ثانيا حققت حركة حماس، كما اشار المرء من البداية، مكانة مهمة في الساحة الفلسطينية بعد تراجع مكانة القوى الوطنية واليسارية، التي تلازمت مع تعمق أزمات وتراجع دور الفرق والمدارس النظرية والفكرية القومية والماركسية واليسارية عموما في الوطن العربي والعالم بعد فشل وهزيمة مشاريع الدول والقوى الحاملة لتلك الرؤى. وفي الوقت نفسه فتحت الباب امام صعود الخطاب الديني، الذي حل بقوة لملء الفراغ، واستثمرت "حماس" بشكل جيد الربط بين خطابها الديني واستخدامها لأسلوب النضال المسلح. ولتعميق مكانتها ودورها استغلت بشكل جيد أزمات وضعف وأخطاء ومثالب فصائل منظمة التحرير الفلسطينية المختلفة من فتح حتى آخر فصيل وطني. كما استفادت من الميراث التاريخي للدين في اوساط الشعب اسوة بكل شعوب الأمة العربية ودول العالم المنتشر في اوساطها الدين الإسلامي، وكان المسجد مفتوحا على مدار الساعة لاستثماره في التحريض والتعبئة والاستقطاب للاجيال المختلفة وخاصة الجديدة. لكن هذا الثقل، الذي حققته حركة حماس في الشارع الفلسطيني جاء معاكسا لطموحات وامنيات ابناء الشعب الفلسطيني، وتم انكشاف خلفياته المتناقضة مع المشروع الوطني، لا سيما ان حركة "حماس" لم تنخرط في مؤسسات منظمة التحرير، لأنه كان لها موقف معاد منها، وجاءت بالاساس لتكون نقيضا ونافيا لها وللتاريخ الوطني برمته، ما ساعد في افتضاح دورها في زمن قياسي، لأنها لم تميز بين التكتيك والإستراتيجية الإخوانية في العلاقة مع المنظمة، بتعبير آخر، تجاهلت الأهمية المركزية للمنظمة في الساحة الفلسطينية ومكانتها العربية والعالمية، كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وتجلى فقر الحال السياسي عندما طالبت قيادة حماس في الحوارات الأولى مع الرئيس عرفات بالحصول على 40% من عضوية المجلس الوطني وقبل الانتخابات التشريعية بكثير، اي في زمن الانتفاضة الكبرى ومع قيام السلطة الوطنية 1994/1995، وايضا تجلى ذلك اثناء تشكل الحكومة العاشرة، حينما بق الدكتور محمود الزهار البحصة مع جميل المجدلاوي، عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية عندما اعلن "ان حماس لا تؤمن ولا تريد منظمة التحرير، وأن طرحها لموضوع المنظمة ليس أكثر من إعلان شكلي، لا يمثل جوهر موقفها منها"، وكان هذا التوجه وجد انعكاسه في خيار حركة حماس في فرض ازدواجية السلطة في 18/11/1995 في مدينة غزة، عندما خرجت مظاهرة مسلحة من جامع فلسطين في الرمال الشمالي الشرقي إلى مبنى السرايا (مقر قوات واجهزة الأمن الفلسطينية) واطلقت الرصاص الحي عليه، وتم حرق سينما النصر وفندق ومحلات للمشروبات في غرب غزة كمقدمة للانقضاض على السلطة ككل. تلازم مع ذلك، قيامها بتنفيذ عملياتها المسلحة مع إعادة انتشار جيش الاحتلال من المدن الفلسطينية، التي انعكست سلبا على تمدد صلاحيات السلطة الوطنية على المدن الفلسطينية، لأن القيادات الإسرائيلية استغلت ذلك بما يتناسب مع مشروعها الاستعماري، وتذرعت به للنكوص والتراجع او التأخير او اختزال وسحب صلاحيات ومنجزات منحت لمؤسسات السلطة الوطنية؛ ترافق ذلك مع مواصلة وتصعيد التحريض على القيادة والاجهزة الامنية ومؤسسات السلطة من قبل حركة حماس، وللأسف ساهمت الأخطاء والنواقص في عمل المؤسسات الوطنية المدنية والامنية في منح حركة حماس الفرصة لتشويه دورها و"الطعن" بوطنيتها وبأهلية ومكانة القيادات المختلفة نتاج تضخيم الأخطاء، ما منحها "مصداقية نسبية" في الشارع الفلسطيني، حصدت نتائجه في الانتخابات التشريعية عام 2006، حيث حصلت على الأغلبية في المجلس التشريعي (76 نائبا من 132 نائبا)، ومع ذلك رفضت من حيث المبدأ الشراكة السياسية مع فصائل منظمة التحرير بما في ذلك الجبهة الشعبية، التي كانت قريبة نسبيا من مواقفها السياسية، ليس هذا فحسب، بل واصلت تهيئة المناخات للانقضاض على كامل مؤسسات الشرعية الوطنية في محافظات الجنوب (القطاع) فشكلت بعد تشكيل الحكومة العاشرة ما تسمى "القوة التنفيذية" من 3000 عنصر في 17 ايار 2006، التي اعتبرت النواة المساندة لكتائب عز الدين القسام في الانقلاب على الشرعية، الذي تجسد على الارض بعد سلسلة من المعارك المفتعلة مع قوات الأجهزة الامنية الوطنية، رغم وجود اغلبية برلمانية بيدها، تستطيع من خلالها إلغاء او تمرير اي مشروع قانون، وتستطيع ان توافق او تحجب الثقة عن اي وزير او رئيس حكومة، ورغم توقيعها على اتفاق مكة في شباط 2007، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة إسماعيل هنية. لكنها وفق مخطط جماعة الإخوان المسلمين الشمولي واصلت العمل على الاستئثار بكل السلطات عبر الانقلاب الأسود في قطاع غزة في 14 حزيران 2007. وهو ما كشف وعرى وجهها بشكل سافر امام الشارع الفلسطيني عموما وخاصة في المحافظات الجنوبية. وتعمق انكشاف وجه حماس الإخواني أكثر فأكثر في الاوساط العربية بعد مطلع عام 2011 مع اندلاع الثورات في الدول العربية