في حينه؟ الآن وقد اتضح أن هذه المادة هي السبب المباشر للوفاة، اصبح الأمر لا يحتاج إلاّ الى تفعيل التقريرين السويسري والروسي في كل المحافل الدولية والحقوقية وما استطاعت يد السلطة الفلسطينية الوصول اليه سبيلا. وإلا ستكون هناك ستارة سوداء تغطي القيم الانسانية والمبادئ وحقوق الانسان، وبعدها لا يُكلِّمَنَّ أحد ما مِنْ أي جهة كان عن هذه الحقوق التي يتغنون بها ليلاً نهاراً.
في ذكرى استشهادِكَ:
موتك واضح... السّمُ واضح... الباطل واضح
العدل واضح... فالرجل مات، الزعيم مات، الرئيس القائد، الفلسطيني، الرمز، الرقم الصعب، الشعار، صاحب عبارة شِدّي سَفَري، الرجل الطائر الذي عاش في الفضاء أكثر مما عاش على الأرض، مالئ الدنيا وشاغل الناس في حياته ومماته، مبلسم الجراح، العطوف الرحيم، صاحب عبارة شعب الجبارين،
الرجل الصافن في الدنيا، المستغرِب ظلمها،
الواقف على منصة الأمم المتحدة،
صاحب البندقية وغصن الزيتون الأخضر،
الرافع جبينه إلى الأعلى
صاحب الأصبع المتحرك في الهواء
المبحر دائماً رغم المطر الشحيح وخواطر البقاء بين سنابل بلادي وزيتونها الحاني، هل نتركه للقدر؟
بتنا نتحسر في غيابه على كل شيء، فلم نعد نصدق ما نرى ونسمع.
أي هذيان يسكن النفوس ويفيض كالأنهار في نفوس أناس فقدوا عيونهم في غمرة الألوان الكالحة، بينما أنت حي فينا مهما اشتدّ سَفَري.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها