ستطاع الرئيس محمود عباس أن يثير جدلا جديدا بمواقفه، كما هي العادة مع كل تصرف يقوم به، فهو يُقدم على الخطوة تلو الخطوة بخطى ثابتة وأقدام لا تزلزلها النوائب نحو هدفه الذي يراه واضحا: دولة فلسطينية عاصمتها القدس وعودة اللاجئين، وبأحقية فلسطين لنا رافضا يهودية الدولة الاسرائيلية، وبتقدير لا تعوقه عنتريات، أن الواقع يفرض أسلوبا نضاليا شعبيا ودبلوماسيا وقانونيا (وفي نقض الرواية التوراتية)، يراه منذ انتخب رئيسا بما أطلق عليه عدم عسكرة الانتفاضة، واللجوء للمقاومة الشعبية والنضال السياسي، والمقاطعة.

محمود عباس المتوافق مع رسالته، رسالتنا في حركة فتح، يتعرض لانتقادات الصديق والاخ، كما يتعرض لهجوم الحلفاء أحيانا، وغني عن القول أن هجوم الأعداء دائم من اليمين واليسار في الأحزاب والفرق الاسرائيلية.

محمود عباس الذي لا تهزه الرياح العاتية ولا تؤثر فيه المصائب سواء أكانت الفجيعة كما بالانقلاب على غزة عام 2007 ، أو بالحروب المدمرة على غزة التي وقف منها موقف الرافض لأي عدوان مستلهما قول الله جل وعلا: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا...)، محركا كل ما يستطيع من قنوات عمله السياسية والدبلوماسية لوقف المذابح حين يتصدى قِلّة ثائرة لجموع جيش من أكبر جيوش العالم، وبقرار منفرد، وحين تقرر فئة سياسية/حزبية أن تُدخل شعبنا الأعزل بتصريحاتها النارية وردود أفعالها غير المحسوبة في أتون حرب تفترض فيها أن سهولة التصريحات هي بمقدار سهولة جريان دماء آلاف الشهداء، وتشريد مئات الآلاف.

محمود عباس الذي يثير جدلا في كل خطوة يُقدم عليها، هو ذاته الذي اختاره الفلسطينيون رئيسا، وجدد له المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد انتهاء ولايته وولاية التشريعي معا، وهو ذاته الذي انتخبته حركة فتح بالإجماع في مؤتمرها وستجدد له بالمؤتمر القادم أيضا.

لا أضواء مطفأة في حركة فتح

في حركة فتح لا أضواء مطفأة على الرأي الآخر أبدا، لذا تجد من الطيف الفتحوي عدة ألوان تختلف وتتصارع وتقول وتنتقد سرا وعلنا في الأطر احيانا ويعلو الصوت خارجها في حين آخر.

 ولكن هذه الأطياف الفتحوية تضع التجريح والتشهير والتكفير والتخوين في خانة المحرمات، وهي ذات المحرمات التي يتقن الآخرون تجريدها ضده، وضد حركة فتح، في كل آن سواء حين افتقاد الحُجّة لديهم، أو رغبة بالانتقام والتعبير عن الكره الممزوج بالغيرة القاسية من النجاحات.

 قالوا أحمر الخدين

 محمود عباس رجل إشكالي، إذ أن غزواته السياسية الناجحة، والتي وصل بها لحد الاعتراف بفلسطين دولة في الأمم المتحدة، لم تعجب الأعداء فحثوا التراب فوق رؤوسهم عند كل خطوة، فكرهوه الى حد مقابلته بالرئيس أبو عمار فهو ليس شريكا للسلام أبدا.

 وخطواته السياسية هذه لقيت من الأخ السخرية والاستسخاف، وهو حتى بتهديداته لاستخدام الحرب القانونية لم تجد على أهميتها من ذات الفصيل إلا أن يضحك ويسخر ويعبر عن حقده بطرق شتى، لأنه رأي في كل نجاح بساطا كبيرا يُنزع من تحت قدميه حتى عندما أصبح الامر حقيقة واقعة فها هي المحكمة الدولية تتأهب لدخول فلسطين.

 لم توجه الرئيس أبو مازن الا المصلحة الوطنية، على عكس ما نراه من الآخرين الذين انبطحوا تحت إمرة التحالفات الاقليمية من جهة، ولذة التشبث بالعرش والكرسي والتعدي على رقاب الناس من جهة اخرى.

 لكم أن تعودوا للكثير من المواقف التي اتهموا فيها الرئيس بالتقصير سواء في تقرير "غولدستون" الذين يدين "حماس" و(اسرائيل) معا، او برفضه إدانة العمليات الجديدة في غضبة القدس، أو في ممارسته المفاوضات أو في ايقافه المفاوضات، وسواء في دعوته اللحوحة في المجلس الثوري لحركة فتح لتصعيد الانتفاضة/المقاومة الشعبية، أو في سكوته عن تصاعد عمليات جيل الغضب في غضبة/هبة القدس الحالية، وسواء بإعلانه على الملأ رفضه للعسكرة منذ العام 2006 أو في مناداته بحقنا في فلسطين كلها رافضا منطق يهودية وقومية الاسرائيلي، وسواء بتمسكه بالتنسيق الامني الاجباري أو بتهديده وقفه وحل السلطة.

 وبالعودة من أبي مازن عبر محطات مضت للنقاش ظنوها ماتت، بدءا من وعد بلفور 1917، فصك الانتداب عام 1922 وفتح قرار التقسيم 1947 نجد الكثير مما أزعج الاسرائيليين وأرهبهم كما أزعجهم دخول دولة فلسطين الاتفاقيات الدولية والمحافل العالمية، وعبروا عن الخوف والاستياء والغضب الشديد من نيته رفع القضايا ضد مجرمي الحرب الاسرائيليين، وازعج كل ذلك الأخ أيضا لمجرد أنه بتقدم أبومازن وحركة فتح داخليا وخارجيا يعني -كما يفهم هذا الأخ أو الأخوة أو بعضهم- أنه يصبح منعزلا او في الظل، لذا ليس له الا إثارة النقع والضجيج.

 يقول الرئيس أبو عمار رحمه الله عند كل مفصل كان يتخذ فيه موقفا إشكاليا كنا نرفضه في أطرنا، وكان الآخرون يشنون عبره هجومهم القاسي، كان يقول وحتى حين ثبات الرؤية وتحقيق النجاح من الموقف مع استمرار المعارضة، كان يقول جملته الأثيرة (ما لقيوش بالورد عيب قالوا أحمر الخدين)

أبو مازن والصهيونية

 أبو مازن الذي استطاع أن يحقق التقدم الملموس في أن جعل القضية الفلسطينية عملا يوميا على أجندة الاوربيين -على الأقل- في ظل ظرف ميداني فلسطيني مجروح بالانقلاب الدموي منذ العام 2007، وفي ظل ظرف عربي في غاية السوء، حين يصبح أبوبكر البغدادي هو الشغل الشاغل للعالم مع خليفة حفتر والحشد الشعبي الشيعي ونظام الحوثي، والأسد، يقدم خدمة جليلة للقضية التي كادت تُطمس تحت ركام آلاف الضحايا.

 أبو مازن الذي لم ييأس مطلقا وهو يرى الأمة في حالة تراجع وانهيار تتنازعها شظايا التقسيم الاستعماري الجديد والتشرذم، وبوادر تواصل الحروب القبلية والطائفية، وانفضاض العرب عن مأدبة فلسطين، هو ذاته الذي رسم للعروبة في مخيلته وفي حركة فتح إطارا دافعا وسياجا آمنا لهذه الثورة، فاستمد منهم العون ولم ييأس أبدا، وصبر حين اللوم، وقاتلهم أبو عمار حين العبث في الجسد الفلسطيني.

إن هذا الرجل الذي يرى تغول الاسرائيلي بالقتل اليومي والذبح على الحواجز، واستباحة الأقصى والمقدسات، وبقر بطن البلاد بالمستوطنات والعنصرية الأبارتهادية وبتنكر العدو للمتفق عليه، هو ذات الرجل الذي اخترع أدوات جديدة للنضال تواكب واقع الحال المعقد، قد لا تعجب الكثير منا، ولكن فيها ثمرات في ظل انقطاع المطر لسنوات طويلة، وفيها مزايا الى حين اكتمال السدود فيفيض نهر الثورة.

 الاستفادة من التجربة الصهيونية و"هوشي منه"

في المحافل الدولية يخطو الرئيس العبوس-هكذا يصفونه ليس محبة، بينما يُكبرون صلاح الدين لذات السمة-يخطو بقدم ثابتة متنقلا حاملا فوق كتفيه المرهقين بسنواته الثمانين، هموم القضية التي لا تفارق محياه أبدا، ويصارع بها العدو، ويصارع الصديق أحيانا، محاولا أن يحقق حُلما لطالما راود الحركة الصهيونية، ولكم (ولنا) أن تعودوا قليلا للتاريخ، فلقد سعت الصهيونية لأمور منها أربعة هامة: بعث الرواية التوراتية المكذوبة بحقهم ببلادنا فلسطين، وامتلاك البراءة أي الاعتراف العالمي السياسي بوطن قومي لهم في بلدنا من القوى الاستعمارية ثم العالم، وبناء صرح اقتصادي، ثم ممارسة الاحتلال على الأرض والاستيطان لوطننا، ألا ترون جيدا ان الحراك السياسي/الميداني لحركة فتح والرئيس أبو مازن هو بنفس الصياغة المستمدة من انعكاس الفعل الصهيوني على الأرض في آلية الاستفادة الحثيثة من الأعداء وخطواتهم الناجحة؟

 أبو عمار كان الفصل الأطول في حياتنا، حياة الثورة الفلسطينية، حياة الامة العربية، حياة العالم، حياة الانتصارات والهزائم نعم، وهكذا هو الأمر اليوم، فالرئيس أبو مازن  ليس نبيا منزها عن الخطأ، وما كان معصوما ولن يكون، ولم يقل ذلك، وما كان "هوشي منه" ولا "جيفارا" ولا "ماوتسي تونغ" ولا هواري بومدين، وما أراد ذلك، وما هو بالجنرال "بيتان" ولا "لحد" كما يطعن به المرتزقة والمغتاظون والمخرصون.

أبو مازن وغضبة القدس

هو وكما يريد لنفسه، أن يكون مناضلا فلسطينيا يرفض الظلم والاحتلال ويعشق هواء فلسطين فيسعى للعبير الثري من أي زهرة جاء.

يلومونه الى حد الشِقوة لأنفسهم، ولا يفعلون شيئا لتغيير الواقع المزري، ويقصفونه بالمدافع حين تسكت عن قصف العدو.

فحيث يتهمونه بالعجز يكونوا هم العجزة، فالرجل الذي أشعل -ضمن عوامل أخرى هامة- كوامن الغضب للشبيبة التي أدت لهبة القدس،  هو الذي جعل من استشهاد الطفل المقدسي محمد أبو خضير وعائلة الدوابشة معلما تمهيديا ورمزا أصيلا للغضبة/الهبة.

لم يكن الاخ أبو مازن بحاجة لأن يرفع السيف ويقطع الرقاب ويدخل الميدان العنيف، فمن يعي ويدرك ويفهم يستطيع أن يرى العلامات الكبيرة والصغيرة، ومن يغلق عقله لا يرى الا الشوائب أو تحركه كوامن الضعف والكراهية والعقلية السلطوية فقط، وربما عاطفة إشفاء الغليل بصب كوامن الحقد في وجه المنتصر. المنتصر لربه ولذاته وفكره وأسلوبه، وشعبه.

 دجل المقهى العالمي

الجديد عن المعارك التي يخوضها أعداء الفكر المستنير أصحاب الأفواه الواسعة والشعارات العريضة هو استخدام تقنيات الحاسوب بالتشويه والدجل والتحريف.

فكما كان للاجتزاء والتزوير قديما أن شغل مساحة كبيرة في أدبيات المناوئين، واعتمد كسياسة متبعة تُعبأ بها العناصر، فإن المساحة اليوم أصبحت أكثر اتساعا لتشمل كافة فئات المجتمع عبر المقهى العالمي المسمى فيسبوك والذي يتم فيه استغلال عواطف الناس-خاصة الكسالى- من خلاله لحفلات ذرف الدموع، او سهرات التخوين والتكفير، او مسامرات تزدان بألفاظ الشتائم ومحاكم التفتيش، أو باللطم، ما تجدونه اليوم في التعريض بكل خطوات هذا الرجل الأنيق وحركته الصابرة المتواصية بالحق.

 أبو مازن الذي يُعاب عليه أنه ليس رجلا شعبيا او أن جماهيريته لها طعم مختلف، يقارنه البعض بالراحل الخالد أبو عمار، ولا مجال لذلك، فلكل شخصيته المختلفة وأسلوب إدارته وقيادته المميزة، مع ثغراتها، ما لا يعني أن هناك أفضلية أحد على الآخر، بقدر ما يعني أن هناك تميّزات قد تُحسب في أي اتجاه استنادا لزاوية النظر.

 تختلف قيادات وكوادر حركة فتح كثيرا مع سياسات أو بعض مواقف الحركة اليومية، وقد نختلف نحن وغيرنا مع رئيسنا من أبو عمار الى أبو مازن، ولم يكن لأحد أن يصل برفضه أو بنقده الى مرحلة الحضيض بالمبالغة والانحراف والاتهام ليضع يده على مقبض البندقية، الا من انشق فباع ذاته للمحيط الملازم أو غيره، فجعل من نفسه معارضا ليتحول شيئا فشيئا الى ألعوبة، فأضحوكة، فيندثر شيئا فشيئا، فالفتح كانت وستظل حركة الشعب الفلسطيني الصامد المرابط الصابر الجبار، حركة الكينونة الثورية والاستقلالية للقرار في الإطار العربي.

 إن الديمقراطية في حركة فتح التي تصل أحيانا الى حد الفوضى، هي مما تُحسد عليه حركتنا، بل وتثير الغيظ من التنظيمات الفكرانية/الأيديولوجية، التي لا يستطيع فيها أي فرد أن يعبر عن رأيه المناقض الا من منبر الخروج على فصيله أو النبذ من جماعته، لأن القرار الجامع المانع لديهم لك أن تنقده ولكن أخرج أولا، فهم لا يأتيهم الباطل لا من بين أيديهم ولا من خلفهم.

الغبار والعين الواحدة

غبار كثيف وضجة كبيرة أثيرت وتثار حول الرئيس أبو مازن، وحول مواقف حركة فتح، واتهامات تنوء بحملِها وتحمّلها الجبال تلازمت مع نشأة ومسيرة حركة فتح، وسياق صعب وأفعال مريرة وحروب طويلة فُتحت على حركتنا من الأجوار قبل الأباعد، ولك أن تعود بالذاكرة للوراء لترى الصورة واضحة سواء منذ الانشقاق الأول ومحاولة هدم الحركة ووأدها عام 1966 أو في الانشقاقات المحدودة، وصولا لذاك الانشقاق الكبير من أبي نضال ف"المنشقين" المدعومين من النظام السوري.

 وما لك لا ترى الا بعين واحدة حين يصبح الحديث ضد حركة فتح؟ وضد أبو مازن؟ أنظر جيدا وتأمل! فمن لا يثق بقيادته ومراميها وغاياتها-غايات الحركة- لا يفهم معنى السُبٌل والأساليب والتكتيكات ، وهل يحتاج القائد لكل سكنة أو خطوة أن يشرح للكوادر ما يفعل ؟ أم أن هذا –أي التوضيح مع الثقة-واجب الكوادر والقيادات؟

 هو ملزم كقائد باستشارة الإطار اليومي المركزي قطعا، وإن كان أو لم يكن، فهذا شان الإطار أن يساجل ويناظر ويتباحث ويصارع ويقرر.

 ألم يكن الاجدر بالكوادر بدلا من أن تتساوق مع المخالفين في كل حركة أو سكنة وفي كل موقف تقوم بها الحركة، او في أي مسار سياسي تتبعه، أن تعي جيدا وتعمق ثقافتها الصلبة بمعنى الأهداف والغايات، وتنوع المسارات، وتؤكد عليها، وتنأى قليلا عن منطق استخدام العصا الغليظة ضد قيادتها بالعلن، وتلجأ كما نفعل كلنا في اللجنة المركزية والمجلس الثوري والقيادات الأخرى للأطر مستغلين حقنا الرسمي بالمساءلة والمحاسبة والاستفسار والاستحسان أو الاستقباح بدلا عن الشحن والشحن العاطفي المضاد على منصات التشهير الاجتماعي؟ ضد أنفسنا؟

 صلابة الفكرة وكأس السم

 أولى لك فأولى، فالبيت الذي تخرج منه الزوجة تشتم زوجها ويخرج فيه الرجل يعهر بابنته، والولد الذي يخرج مقهورا من والدية يبخّس فيهما، هو بيت تلعب فيه الأرياح وتنهدم فيه الأركان وقد لا تستطيع له بعد ذلك تقويما.

 عن صلابة الفكرة الجامعة في حركة فتح، وحُسن الظن بحملة المشاعل فيها، وفكرة الانقياد لأوامر الله برد المظالم والايمان العميق، و للاستراتيجية والفكرة والاهداف فقط هي المحددات التي تجعل من الالتزام بها، والالتزام بقيادتها سبيلا للنجاة، ومربط الفرس مع أهمية ممارسة النقد والمراجعة والمساءلة والمحاسبة داخل البيت حيث وجب.

لكم أن تخلطوا وجبة العشاء على الشاشات الكبيرة، أو على أجهزة الهاتف النقال، بفيض من الشتائم والاتهامات ومشاكسات التعهير وإظهار الذات والهوى، ولكم أن تغرسوا الخنجر المسموم في نفوس أقرانكم، ولكنكم قد لا تدركون من يتجرع كأس السم حقا؟