بقلم: رفعت شناعة
افتتاحية مجلة "القدس" العدد 335

سؤالٌ جوهريٌّ لا بدَّ من طرحه على الواقع السياسي الفلسطيني علَّه يكون المفتاح الحقيقي لمجموعة التعقيدات والتهديدات التي باتت تُهدِّد مستقبل العمل الوطني الفلسطيني في ظلِّ احتدام الصراع الإقليمي، وسيادة مبدأ تقاسم المصالح السياسية في المنطقة لاستثمارها في معادلات الصراع الدولي.
قبل الإجابة الصريحة على السؤال المطروح لا بدَّ من تسجيل مجموعة من الحقائق التي لا يستطيع أحد إنكارها، وإن كان البعض يعمل على تقزيمها، وتشويهها، أو التعمية أو التضليل، وفي كل الحالات فإنَّ الشمس لا تُغطَّى بالغربال.
أولاً: إنَّ جوهر الصراع مع الاحتلال الصهيوني يرتكز منذ البداية على الأرض، فالأرض هي الحاضنة للتراث الوطني، وهي المكان الذي عليه يُترجَم البرنامج السياسي، والمعتقدات الايديولوجية، والوقائع السياسية، والتنمية الاقتصادية، وهي نقطة الانطلاق نحو بناء الذات، وإقامة شبكة العلاقات. فالأرض كانت ومازالت محور الصراع. فثيودور هرتزل في العام 1897 وضع الأساس لكيفية إقامة هذا الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وتناغمت بريطانيا مع الحركة الصهيونية باعتماد الوعد الذي أطلقه وزير خارجية بريطانيا بلفور بإعطاء دولة لليهود على أرض فلسطين، وهي الأرض التاريخية التي سكنها الشعب الفلسطيني وأجداده الكنعانيون واليبوسيون منذ خمسة الآف سنة، ثُمَّ جاء قرار التقسيم الظالم لأرض فلسطين، ودعم وجود وإقامة الكيان الصهيوني الذي حمل اسم (دولة إسرائيل) على أرض الشعب الفلسطيني التاريخية، أمَّا الشعب الفلسطيني صاحب الأرض فقد حرَمَهُ المجتمع الدولي من إقامة دولته، ومازال مشرَّداً منكوباً على مرأى ومسمع من الأمة العربية والإسلامية، وهيئة الأمم، وكلِّ جمعيات حقوق الإنسان. وأصبحنا نناضل من أجل الاعتراف بحقوقنا الوطنية، ونستجدي العالم العربي والإسلامي قبل الغربي للسماح لنا بالصلاة في المسجد الأقصى، وفي مسجد خليل الرحمن، حتى نسيم الحرية أصبح ممنوعاً علينا، لأنَّ كلَّ شيء يُقدَّم لنا بالقطَّارة كي نبقى تحت الاحتلال في صراع دائم مع الألم، والعذاب، والحرمان، والزنازين، وتشييع الشهداء. وأصبحنا نتساءَل هل نحن جزء من الأمة العربية التي أدارت ظهرها بالكامل لنا ولمعاناتنا؟
ثانياً: لماذا تحوَّلت المعركة الوطنية من معركة بين الكلِّ الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى معركة داخلية فلسطينية حول السيطرة على قطاع غزة؟ وبالتالي أين يجب أن تجري المعركة الحقيقية والمصيرية؟ هل هناك في قطاع غزة المُحاصَر أصلاً، والمكتظ بنحو مليوني إنسان، أو في الضفة الغربية وخاصة القدس، حيث يبني الكيان الصهيوني أحلامه، ويعزِّز وجوده، وحيث يُنكِّل بأهلنا، ويُدمِّر بيوتنا، ويقتل أطفالنا ونساءَنا، وينتهك مقدَّساتنا، ويُعذِّبُ أسرانا، ويستوطنُ أرضنا.
فلِمصلحةِ مَن نَقلُ الصراع إلى غزة وعلى غزة؟ وهل ما يحدث في القطاع وحوله يرعب الجانب الإسرائيلي؟!
ثالثاً: السؤال الجوهري الذي يجب أن نسأله هو ماذا يريد الجانب الإسرائيلي من قطاع غزة؟ هل هو يصرُّ على أنَّ قطاع غزة جزءٌ لا يتجزَّأ من (دولة إسرائيل)؟
إنَّ التعاطي الإسرائيلي مع قطاع غزة لا لُبسَ فيه، فهو يريد التخلُّص من قطاع غزة وليس التمسُّك به، والقادة الإسرائيليون كانوا دائماً يتمنون بأن يبتلعَ البحرُ قطاع غزة ليتخلَّصوا منها ومن تعقيداتها، وأزماتها، فهي كانت مصدر قلق، وبيئة حاضنة للمقاومة والثوار والفصائل، والإضرابات، وحالات التمرُّد. كما أنَّ الجانب الإسرائيلي كان مسروراً أن تكون غزة في الحضن المصري، ومازال حتى الآن يطمح بإلحاق قطاع غزة بجمهورية مصر العربية.
رابعاً: السؤال الذي يجب أن نجيب عليه بجرأة هو لماذا انسحب الجانب الإسرائيلي من قطاع غزة؟
الأحداث المتتالية أثبتت أنَّ العدو الإسرائيلي أقرَّ الانسحاب الكامل من القطاع للمستوطنين والجنود في أسرع وقت ليس خوفاً ورعباً فقط من عمليات المقاومة، وإنَّما لوجود مشروع سياسي كان يقوده رئيس وزراء العدو شارون، ويتطلَّب تنفيذه تغيير المعادلة التي كانت تحكم قطاع غزة، ليُصبح مسرحاً لعملية سياسية تُشكِّل حاضنةً خانقة للطموحات الفلسطينية الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية، وتقزيم الحلم الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران العام 1967 إلى دويلة، أو كيان سياسي، أو إمارة مع فتح آفاق اقتصادية واستثمارية من خلال الميناء، والمطار، والمرافق الأخرى، والضغط سياسياً من أجل توسيع مساحة القطاع، أي دولة غزة، لكسب المزيد من الرواد والراغبين الفلسطينيين، وبالتالي يعمل الجانب الإسرائيلي مع أطراف دولية وإقليمية لحلِّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين على أرض هذه الدُويلة المصطَنَعة بعيداً عن أرض فلسطين التاريخية.
خامساً: ما ذكرناه في النقاط السابقة هو ما يتحدَّث عنه الجانب الإسرائيلي صراحةً وبكل وضوح: فالجانب الإسرائيلي يطالب الجانب الفلسطيني أن يعترف بدولة إسرائيل دولةً يهوديةً، أي لا مكان في هذا الكيان الصهيوني إلاَّ لليهودي فقط، ولا مجال لوجود العربي الفلسطيني مسلماً كان أو مسيحياً، وأيضاً إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين. أي بمعنى أوضح فإنَّ القيادة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة ترفض قرارات الشرعية الدولية كافةً، وتُحكِّم فقط معتقداتها الايديولوجية المتعلِّقة بأرض الميعاد، أي أراضي الضفة الغربية بما فيها القدس. وهذه هي الجغرافية التي بها القيادة الإسرائيلية وتكثِّف الاستيطان فيها، وابتلاعها، والتخلُّص بشكل تدريجي من العنصر الفلسطيني صاحب الأرض، وخنقه، وعزله، وتمّ تهجيره، أو تذويبهُ.
ومن هذا المنطلَق قُلنا إنَّ المعركة مع الاحتلال هي معركة الأرض، وهل تعي حركة حماس اليوم أنَّها حين قررت السيطرة منفردة على قطاع غزة، وطرد السلطة الوطنية منها، والتخلص من وجود حركة فتح عسكرياً أي ( الحسم العسكري كما أسماه البعض)، أخطأت الحسابات وطنياً، وأدخلت نفسها في تعقيدات لها أول وليس لها آخر.
سادساً: بعد هذه السنوات العشر من الانقسام المدمِّر للواقع الفلسطيني آن الأوان لإجراء مراجعةٍ موضوعية على قاعدة البحث وإعطاء الأولوية للمصالح الوطنية الفلسطينية العُليا وليس للمصالح الحزبية والأنانية.
فالجانب الإسرائيلي مرتاح لما جرى ويجري في قطاع غزة، فكُرَةُ اللهب تتفاعل داخل القطاع فالاقتصاد مُدمَّر، والحصار دائم، والشعبُ يعاني الويلات، والبيوت مدمَّرة، والفقر مدقع، والبطالة منتشرة وبنسبة عالية، والأوضاع الأمنية مرعبة ومخيفة، والعلاقات الوطنية مضروبة وفي أسوأ حالاتها، والقصف الإسرائيلي متواصل جواً وبحراً، وحالة العداء بين الفلسطيني والفلسطيني داخل القطاع مأزومة.
بعد هذه السنوات، الجميع دخل في المأزق، والجميع ومعنا فلسطين قضيةً وشعباً ندفع الثمن، فحركة حماس التي تجسِّد سلطة الأمر الواقع لم تنجح في تحقيق أهدافها، فهي اليوم مضطَّرة لممارسة القمع حتى على الفصائل التي تُعتبر شريكاً وطنياً. وهي أيضاً لا تملك القدرة على حل الأزمات المعيشية الخانقة لأهل القطاع وهم أمانة بعنقها، وهي مسؤولة عنهم وليست مسؤولة فقط عن عناصر وعائلات حركة حماس، فهناك أزمة الكهرباء، وأزمة المياه، وأزمة البطالة، وهناك الأزمة الصحية، وأزمة المعابر. ولعلَّ الأزمة الأهم هي عدم وجود عنوان واضح لسلطة حماس الحالية كي يحدِّد قانونية وضعها طالما هي تتحكَّم بالقطاع.
فإذا كانت هي جزءاً من السلطة الوطنية كونها شاركت في الانتخابات التشريعية وفازت بالأغلبية فعليها أن تلتزمَ بالحكومة الفلسطينية، حكومة الوفاق الوطني، التي تشكَّلت بالتوافق بين حركتَي فتح وحماس وباقي الفصائل، وتمَّ إقرارها في لقاء الشاطئ بغزة، فلا يجوز أن تكون هناك حكومتان، ولا يجوز أن تكون الوزارة الواحدة مقسومة إلى وزارتين، وليس من تنسيق واضح ومتكامل بينهما، ولا يجوز منع الوزراء القادمين من الضفة من الدخول إلى غزة لأخذ دورهم لتوحيد العمل الوزاري.
وهنا يجب الإشارة إلى بعض الحقائق ومنها:
أ‌- إنَّ السلطة الوطنية تدفع 52% من موازنتها لصالح قطاع غزة
ب‌- بالنسبة للمستشفيات والعلاج الداخلي والخارجي، والتحويلات فإن وزارة الصحة الفلسطينية تقوم بواجباتها تجاه قطاع غزة تماماً كما تفعل في الضفة الغربية
ج- عندما استلمت حركة حماس الوضع في قطاع غزة كانت المعابر كلها مفتوحة في إطار اتفاق واضح بين الأطراف المعنية وخاصة الأوروبيين، ولم تكن هناك معاناة كما هي اليوم، والسبب واضح وهو أن حركة حماس انقلبت على السلطة  الشرعية الفلسطينية، وفرضت نفسها، فأصبح هناك قرار واضح دولي بعدم التعامل مع سلطة غير شرعية، وأُقفلت المعابر لأنَّ المطلوب هو وجود الحرس الرئاسي على هذه المعابر كطرف شرعي، وهذا ما زالت حركة حماس ترفضه، ومع استمرار الرفض تستمر المعاناة.
إنَّ الثمن الأكبر للانقسام الذي ما زلنا ندفعه جميعاً هو فشل كافة محاولات تجسيد المصالحة، وتعطيل كافة مفاعيل وأركان الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعطيل انعقاد مجلس وطني توحيدي. إضافة إلى ذلك كله، لا توجد موافقة من حركة حماس على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وما يتبع تشكيل الحكومة من إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية، أي تحكيم صندوق الانتخاب في الخلافات والتباينات المطروحة وتحديد القيادات الجديدة المنتخَبة لتتولَّى مسؤولية قيادة الشعب الفلسطيني بعيداً عن الفصائلية، وبعيداً عن المحورية.
إنَّنا ومن موقع المحبَّة والأخوة التي تجمع أبناء شعبنا في قضية واحدة، وعلى أرض واحدة، ومن أجل أهداف وطنية ثابتة بوجه احتلال غاصب، من أجل إقامة الدولة المستقلة الواحدة وعاصمتها القدس، ومن أجل تنفيذ حق العودة على أرضنا لتجسيد أحلامنا آمالاً كبيرةً على الأرض المباركة.
شعبنا ملَّ المعاناة، وخيبةَ الآمال، وهو بالانتظار، انتظار الوحدة الوطنية، والمصالحة، وتوحيد الأرض وأدوات المواجهة، فهل نحن قادرون على زرع الابتسامة العريضة على وجوه أبناء غزة والضفة والقدس، والمثلث، والجليل، والنقب، وأبناء الشتات، قبل فوات الأوان؟