خذوا نصف ذيل

في السياسة يعدّون الرؤوس والاصابع والاصوات في صناديق الاقتراع فقط. بعد يوم من مظاهرة حركة حيروت العاصفة أمام مبنى الكنيست اعتراضا على المدفوعات من المانيا، لم يكن يهم أحدا ماذا كان هناك ومن كان هناك. فقد تدفقت المدفوعات من المانيا. ومن يتذكر المظاهرات الدامية على أثر أحداث وادي الصليب في حيفا؟ وبعد يوم من التصويت في الكنيست على دخول اتفاق اوسلو حيز التنفيذ، انطلق الاتفاق في طريقه وجلس رجال شرطة فلسطينيون في نفس سيارة الجيب مع جنود الجيش الاسرائيلي وخرجوا لمهام دوريات مشتركة (الى أن تشوشت الامور).

يرى بنيامين نتنياهو ورفاقه المناظر ويسمعون الاصوات ويقولون لأنفسهم وبينهم: أهؤلاء؟ هؤلاء لم يصوتوا قط من أجلي ومن اجلنا، ولن يعطونا ايضا اصواتهم في المستقبل في صناديق الاقتراع. إن النواة الصلبة من مصوتي الليكود ستصوت لليكود حتى لو بحثت عن كسرة خبز في حاويات القمامة، وحتى لو وعد الليكود قبيل الانتخابات بتقسيم حائط المبكى، لا بين الرجال والنساء بل بين اليهود والمسلمين. فمن الحقائق أن استطلاعات الرأي تشير الى هبوط الرضى عن رئيس الحكومة، لكن الليكود (أما يزال؟) يحافظ على قوته. وبيبي ورفاقه يحيون على استطلاعات الرأي.

أين اذا يخطيء بيبي ورفاقه، أو أنهم يقرأون الخريطة السياسية الداخلية قراءة صحيحة؟ انهم يعلمون باعتبارهم ذوي تجربة سياسية أن الفرق بين كتلة اليمين وكتلة اليسار يراوح في العهد الاخير حول عشرة نواب في الكنيست. وبعبارة اخرى تكفي اليوم أكثرية من خمسة نواب أو ستة لنقل السلطة والحكومة من جانب الى الجانب الثاني. وبعبارة اخرى نقول ان 200 ألف أو 300 ألف شخص (وأقل) سيرجحون الكفة وسيدعون ذلك الشخص من شركة النقل المقدسية لنقل الشقة مرة اخرى.

لكن نتنياهو ورفاقه ايضا يعلمون ويفهمون جيدا أن: أ. كثيرين من مئات آلاف المحتجين لم يصوتوا في الانتخابات السابقة إما بسبب السن وإما بسبب عدم الاكتراث و ب. أن الصخب الذي يغشى في هذه الايام دولة اسرائيل يمس ويمس ضاحية مصوتي الليكود التقليديين. إن نتنياهو يرى الاحتجاجات في بئر السبع واوفكيم وبات يام مثلا خطرة على مستقبله السياسي بقدر لا يقل عن المستوطنات في جادتي روتشيلد ونورداو. واذا أثر "الفهود البيض" في جادة روتشيلد وأقنعوا سكان كريات ملاخي وشلومي وأور عكيفا بأن وضعهم سيء وأنه سيكون اسوأ كما يبدو، فان أمره سيفسد عليه. لن يصوتوا في الضواحي للاحزاب اليسارية في الحقيقة لكنهم قد يصوتون "لشيء ما في الوسط" أو المركز. والسؤال الآن من سيتبوأ هذا المركز؟.

آريه درعي مثلا؟ سيقرر قراره في ليل نتائج الانتخابات فقط، فاذا كان عنده عدد من النواب يُمكّنه من "اجتياز الخطوط"، فلن يتردد درعي لحظة: فسيظهر مثل "الموحد الكبير للشعب"، ويدعو الكتلتين الى حكومة وحدة، وسيُدبر امورها في واقع الامر ايضا اذا تولى وزارة حماية البيئة أو أصبح نائب وزير المتقاعدين. وتوجد بطبيعة الامر امكانات سياسية اخرى ما زالت تنتظر طلقة البدء، فلن نبحثها الآن.

ليس نتنياهو محتاجا الى هذه المقالة وغيرها ليعرف الوضع السياسي الداخلي. فهو يدرك الاخطار التي تترصده من قبل المحتجين في الخيام والمظاهرات. غير أن نتنياهو بخلاف رأي كثيرين هو سياسي عقائدي. وهو مؤمن كبير، حقا وعلى نحو صادق، بطريقه السياسي (الداخلي والخارجي) وبطريقه الاقتصادي. وقد تمدح حتى الآن في كل زاوية شارع بنجاحاته في طريقه الاقتصادي. والاقتصاد الحر هو منارته وهو جميع خلايا دماغه، فكل أيامه واعماله لامست هذه المنطقة. فماذا سيفعل وكيف سيخرج من الازمة الحالية؟.

إن "نتنياهو"، يقول عارف كبير بالسياسة الداخلية الاسرائيلية هو حاييم رامون "مثل عظاءة أو مثل حرباء". وأراد أن يقول ما الذي تتركه العظاءة ساعة الخطر على حياتها؟ نصف ذيلها في يد مطاردها، والحرباء تغير لونها اذا واجهت الخطر وهكذا يفعل رئيس الحكومة. فاذا حدثت ازمة سياسية خطب خطبة بار ايلان لارضاء من يترصدون بحياته السياسية. وماذا يفعل اذا نشبت ازمة اجتماعية؟ "يطرح عظما" وينشيء لجنة بل يوقف اصلاحه الاقتصادي ويستغل بكلامه الازمة الاقتصادية العالمية وينتظر المرة التالية: قد تكون ازمة اقتصادية اخرى أو خطة سياسية جديدة. وحتى ايلول "الله عظيم".

 

 

 

 

 

الاحتجاج والدولة المجاورة

          (المضمون: يدعو الكاتب الى توجيه الغضب الشعبي على مؤسسة الجيش الاسرائيلي التي تملك أكبر ميزانية في الدولة وهي الميزانية التي تكبر على الدوام وإلا فانه لن يمكن الحديث عن ثورة اجتماعية حقيقية).

سُجل توتر طفيف في الاسابيع الاخيرة بعلاقاتنا بالدولة المجاورة، لكن العلاقات ما تزال ممتازة، وشكرا لكم أن سألتم. ربما يشعر قادتها الآن بضربة طفيفة في جناحهم لكن لا أكثر.

إن دولة الجيش الاسرائيلي تحيا منذ أُسست في جوار ممتاز مع دولة اسرائيل. فالحدود بين الدولتين معترف بها وقابلة للدفاع عنها، وسفراء الدولة الاخرى يشغلون مناصبهم بنجاح داخل دولة اسرائيل، فيضغطون ويُنقرون، وكما يحسن في العلاقات بين قوة اقليمية ومن تخضع لها، تجري الحياة في القوة الاقليمية بلا تشويش. وحتى عندما احتشد مع خروج السبت الماضي مئات الآلاف على حدود الجارة لم تُسجل أية أحداث حدودية. فالمتظاهرون طوقوا أسوار عاصمتها، الكرياه، لكنهم لم يتجهوا اليها. وقد رأوا الأبراج الفخمة وعلموا انه تجري عليها قوانين تختلف عن تلك التي في دولتهم، على حسابهم، لكن لا أحد منهم وجه غضبه أو أزمته نحو عاصمة الدولة المجاورة التي سيأتي خلاصهم منها فقط.

صحيح انه بين الفينة والاخرى يتجرأ شخص ما على أن يقرقر بشيء ما عن ميزانية الامن التي لا أمل من غير اقتطاع حقيقي منها في حل مشكلات اسرائيل الاجتماعية، لكن اتكلوا على قادة القوة المجاورة وأنهم يعرفون نفس جارتهم وأنهم خُولوا بعلاج أصوات شاذة كهذه. سيكون نشر عدد من التهديدات والتخويفات، وزيادة التوتر الامني وتصريحات عن عدد من النيات الخيرة – ومن يعلم فربما حتى يُخلون باعتبار ذلك تفضلا خاصا، مناطق محتلة داخل دولة اسرائيل ليعود كل شيء الى رتابته. وسيقررون بأنفسهم بالطبع اخلاء المناطق، أي قواعد الجيش الاسرائيلي في مناطق آهلة ومنها قواعد مهجورة، دون تدخل اجنبي من حكومة اسرائيل لان الحال كذلك في قوة كبيرة.

صحيح أن ممثلي الدولة المجاورة قد بقوا في المدة الاخيرة بلا عمل تقريبا. ان الجنرالات (في الخدمة الاحتياطية) غيورا آيلند ويعقوب عميدرور واسحق بن اسرائيل وأشباههم غائبون على نحو شاذ عن ستوديوهات التلفاز منذ عدة اسابيع. وعُطل عمل المحللين العسكريين مؤقتا ايضا. وخُزنت المعاطف الجلدية وسكتت الاصوات الجشّاء، بل انه يوجد من يتنبؤون بأن برنامج عمل اسرائيل يوشك أن يتغير وأن دين الامن سيخلي مكانه لانشغال علماني بالمجتمع، لكن ايلول العقيم على الباب وسيعودون معه.

في اثناء ذلك ينشغل قادة القوة المجاورة بالحرب التالية، وهذا عمل يمتازون به: فهم يطلبون زيادة ميزانية الامن التي كانت الكبرى هذا العام في تاريخ الدولة. فلا تكفي 54 مليار شاقل نمت لتصبح 65 مليارا بل يحتاج الى اكثر – ولتنتظر الثورة أو تنفجر. فلماذا يحتاج الى أكثر؟ لأن قادة القوة العظمى يرددون (ويخلقون ايضا) التهديدات. والامور الملحة هذا العام هي: "تحديات جديدة"، وهذا شيء يقولونه دائما وايضا: "الاخطار التي نشأت مع التغييرات الاقليمية". فالشعب المصري يناضل عن حريته ومثله ايضا الشعب السوري، والفلسطينيون متجهون الى اجراء سياسي يشمل العالم بعد أن تخلوا عن الارهاب. وهذا يترجم عندهم فورا الى اخطار جديدة، وبلغة دولتهم الى طلب ميزانية اخرى.

ليس لسكان جارتنا القوية مشكلات رفاهة، وهم لم يسمعوا عن مشكلات اجتماعية. إن نحوا من ثلثي ميزانيتها يمضي الى دفع الرواتب وهي غير منخفضة ألبتة، ولديها ايضا تشريع اجتماعي من الاكثر تقدما في العالم وهو: التقاعد مع ملك كبير في اربعينيات حياة عمالها، وهو شيء يمكن أن يُحلَم به فقط في اسرائيل المجاورة. وهناك مشتريات ضخمة وتسلح ضخم بلا تقييد تقريبا، من صالون جوي الى صالون آخر، ومن طائرات الغد وغوصات ما بعد غد، عندما يحتاج اليها وعندما لا يحتاج اليها ايضا. والاعدادات لانقضاض على قافلة بحرية ساذجة وغبية الى غزة مثلا تمتد شهورا وتكلف ملايين. والضجيج الذي يتصاعد الآن ايضا من الدولة المجاورة، وازمة السكن وصعوبات جهاز الصحة ومظاهرات الاحتجاج وسكان الخيام لا تدخل من خلال النوافذ المغلقة للقوة الاقليمية، فكل شيء عندها على ما يرام.

اسرائيل محتاجة الى جيش بل الى جيش كبير وقوي، لكن لا الى جيش شره بلا حدود. في اليوم الذي يوجه فيه الاحتجاج فقط نحو الكرياه ايضا، وفي اليوم الذي تصبح فيه دولة الجيش الاسرائيلي جزءا غير مستقل عن دولة اسرائيل فقط، سنعلم انه قد حدثت هنا حقا ثورة اجتماعية حقيقية. وحتى ذلك الحين دعوا الجيش الاسرائيلي ينتصر.

 

 

خفة الثورات

          (المضمون: سادتي الثوار، يمكنكم ان تخرجوا الاشتراكية من القبر وان تتلقوا كل مطالبكم، بما في ذلك ربما الافلاس. لماذا تطالبون رئيس الوزراء أن يقوم بفعل ما لا يؤمن به؟ غيروه بالانتخابات اذا كانت الاغلبية معكم، هذا بسيط جدا بهذا القدر).

ممتع أن يكون المرء ثوريا. ليس للثوري غد، يمكنه أن يتقلب كما يشاء، يطلق الى الفضاء كل شعار يريد، يرفع المطالب التي يشاء. الثوري لا يراعي شيئا، لا يراعي احدا. فهو لا يتقيد بشيء. هو مفعم بذاته، يعلو سحابة الكلام الحماسي. ليس واضحا، باختصار، كيف جر رئيس الوزراء وراء الثوريين بالصدفة التي تنشئهم البلاد في الاسابيع الاخيرة.

ليس واضحا لماذا بدلا من الاعلان بانه يشكل فريق تفكير (ماذا يعني هذا، انه من قبل لم يكن تفكير، ولم يفكروا فوق بذلك من قبل؟) يظهر في التلفزيون في خطاب للامة ويقول: "عندي طريق، اقتصادنا هو على صورتي وعلى شكلي، وأنا أومن بانه بفضل ذلك تجد اقتصادنا ينجح في أن يشق طريقه جيدا في المياه العاصفة للاقتصاد العالمي. الاقتصاد الاسرائيلي مستقر، لا توجد بطالة جماهيرية. انظروا الى اوروبا، الى ايرلندا والى فينلندا، الى اليونان والى اسبانيا، لتروا كم يمكن للامر أن يكون اسوأ. اذا كان هذا لا يعجبكم فستكون انتخابات بعد سنة ونصف، وعندها تستبدلونني بشيلي يحيموفتش أو بدوف حنين، بميرتس أو بركاح، اللتين ايديولوجيتهما تتطابقان تماما مع افكاركم. حتى اشعار آخر يتم التغيير هنا للنظام بالانتخابات، هذه هي الديمقراطية التي تلوحون بها كل الوقت. انعدام صبركم، والنزول الى الشارع، ليس ديمقراطية بل مناهضة الديمقراطية. من خلال الشارع تريدون ان تتجاوزوا ارادة الاغلبية. بقوة الشارع، بمعونة فنانين ومغنين، تخلقون كرنفالا وليس ديمقراطية".

بل وكنت سأقول لو كنت رئيس الوزراء: "الحقيقة هي انه حتى الشارع لا يتحدث بصوتكم. من يملي عليكم الشعارات هم أصحاب مصالح سياسية صرفة، من العمل، من ميرتس ومن ركاح، تحت غطاء اطفال الورود. كل ما يريدونه هو اسقاط الحكومة بوسائل غير سياسية وذلك لان السياسة لم تضىء لهم وجهها. كل الثورات بدأت من هذه النقطة، من احباط أقلية تتطلع الى الحكم".

كنت سأقول هذا لو كنت مكان رئيس الوزراء، وهي لا تتناقض وحقيقة أني مع تغيير حكومته (أي حكومة تحل محلها هي مسألة اخرى. التغيير المطلوب هو في مفاهيمنا الاساسية التي تتعلق بالضرورة بالحساب الاقتصادي). ولكني مع تغيير الحكومة في الانتخابات وليس في الشارع. انا مع تغييرها للمبررات السليمة وليس للمبررات غير السليمة. انا مع تغييره من خلال امور واضحة في طبيعتها وليس بوسائل ترفيهية فنية ومغنين مهما كانوا غاضبين.

الواقع الذي تريد ان تغيره ثورتنا الرقيقة، الثورة الفرحة التي تتخذ صورة الثورة الغاضبة أو العكس، احتجاج الزبدة هذه – يمثل سلم الاولويات للنظام الحالي، الذي انتخب في انتخابات ديمقراطية. هذا الواقع يمثل مذهبا تهكميا بنظري في كل المجالات؛ ولكن اذا كنا نريد حقا تغييره وتغييره سلم اولوياته، فلا سبيل ديمقراطي آخر غير التوجه الى الانتخابات.

إذن، سادتي الثوار، يمكنكم ان تخرجوا الاشتراكية من القبر وان تتلقوا كل مطالبكم، بما في ذلك ربما الافلاس. لماذا تطالبون رئيس الوزراء أن يقوم بفعل ما لا يؤمن به؟ غيروه بالانتخابات اذا كانت الاغلبية معكم، هذا بسيط جدا بهذا القدر.

 

 

الكلمة التي لا يجوز قولها

          (المضمون: لا تُذكر كلمة احتلال في خيام الاحتجاج خشية الشقاق والانقسام بين المحتجين، والشقاق والتقسيم تكتيك يستعمله نتنياهو منذ ولايته الاولى للبقاء في السلطة، ومصطلح الاحتلال يخدم التقسيم والشقاق والبقاء في السلطة ايضا).

لماذا يمنع الاحتجاج استعمال كلمة "احتلال"؟ لانه اذا قيلت هذه الكلمة فسيقل عدد الناس المحتجين على نحو حاد ولانه سينشأ عدم اجماع عميق وانشقاق مدمر على أثره. والانشقاق سيجعل الاحتجاج "سياسيا" بالمعنى الحزبي وتتلاشى قوته الشعبية.

لهذا يجب أن نسأل ما هو عمل الاحتلال الآخر زيادة على كونه "ضرورة امنية" أو "تحقيقا عقائديا". يبدو انه يمكن بحسب "لا" استنتاج "نعم": فاذا كان لا يجوز ان نقول "احتلال" كي لا نقسم الجمهور ونضر بالاحتجاج بذلك – فينتج أن عمل الاحتلال أن يُقسم الجمهور وأن يضر بذلك بامكانية الاحتجاج.

إن الاحتلال هو الصورة التي يمكن التقسيم والشقاق بها أن يحشدا ويحافظا على قوة سلطوية. والآلية التي ينقسم بها الجمهور قسمين في اللحظة التي يذكر فيها المصطلح تُمكّن من يرأس واحدا من الجزئين المنقسمين من ضمان قوته بسهولة نسبية. وبعد أن يحظى قسم ما بامكانية تشكيل حكومة يجمع عددا من الاوساط ذات المصالح الضيقة ويصبح رئيس حكومة.

الاحتلال ناجع في هذه المرحلة ايضا لانه يُمكّن السلطة المركزية من أن تعمل ما شاءت بكل ما ليس متصلا بالاحتلال: فكل احتجاج على شؤون اقتصادية – اجتماعية قد يصبح احتجاجا شعبيا كالاحتجاج الحالي، يهدد بالانشقاق والتلاشي إزاء كلمة لا يجوز قولها.

إن الشحنة العاطفية الثنائية القطب العميقة الكامنة في الاحتلال جعلته من الواجبات الانتخابية. وإن حقيقة أنه بواسطة لباس عقائدي ملائم وتزيين يستغل الكتاب المقدس على نحو دقيق ينشأ ايضا امكان أن يوهب له رائحة تاريخية – مبدئية، تجعل الاحتلال كنزا سلطويا ينبغي عدم التخلي عنه ولا حتى مقابل تحسين وضع الناس الذين يعانون تحته. نشأ تضارب مصالح راسخ بين ارادة السلطة تأبيده وبين الحاجة الانسانية الى الغائه.

ليس عرضا انه توجد داخل الاحتلال الخطوط الهيكلية للرأسمالية المتطرفة التي في أساسها شقاق دائم بين الناس من اجل المنافسة التي تضمن للمواطن بقاءا شخصيا عوض كونه مرعيا مستخذيا. إن من يتجول في الضفة وغور الاردن يستطيع ان يلاحظ الصورة الجغرافية للرأسمالية حيث يوجد التقسيم الى محابس، وكثرة الحواجز وبيروقراطية الحركة – وكلها عناصر فصل مهمتها أن تُصعب البقاء للتمكين من سيطرة مركزية.

إن "السوق الحرة" ايضا وهي واحدة من الموضوعات المركزية للاحتجاج تلائم فكرة الشقاق والتقسيم. فالى جانب الاضطراب الذي يجسده مصطلح "السوق" تتضح ايضا المفارقة الساخرة في مصطلح "حرة": فالعامل يضطر الى منافسة رفاقه في كل لحظة، في حين يدرك أن نصر الواحد هو هزيمة الآخر. فهل يمكن أن نسمي باسم "حرة" مباديء تؤيد شقاقا دائما بين البشر من اجل البقاء؟.

أُمسك بنيامين نتنياهو في ولايته الاولى بعدد من الاقوال كشفت عن ميله المرضي الى التفريق بين أجزاء الشعب لتحقيق السيطرة مثل: "اليساريون نسوا ما معنى أن تكون يهوديا"، و"هم يخافون" وما أشبه. ومنذ ذلك الحين تعلم درسا مكيافيليا مهما وهو إفعل ما تعتقد وقل ما يريدون سماعه. ولهذا فان ولايته الحالية أشد تدميرا بكثير لأنه أحل محل الشقاق والتفريق اللغويين اللذين همس بهما على مسامع الحاخام كدوري، الشقاق والتفريق العمليين اللذين يتم تحقيقهما بمساعدة اشخاص مثل دافيد روتم وزئيف ألكن.

ان الاحتجاج في روتشيلد هو على العزلة التي تشتق من الشقاق والتقسيم في المجتمع الاسرائيلي. ولا يُذكر الاحتلال الذي هو رمز الشقاق والتقسيم في الخيام لانه يهدد باخفائها. ان هذه المفارقة المتواصلة هي ضمان للاحتضار.

 

لندن ورام الله

          (المضمون: هل يمكن للشرطة الاسرائيلية والجيش الاسرائيلي ان يحتويا احداث شغب في المناطق الفلسطينية في ايلول القريب كما فعلت الشرطة البريطانية؟).

في معجم الجيش الاسرائيلي الذي يتطور على الدوام بازاء كل تحدٍ امني جديد، أصبح فعل "يحتوي" كلمة مفتاحية. هذا هو الطموح الاعلى لقادة الجيش وجهاز الامن في الاستعداد لايلول الفظيع، أعني احتواء الاحداث. لم يعودوا يسعون الى تماسٍ بل ولا الى نصر، فالنجاح سيعبر عن نفسه بقدرة الجيش والشرطة على منع الاحداث من الانتشار والتصعيد والاهتمام بأن تنتهي بأقل قدر من المصابين في الجانب الثاني ايضا.

في أحاديث ومقابلات صحفية مع ضباط شرطة كبار في لندن، وبين أيديها أحداث الاسبوع الماضي – أرادوا احراز "احتواء" بأي ثمن. وأرادوا سد طريق جماعات الشباب التي تسعى الى التدمير والسلب، وصدها بعيدا عن مراكز الشراء وشرايين النقل العام المركزية، واستنزافها حتى نقطة تفضل فيها العودة الى البيوت، والأساس أن يتم ذلك بلا مصابين.

سيوجد بيقين من تغضبهم المقارنة بين ايام الغضب في لندن وهي في جوهرها جنائية، وبين احداث ايلول المرتقبة بشتى آثارها الامنية والسياسية والاقليمية. لكن العناصر متشابهة جدا في مستوى العمليات الميدانية. فمع عدم وجود حدث سياسي واضح، لا تختلف فرقة يهودا والسامرة التابعة للجيش الاسرائيلي كثيرا عن مقر قيادة سكوتلاند يارد التي تتولى قيادة ضباط "مات"، وهي شرطة المدينة الكبرى. فكلاهما ينفذ اعمال شرطة بين سكان مدنيين مركبين.

العناصر المطلوبة ايضا لنجاح العمليات متشابهة وهي المعلومات الاستخبارية والتخطيط مسبقا. فالتعرف قبل الأوان لمراكز الاحتكاك المحتملة ونقل كثيف لقوات وامدادات، مزودة بالوسائل الملائمة لتفريق المظاهرات، تمنع اشتعالا لا حاجة اليه وتصعيدا. وقد فشل الجيش الاسرائيلي بذلك في 1987 حين نشوب الانتفاضة الاولى، وفي مفترق نتساريم مع بدء الانتفاضة الثانية، وفي السيطرة على "مرمرة" وفي مجدل شمس في ذكرى النكبة الاخيرة، وفشلت شرطة بريطانيا بذلك في الاسبوع الماضي حينما لم تتوقع ان يفضي موت تاجر مخدرات خلال عملية اعتقال تعقدت الى احداث شغب جماعية ولم تهييء القوات المطلوبة.

والنجاحات متشابهة ايضا كالاخفاقات. فالاستعداد قبل وقت لقيادة المركز في يوم النكبة منع احداثا شاذة كانت تستطيع ان تشعل شرارة الانتفاضة الثالثة، وهذا ما حديث ايضا في لندن في الاسبوع الماضي. فقد نقلت الشرطة في الوقت مئات رجال الشرطة المسلحين بالهراوات ومعدات وقائية الى تلك المراكز التي كان لديها معلومات سابقة عنها تتعلق باحتشاد عصابات. ومنذ يوم الثلاثاء فما تلاه حينما أغرقت شوارع العاصمة بقواتها بفضل امدادات من سائر المملكة كما فعل الجيش الاسرائيلي بالضبط في يهودا والسامرة في يوم النكبة. وكما وقع آنذاك بالضبط، حينما حُفظ الهدوء في المركز جاءت المفاجأة من الشمال ولقيت الاحداث في مانشستر الشرطة هناك غير مستعدة.

والمعضلات متشابهة جدا ايضا. ان منظمة كبيرة يجب عليها الحفاظ على الامن الجاري في كل مكان وعلى أهلية القوة البشرية، لا تستطيع ان تحتفظ زمنا طويلا بآلاف الناس في جميع القطاعات المحتملة، على استعداد عال حتى لو افترضنا انه يمكن ان نتنبأ سلفا بالمكان الذي سينشأ فيه السوء. فماذا نفعل؟ هل نلغي التدريبات والعطل؟ هل نجند قوات الاحتياط؟ هل نتكل على قيادة محلية تعد بالحفاظ على الهدوء؟ وفي أي نقطة يمكن أن نقرر أن التوتر قد خفت وانه يمكن وقف الاستعداد؟.

وتوجد بطبيعة الامر معضلة الوسائل. وهنا تنتهي المقارنة بين لندن، الباردة حتى ايام آب، وايلول الساخن جدا في الشرق الاوسط. فقد استعمل البريطانيون الهراوات استعمالا محدودا جدا، وبقيت كلاب الهجوم التي تجولت معهم في الشوارع بمثابة تهديد فقط. ولم تستغل موافقة مبدئية على استعمال الرصاص المطاطي ومدافع الماء. وفي نهاية الامر آتى ضبط النفس أُكله. وقوة نيران الجيش الاسرائيلي والفلسطينيين في المقابل معروفة للجميع. ومقدار ضبط الطرفين لانفسهما هو المجهول الاكبر.

 

ينبغي الاتفاق مع الامريكيين استعدادا لايلول

          (المضمون: القيادة الفلسطينية الحالية لم تصل مع اسرائيل الى أي تسوية لتشددها وتطرفها كما بيّن ذلك من قبل مؤتمر كامب ديفيد 2000، لكن التفاهمات بين الولايات المتحدة واسرائيل في شأن التفاوض بين اسرائيل والفلسطينيين مهمة في حد ذاتها لأن السنين القادمة خطرة وحرجة بالنسبة لاسرائيل).

لا يوجد أي جديد في حقيقة ان السبيل الوحيدة للتوصل الى اتفاق مع الولايات المتحدة على صيغة سياسية مشتركة باعتبارها أساسا لتجديد التفاوض مع الفلسطينيين ومنع اعلان من طرف واحد هي تناول الخطبتين اللتين خطبهما الرئيس اوباما في أيار، تلك التي في البيت الابيض والاخرى أمام مؤتمر جماعة الضغط الموالية لاسرائيل الـ "ايباك". تحدث الرئيس في الخطبة الاولى كما تذكرون عن خطوط 1967 مع "تبادل اراض متفق عليه" باعتباره نقطة الانطلاق. وفي الخطبة الثانية وعلى أثر موقف رئيس الحكومة الحازم، جرى تغيير الصيغة فكانت الجملة الابتدائية هي أن تجري اسرائيل والفلسطينيون تفاوضا في حدود تختلف عن الحدود التي كانت في الرابع من حزيران 1967 (لم يدقق اوباما بأنه لم تكن توجد آنذاك حدود بل خط هدنة مؤقت). فـ "تغير" هو كلمة السر. والى ذلك ذكر مثل الرئيس بوش قبله التغييرات السكانية التي حدثت منذ 1967 والحاجة الى حدود آمنة بحسب القرار 242 عن مجلس الامن وهو القرار الذي يحاول العرب تحريفه وكأنه ألزم اسرائيل أن تنسحب من المناطق كلها.

إن الاتصالات التي جرت في الاسابيع الاخيرة بين ممثلي اسرائيل ومحادثيهم الامريكيين انحصرت في سؤال كيف يرتبون من جديد أحجار النرد المختلفة في الصيغة، زيادة على عدة موضوعات مهمة اخرى تتعلق بكون اسرائيل دولة الشعب اليهودي وما أشبه.

نشر في الآونة الاخيرة جزء من اليوميات الشخصية لدان مريدور من مؤتمر كامب ديفيد البائس ذاك في سنة 2000 والذي عقد بمبادرة من رئيس الحكومة آنذاك اهود باراك. وهو مؤتمر من المهم ان نذكره لانهم حاولوا فيه الاتفاق وفشلوا. وقد شهدت يوميات مريدور بأوضح صورة على تطرف الاشخاص الفلسطينيين المختلفين الذين شاركوا في المؤتمر. وهم الاشخاص أنفسهم الذين يديرون الجهاز الفلسطيني الآن ايضا، فهناك أبو مازن نفسه، وعريقات نفسه، وعبد ربه نفسه. وتصريحاتهم آنذاك كما هي الآن تبرهن بغير أدنى شك على رفضهم الاشد عنادا وأساسية، والمركوز عميقا في وعيهم، الاعتراف بحقوق الشعب اليهودي في ارض اسرائيل، وعلاقاته التاريخية والروحانية والحقائقية بالقدس عامة وجبل الهيكل خاصة. وقد برزت على نحو خاص تصريحات في شأن "اللاجئين". فهم لم يتحدثوا عن عودة آلاف قليلين، بل عن مئات الآلاف وعن "ملايين" بحسب كلام أحد الممثلين الفلسطينيين. والهدف واضح هو الافضاء الى القضاء على دولة اسرائيل. فاذا أردنا الحكم بحسب الخطب التي سمعت هذا العام في يوم النكبة وفرص اخرى، فانه لم يحدث منذ ذلك الحين تغيير ما في الجانب الفلسطيني. وعلى ذلك فلن تفضي أية صيغة ولا حتى تلك التي اتفقت عليها اسرائيل والولايات المتحدة في ظاهر الامر، لن تفضي بالفلسطينيين الى تفاوض حقيقي في السلام.

ومع كل ذلك فان التفاهمات التي أُحرزت مع الامريكيين مهمة، لا لأن الامر يشير فقط (وإن لم يكن ذلك بصراحة) الى ان الادارة تقبل التوجه الذي كان في أساس "رسالة بوش" المتعلقة بالحدود المستقبلية والكتل الاستيطانية، بل لان الامر قد يزيد احتمالات التعاون السياسي والامني بين الولايات المتحدة واسرائيل في السنين القريبة ولا سيما في السنة ونصف السنة القادمين. وهي فترة حرجة بسبب المبادرات العربية في الامم المتحدة وبسبب ايران وبسبب ما يجري في الشرق الاوسط وبسبب صورة الوضع السياسي في الولايات المتحدة حتى تاريخ تشرين الثاني 2012 وربما بعده.

 

 

ايلول (2): ماذا يعرفون في الدول العربية

          (المضمون: تضرب الامم المتحدة على قيثار القضية الفلسطينية في حين يحترق الشرق الاوسط. والقادة العرب ليس لديهم أدنى اهتمام بالقضية الفلسطينية كما تبين وعودهم التي لا يصحبها عمل وانفاذ).

كان القيصر الروماني نيرون يضرب على القيثار عندما احترقت روما. وفي ايامنا يبدو أن الجمعية العامة للامم المتحدة تضرب على القيثار الفلسطيني والشرق الاوسط يحترق. وبخلاف الفهم المقبول فان الشأن الفلسطيني ليس في ترتيب افضليات الشرق الاوسط.

إن سلطة زعماء دول النفط في الخليج الفارسي على خطر قاتل وواضح ومباشر مكون من ايران ذرية ومن "شارع عربي" يهدد بتنحيتهم، ومن بركان عراقي قد ينفجر – مع استكمال اجلاء القوات الامريكية – واغراق نظم حكم موالية للغرب من عُمان الى الاردن. إن قاعدة القوة البدوية للأسرة المالكة الهاشمية تتضعضع على أثر موجة احتجاج بين قبائل ترى الهاشميين مهاجرين من شبه الجزيرة العربية، والاخوان المسلمون يحشدون القوة وقد استضافوا في القاهرة مؤتمرا عربيا معاديا للغرب ومعاديا لاسرائيل. وتتحول تركيا بالتدريج لتصبح محورا مركزيا في العالم الاسلامي وتبتعد عن الغرب؛ وتخشى الأسرة المالكة في المغرب نسخة محلية من الزعزعات في تونس ومصر وليبيا؛ والارهاب الاسلامي يوسع التأثير؛ وروسيا والصين وكوريا الشمالية تعمق تغلغلها في الشرق الاوسط وصورة ردع الولايات المتحدة في الحضيض.

لكن حين يحترق الشرق الاوسط – دونما صلة بالشأن الفلسطيني – فان صاغة السياسة الخارجية في الامم المتحدة وفي الغرب يضربون على القيثار الفلسطيني. وهم على ثقة بأن القضية الفلسطينية هي جذر زعزعات الشرق الاوسط وبؤبؤ عين القادة العرب وكأن حل القضية – بانسحاب اسرائيلي – سيعيد المنطقة والارهاب الاسلامي الى الاعتدال ويصالح العرب ويُسهل انشاء تحالف معادٍ لايران.

إن فروضهم تتحطم على نحو منهجي على صخور واقع الشرق الاوسط الذي يلقي ضوءا على جذر زعزعات المنطقة وهو: الشقاق القبلي – العرقي – الديني، والعنف والتقلب، وعدم اليقين والارهاب والتربية على الكراهية وعرضية نظم الحكم والسياسة والاتفاقات والأحلاف. لا توجد صلة بين عوامل عدم الاستقرار هذه وبين القضية الفلسطينية.

لا يرى قادة العرب الشأن الفلسطيني هدفا يريدون تقديمه بل أداة في صراعات عربية داخلية ووسيلة للتنديد باسرائيل. ولهذا يغرق القادة العرب الفلسطينيين بكلام كثير لا بموارد. فعلى سبيل المثال وُعدت السلطة بـ 500 مليون دولار في القمة العربية في تشرين الاول 2010 ولم يُحقق منها سوى 7 في المائة. ووعد بملياري دولار في سني الانتفاضتين الاولى والثانية لكن أقل من 500 مليون دولار بلغت هدفها. والدول العربية على العموم لم تؤيد الفلسطينيين تأييدا فعالا في حربهم لاسرائيل في لبنان في 1982 ولا زمن عملية "السور الواقي" في يهودا والسامرة و"الرصاص المصبوب" في غزة، وهذا الامر يميز نظر الدول العربية الى الشأن الفلسطيني منذ 1948 دونما صلة بهوية الزعيم الفلسطيني: الحسيني أو احمد الشقيري أو عرفات أو أبو مازن أو هنية.

إن البساط الاحمر الذي يستقبل القيادة الفلسطينية في الامم المتحدة وفي عواصم الغرب وفي القدس يصبح تسويفا وثيرا مع وصولهم العواصم العربية. ويُسأل سؤال: ماذا يعرف قادة العرب عن الشأن الفلسطيني ولا يفهمه صاغة السياسة في الامم المتحدة وفي الغرب وفي القدس؟!.

 

 

هل نسيتم الفلسطينيين

          (المضمون: اذا واصل هذا الاحتجاج التملص من التصدي للمشكلة الحقيقية – الاحتلال – فانه لن يحقق الفكرة الكبرى التي ينطوي عليها. فهو فقط سيحقق المال الى هنا وقليلا آخر الى هناك. لن يغير اللغة، السياسة، قواعد اللعب وعلى أي حال ايضا لن يغير الواقع).

أنا صحفية مجندة. شاركت في المظاهرة في منتهى السبت الاخير في تل ابيب، هتفت "الشعب يريد العدالة الاجتماعية". هتفت أيضا "هو هاء من جاء؟ دولة الرفاه!" و "ث و ر ة". في واقع الامر لم تكن هذه صرخة. هذه كانت آه خرجت مني وكأنها من بطن انسان بريء اطلق سراحه بعد فترة طويلة من حبس عابث. في هذه المظاهرة لم أكن صحفية. لم أكتب مقالا في الصحيفة، لم ابحث عمن اجري معهم لقاءات صحفية ولم اكن متهكمة ومتشككة. في هذه المظاهرة كنت مواطنة في الدولة، أتصبب عرقا واتفاجأ مع 300 الف آخر مثلي.

هذا الاحتجاج يجرفني. يسيطر على أفكاري. يواسيني. يثير انفعالي. ولكنه مخيف ايضا. فهو يشبه في نظري الفكرة الوليدة، الطاهرة والهشة لعالم عنيف، مغلق الحس، معلب وأسير في لغة عاجزة. ماذا سيكون عليه؟ كيف يمكنه أن يتحول الى رؤيا كبيرة، حساسة وحرة وجميلة؟ كيف سنحافظ عليه كي لا يفقد هذا الدفء وهذا الخير؟ هل يمكن الا يفقد الدفء؟

وعندها، في ظل هذه الجلبة في شارع ليوناردو دي فنشي، لاحظت زوجين شابين. حولهما دارت حركة بشرية لا نهاية لها، تحيط بهما، تتجاوزهما. ولكنهما وقفا في مكانيهما. بلا حراك. كالاشارة الضوئية. المرأة رفعت يدها الى الاعلى وهي ترفع قطعة كرتون. "لن نغفو مرة اخرى"، كان مكتوبا فيها. زوجها عانقها من الخلف، مشرق العينين، وعلى وجهها ابتسامة رقيقة مفعمة بالجمال. كلمات "لن نغفو مرة اخرى" دارت في رأسي المرة تلو الاخرى عندما ركبت الدراجة عائدة الى بيتي. لن نغفو مرة اخرى. حبذا. ولكن لحظة، ممَ استيقظنا في واقع الحال؟

استيقظنا من الاحساس باننا اضعنا أنفسنا. من سنوات عديدة لم نعالج فيها أنفسنا. هجرنا الرغبة في التغيير، في الحديث، في الفعل، ووجدنا أنفسنا احياء – ونجلب الحياة – في دولة لا ترانا. لا نهمها حقا، منشغلة فقط في ظل نفسها. ونحن لم نضع تحد امامها. لم نهز ولم نشكو.

والان نحن نهزها. نخيفها. نجبرها على ان ترانا، ان تلاحظ الازمات، الارادات، ومواقع الجمال لدينا. سيكون هذا صعبا عليها. فهي قوية جدا، منذ عقود عديدة وكلمات التضامن، الصداقة، الحب، المساواة لم تطلق. سيكون صعب علينا ان نعلمها الحديث من جديد. فهذه ستبدو على لسانها متعثرة. ولكن محظور ان نتراخى. محظور ان نتنازل. محظور ان نتعب. محظور ان نتكاسل. محظور ان نيأس. "هذه يحصل مرة في الحياة"، قالت لي صديقة هذا الاسبوع. "هذه فرصة تأتي لمرة واحدة، قد تكون الاخيرة". وهي محقة.

تذكرت مظاهرة اخرى غطيتها قبل عدة اشهر. فقد خرج اليسار الى الشوارع في اعقاب التشريع العنصري والخطاب القومي المتطرف الذي غمر الكنيست: لجان القبول، قانون النكبة، اعلان الولاء، قانون المقاطعة، وغيرها وغيرها. تشريع كله تجاهل الاحتياجات الحقيقية للمواطنين. وعندها جاءت ايضا الاقوال التي قالها افيغدور ليبرمان حين وصف منظمات حقوق الانسان في اسرائيل بانها "مساعدات للارهاب". واليسار خرج من عدم اكتراثه. هذا الاسبوع تذكرت تلك المظاهرة غذ هناك ايضا وقف شاب يحمل يافطة كتب عليها "الاغلبية الصامتة تستيقظ".

غداة المظاهرة اياها نشر مقالي في الصحيفة. وهكذا كتب فيه: "بعد فترة طويلة كانوا فيها (ولا يزالون) في ضنك نفسي شخصي وجمعي عميق بعيدا عن الواقع السياسي الداخلي والخارجي... استيقظ امس اليسار... أمس حاول المتظاهرون أن يفهموا كيف وصلنا الى واقع يعتبر فيه التفكير المنطقي، الجميل والبسيط، الذي يولد فيه البشر متساوين امام الله والقانون، انه يسار منبوذ، مطارد ومتطرف اليوم".

قرأت اليوم تلك الكلمات مرة اخرى. لا ريب ان الصرخة التي تصدر اليوم عن جادة روتشيلد هي من الصرخات العادلة. ولكن كيف يمكنها أن تحدث الثورة في الوعي، التغيير العميق والجذري في سلوك الدولة تجاه مواطنيها وسلوك المواطنين تجاه الدولة؟ كيف سيتغير سلم الاولويات؟ كيف سنعرف كيف نستبطن ونعبر عن التضامن والرأفة والحساسية والعدل، طالما كنا جزءا من دولة محتلة؟

وهذا ليس فقط لان الاحتلال هو ثقب أسود يبتلع كميات لا نهاية لها من اموالنا. بل اساسا لانه طالما كان هناك، فان الدولة ملزمة بان تكون عنيفة، مغلقة الحس وفظة الروح والقلب، لغتها لغة القبضة. ومنتخبو الجمهور فيها يتحدثون بلغة الاحتلال، تحتلهم وتصبح لغتهم الحصرية. وعالم القومية الذي نعيش فيه يصبح عالما ذا نزعة قوة. عالما عدوانيا لنزال الايدي ومن يتراجع أولا. عالما تكون فيه كلمات مثل "العدالة الاجتماعية"، "التوزيع العادل"، "مساواة الفرص" و "الرحمة" تستقبل بالاحتقار وبالنفور. عالما يؤخذ فيه جندي بالقوة من عائلته ودولته، بل ورئيس الوزراء لا يفكر بانه يكفي المبرر الاخلاقي واليهودي لتحريره. إذ في مثل هذا العالم القوي وحده هو الذي يبقى.

هذه القطيعة الوجدانية سممت ايضا كل آبار مجتمعنا. القوة أصبحت الكلمة الوحيدة المفهومة. الرأسمالية، الليبرالية الجديدة، "فقط ليبرمان يفهم العرب"، "رصاص مصبوب"، "سوبر تانكر"، "اعتبارات الامن"، "سور"، "محو"، "سحق"، "سوق حرة"، "خطوط حمراء" – كلمات رديفة لصمت الانسانية.

هناك بدأ هذا. في مكان ما في اثناء احتلال الدولة خرجت عن الطريق وتركتنا – نحن الاغلبية الصامتة. ونحن، في البداية بلا مفر وبعد ذلك انطلاقا من البلادة اصبحنا مواطنين في دولة القوة فيها هي خلاصة كل شيء. فقد طورت الدولة هوسا للقوة والقت بلا حساب بالمقدرات لتطويرها وتعظيمها وزيادتها أكثر فأكثر.

وماذا لكل هذا والعدالة الاجتماعية؟ لا شيء. الاحتلال والقوة هما الجانب المظلم من العدالة. من تتلوى في فمه كلمات مثل "تصفية"، "انتقام"، "محو"، "ترحيل"، "قتل" كالسكاكر المطاطية، لن يعرف كيف ينطق كلمات رحمة، ضمير وعدالة دون أن يشعر بانه داس على عربيد. اذا واصل هذا الاحتجاج التملص من التصدي للمشكلة الحقيقية – الاحتلال – فانه لن يحقق الفكرة الكبرى التي ينطوي عليها. فهو فقط سيحقق المال الى هنا وقليلا آخر الى هناك. لن يغير اللغة، السياسة، قواعد اللعب وعلى أي حال ايضا لن يغير الواقع. نعم، فترة معينة السياسيون سيتحدثون بطريقة مختلفة، ولكن سرعان جدا ما تعود القوة الى الحكم ويعود العالم الى عادته القديمة.

في منتهى السبت الماضي كان في تل أبيب ربع مليون شخص هتفوا: "عدالة اجتماعية". ولكن لا يوجد مجتمع عادل لا توجد فيه عدالة للجميع. اذا لم تكن عدالة تجاه الاخر ايضا، اذا لم تكن امكانية غد عادل، فلن تكون عدالة على الاطلاق. ولتذهب الثورة.