لم يكن الشهيد ياسر عرفات قارئاً للأدب أو مغرماً بالفنون أو متابعاً للفكر، فقد عاش من دون هوايات تقريباً، فهو لا يحضر السينما أو المسرح أو العروض الفنية(ماعدا الفرق الفلكلورية الفلسطينية)، أو حتى الاسترخاء في العطل الاسبوعية، فهذه المصطلحات مضحكة له أيما ضحك، ولا سيما أنه كان يعمل ثماني عشرة ساعة في اليوم، ومنذ انطلاقة حركة فتح والكفاح السملح في 1/1/1965 صار الاحساس بالخطر يجثم على تفكيره وتحركاته، فلم يكن ينام في مكان واحد ليلتين متتاليتين.على الرغم من ذلك فقد كان يتابع الأمور السياسية بالتفصيل ويطلع على الدراسات والمقالات المهمة في هذا الميدان، ويقرأ الكتب السياسية الضرورية من خلال الملخصات التي يعدها له مساعدوه أو مركز التخطيط الفلسطيني. وبهذا المعنى، فقد كان أبو عمار قارئاً مهماً، لكنه كان منغمساً في قراءة التقارير السياسية والترجمات والمذكرات وكل ما يتعلق بشؤون الثورة الفلسطينية. ومع ذلك كان يردد دائماً إن الثورة ليست مجرد بندقية فحسب، بل هي قلم أديب وقصيدة شاعر وريشة فنان وخيال مبدع ونغمة موسيقى.
على أن ياسر عرفات السياسي والثوري لم يغفل أهمية الاعلام على الاطلاق. ومن البدهي ان صلة الاعلام بالثقافة هي صلة وثيقة جداً. ولا ننسى أن أبو عمار مارس الصحافة ردحاً من الزمن، فكان يكتب في مجلة "فلسطيننا" التي صدرت بين 1959 و 1964 لتكون المنبر الاعلامي لحركة فتح قبيل انطلاقة الكفاح المسلح، وله فيها عدد من الافتتاحيات والمقالات غير الموقّعة باسمه الصريح، والمعروف أن أبو عمار بعد عودته من فلسطين غداة النكبة أصدر في القاهرة، وبالتحديد في سنة 1949، مجلة "صوت فلسطين" وكتب فيها بعض المقالات.
كان ياسر عرفات، فوق ثقافته الدينية والسياسية، يحفظ كثيراً من الأبيات الشعرية التي يرددها في المناسبات وفي المقابلات الصحافية. وكان الشعراء والكتاب والمفكرون يألفونه جداً ويأنسون اليه، وفي طليعة هؤلاء الشاعر الشهيد كمال ناصر، فضلاً عن محمود درويش ومعين بسيسو ولطفي الخولي ولميعة عباس عمارة وكثيرين غيرهم. ولم يكن بعيداً عن الفنانين ومنهم، منذ البدايات الأولى، اسماعيل شموط على سبيل المثال. ولعل قلة من الناس تعرف أن شعار العاصفة صممه الفنان السوري نذير نبعة في سنة 1966، وكان على صلة مباشرة بياسر عرفات. وقد كان ياسر عرفات يولي اهتماماً خاصاً بشاعر الثورة أبو الصادق (صلاح الدين الحسيني) الذي كتب أول نشيد للثورة الفلسطينية، والذي يقول مطلعه: "بسم الله، بسم الفتح، بسم الثورة الشعبية، باسم الجرح إللي بينزف حرية ". وعلاوة على ذلك ربطت ياسر عرفات صلات وثيقة جداً بعدد من المبدعات والمبدعين العرب أمثال الروائية اللبنانية ليلى عسيران التي كانت كاتبة جريئة ومتميزة في ستينيات القرن العشرين. وبعد معركة الكرامة في 21/3/1968 ذهبت الى الاردن والتقت ياسر عرفات وعاشت بين الفدائيين في القواعد العسكرية في الأغوار، وكان اسمها الحركي "خضرة"، ورافقتهم في بعض عملياتهم عبر نهر الاردن، وكتبت عنهم رواية "خط الأفعى" (إشارة إلى النهر) ورواية "عصافير الفجر". وتوطدت علاقتها بياسر عرفات بعد تدفق الفدائيين على لبنان بعد حوادث أيلول الأسود في الأردن سنة 1970. وبسبب هذه العلاقة أحرق الكتائبيون منزلها في الدكوانة إبان حصار مخيم تل الزعتر في سنة 1976. وفي هذا كتبت رواية "قلعة الأسطى" عن منزلها ومخيم تل الزعتر والطباخ السوداني (الأسطى) الذي اغتاله الكتائبيون، وعن الموت والحرب وفلسطين.
اشتُهرت قصيدة للشاعرة العراقية المعروفة لميعة عباس عمارة عن ياسر عرفات، وسرت في بيروت سريان النار في الهشيم، ولم يعرف بها ياسر عرفات الا بعدما حدثه أحد أقطاب الحركة الوطنية اللبنانية عنها. ومن بين أبيات هذه القصيدة ما يلي:
صُنوُ الملوكٍ ويطلبونَ رضاهُ ... يختالُ من زهدٍ على دنياهُ
لا بيتَ، سرجٌ دارُه، ومرورُه ... حلمٌ، وبغتةُ ضيغمٍ مسراهُ
كلُّ الشعوبِ توحدتْ في شعبه... وحدودُه أنى تُشيرُ يداهُ
يدعونه الختيار ذاك لحكمةٍ ... وأنا كما الطفلُ النقُّي أراهُ
لولا جلالةِ قدرهِ، ولكونه... رمزَ الفداءِ، لخلتني أهواهُ
أما محمود درويش فكان في منزلة الابن لياسر عرفات، وكان محمود يعتبر أبو عمار والده، وقد كان لصيقاً به في بيروت وفي تونس وفي رام الله. ولعل من غير المعروف تماماً، إلا لقلة من الناس، أن محمود درويش كان من أهم "الباحثين" الذين يفهمون اسرائيل فهماً عميقاً وثاقباً، وكان أبو عمار يستمع إليه بشغف ويستشيره في الشؤون الاسرائيلية. وقد شارك محمود درويش في كتابة خطاب ياسر عرفات الذي ألقاه في الأمم المتحدة سنة 1974، وكتب إعلان الاستقلال الذي قرأه ياسر عرفات أمام المجلس الوطني في الجزائر سنة 1988، وكتب أيضاً خطاب ياسر عرفات أمام الاونيسكو سنة 1993، وخطابه في حفل تسليمه جائزة نوبل في سنة 1994.وكتب محمود درويش أجمل قصائده عن ياسر عرفات وهي: مديح الظل العالي، قصيدة بيروت، رثاء ياسر عرفات.
كثيراً ما كان أبو عمار يرسل تحياته الى سميح القاسم لأنه شاعر قومي الاتجاه وفلسطيني المضمون ويعيش في داخل اسرائيل وله مواقف وطنية مشهودة. وفي سنة 1999 كان ياسر عرفات يرعى احتفالاً في جامعة بيت لحم. وفي هذا الاحتفال ألقى سميح القاسم كلمة باسم الفائزين بجوائز الشعر، وكان هو الفائز بجائزة تلك السنة. وقد جاء في كلمته: "والله يا أبو عمار، لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بأقلامنا". وكان سميح القاسم يريد أن يُظهر مدى علاقته بياسر عرفات ومقدار دالته عليه. لكن بعض الحضور استنكروا هذا الكلام الموجّه الى قائد الثورة. وعلى الفور استدعى ياسر عرفات حارسه محمد الداية وقال له: أعطني مسدسك يا محمد. ثم تقدم من سميح القاسم، وقال له بصوت عالٍ وأمام الجميع: "مش بالقلم وبس... بالمسدس كمان. خذه... خذ هذا المسدس واقتلني إذا وجدت فيَّ اعوجاجاً". وقد ارتبك سميح القاسم وعم الذهول القاعة، وهنا عانق أبو عمار سميح القاسم وقبله واغرورقت عينا سميح القاسم بالدموع.
من الشعراء الذين أحبهم ياسر عرفات الشاعر الفلسطيني توفيق زياد صاحب قصيدة "أناديكم" وقصيدة "هنا باقون" وتشاء المصادفات أن يموت شاعر "الرجوعيات" بحادثة سير وهو عائد من لقاء ياسر عرفات في أريحا في 5/7/1994. وكان أبو عمار يهتم بأوضاع الشعراء والكتاب العرب الذين عاشوا في كنف الثورة الفلسطينية ويسأل عن أحوالهم ويلتقيهم أحياناً كثيرة، وهو الذي اصدر أمراً يتغطية نفقات علاج الشاعر المصري أمل دنقل(صاحب قصيدة "لا تصالح") الذي عانى السرطان طويلاً، وبتغطية نفقات علاج الكاتب السوداني جيلي عبد الرحمن، فاشترى له جهازاً لغسيل الكلى ووضعه في منزله كي يجنبه عناء الانتقال من المنزل الى المستشفى. وفي احدى الجلسات مع طلال سلمان الذي تباسط معه في الكلام وقال له إنه متهم باليمينية، أجاب أبو عمار: هل ارفض أموال السعوديين بحجة أنهم من اليمين؟ يا أخي أنا أشتري بأموال هؤلاء اليمينيين اسلحة من الصين. فماذا يكون عملي هذا؟ يسارية ام يمينية؟ وفي ذروة الحصار على بيروت في سنة 1982 تسلل وفد من فناني مصر على رأسه الممثلة نادية لطفي الى بيروت، وكان بين اعضاء الوفد الممثلة محسنة توفيق. وفي فندق ريفييرا أُعِدَّ لهم غداء حافل وفي أثناء تناول الطعام الذي كان يحتوي ما لذَ وطاب، نظرت نادية لطفي الى احد اعضاء الوفد المصري وقالت له: "وإحنا إيمتى حيجينا الحصار؟". ووصلت هذه العبارة الى ياسر عرفات فضحك طويلاً.
في سنة 1981، وبعد ملتقى الشقيف الشعري الذي نظمه الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وشارك فيه محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف ومعين بسيسو وأمل دنقل ونزيه أبو عفش وسليمان العيسى وممدوح عدوان وشوقي بزيع واحمد دحبور ومريد البرغوثي وآخرون، احتج شعراء الرصيف لعدم اشراكهم في هذا الملتقى واستبعادهم عنه، ورفعوا شكواهم الى ياسر عرفات الذي طلب من الأخ يحيى يخلف الذي كان انتخب رئيساً للاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، اقامة أمسية شعرية لهؤلاء الشعراء في احدى قاعات جامعة بيروت العربية. وقد حضر ابو عمار هذه الامسية التي شارك فيها عدد من شعراء الرصيف أمثال الشاعر الشهيد علي فودة ورسمي أبو علي، وكان ياسر عرفات يضحك ويصفق لبعض القصائد. وعندما قرأ احد الشعراء قصيدة عن رأسه المحشو بالفاليوم، وكيف أنه "زهق" من هذا الرأس فخلعه ووضعه على الطاولة، صفق ابو عمار ضاحكاً وقال له: أعِدِْ ... أعِدْ. وكان ابو عمار يريد من حضوره هذه الامسية ان يؤكد لشعراء الرصيف اعترافه بظاهرتهم وتمردهم ونقديتهم.
هذا هو ياسر عرفات بأحواله المتعددة في السياسة والثقافة والاعلام. وهذه المحطات هنا انما هي قبسات من تاريخه الثري الذي لا يكف عن التجدد فينا في كل يوم. وما نرويه دائماً في ذاكرة إنما يبرهن ان أبو عمار ما زال حياً في خلايانا، وهو منسوخ بجلدنا كالوشم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها