لماذا يأتي الاعتراف متأخرا دائما، ولماذا تكون المراجعة وليدة معجزة أو مأساة أودمار أو خروج أو جرح لا يرجى برؤه؟ الكثير من الأسئلة تعتمل في الذهن حينما يحقق أحد القادة السياسيين سبقا في الاعتراف، وهو الذي لم يسبق له، أو ربما لمن يمثل من جماعة أوحزب أو فصيل أن فعلها؟

يقول المثل أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا، ويقول أشرف الخلق (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فالاعتراف بالخطأ فضيلة، ولكنه يقتضي التوبة ولها مقوماتها المعروفة للقاصي والداني.

عدم الاعتراف بالخطأ، وإن حصل الخطأ يتحول لصواب! أو يتم تبريره بحيث لا يصاب المخطئ بأي ألم أو مسؤولية هو من سمات الأحزاب الفكرانية (الايديولوجية) المتطرفة سواء الشيوعيين أو الاخوان المسلمين، ومن سمات المتغطرسين المتكبرين أيضا.

يقول الكاتب الماركسي اللينيني (إيان بيرتشال) مدافعا: (شخصية لينين الحقيقية كانت أكثر تعقيدا، بالتأكيد أنه ارتكب بعض الأخطاء، وكان قاسيا بعض الشيء)، وهذا اعتراف ماركسي محمود وإنما تبرز بعد هذه الجملة "اللاكن" أي التبرير إذ يقول (ولكن من أجل مصالح القضية، وليس من أجل أن يملأ جيوبه ....).

فقدان الاعتراف والنقد

وفي المقابل قلما تراجع الكتابات الاسلاموية ومنها كتابات الإخوان المسلمين الرسمية التجربة جريا على عادة المسلمين (في التراث الإسلامي السني عامة) بترك التراث كما هو دون تشذيب أو مراجعة ما يؤدي لتقديسه، ليأتي أمثال الكاتب الاسلامي الملتزم محمد المختار الشنقيطي ويكتب عن (الخلافات السياسية بين الصحابة) فيطرق موضوعا دقيقا في الوعي الاسلامي والتاريخ الاسلامي، واستطاع بشجاعة أن يفصل بين (المبدأ الإسلامي ومكانة الأشخاص).

وفي نموذج الاخوان المسلمين الحالي طرح حمزة زوبع المتحدث الإعلامي باسم حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين في مصر عام 2013 حلاً يتضمن القبول بخارطة الطريق والاعتراف بالخطأ عن سوء الحكم خلال فترة الرئيس المخلوع محمد مرسي، وكان هذا عبارة عن صرخة في واد، حيث قال له جهاد الحداد المتحدث باسم الاخوان أن (موقف الجماعة لم يتغير ولا بديل عن عودة كامل الشرعية الدستورية وإلغاء ما ترتب على الانقلاب العسكري وكأنه لم يكن) على حد وصفه، ما هو تكرار لسلوك الاخوان المسلمين بالإنكار والتمسك بمنطق المظلومية والمحنة والابتلاء من الله والتمكين القادم.

بلا شك ان هناك الكثير من القيادات الفكرانية سواء في الشيوعيين أو البعثيين أوالقوميين "الشوفينيين"، أو الاسلامويين قد طرقت باب مدرسة الاعتراف، وأقدمت على الخطأ تصوبه في مراجعات هامة، لكنها تظل دون أن يُسجّل للحزب أو التنظيم ركوب شجاعة الاعتراف فترة الحكم أو (التمكين)، أو اتخاذ مثل هذا الأمر سياسية عامة، ولنا في ذلك مئات الأمثلة.

كتب الدكتور عبدالله فهد النفيسي كتابا نقديا في تجربة الاخوان المسلمين واشتمل على نقد موضوعي يحسب له ولمن شاركه فيه، كما كتب الكثيرون ممن خرجوا من التنظيم الاسلاموي، ولم يكن آخرهم نائب المرشد العام السابق د.محمد حبيب بل سبقه كثير من الخارجين كما لحقه.

دهليز المجوهرات

يقول الكاتب السوداني من الاخوان المسلمين د.كمال عبدالقادر: (في كتاب المطالعة في الصف الثالث إبتدائي قصة إسمها “دهليز الإغراء” ملخصها أن أحد الملوك قام بدعوة كل أهل مدينته للعشاء في قصره و عند دخولهم يمرون بدهليز مُظلم ممتلئ بالمجوهرات و عندما يجد الفرد من المدعوين نفسه في هذا الموقف، يقوم بحشو ملابسه بالمجوهرات. عند نهاية الحفل، طلب الملك من الجميع أن يقوموا ليرقصُوا، فقاموا متثاقلين حتى لا تسقط الجواهر إلا شاباً واحداً كان يرقص بخفة و رشاقة. أوقف الملك الحفل و قال للجميع ” أنا إخترت هذا الشاب زوجاً لإبنتي و ولياً للعهد لأنه الوحيد الذي لم تغريه الأموال و هو لوحده في الدهليز” ! إن الإختبار الحقيقي عندما يكون بإمكانك فعل الخطأ و يمنعك إيمانك و ورعك.. و بهذا الإختبار سقط “الأخوان المسلمون” بفسادهم و هم في “دهليز السُلطة” و لم يعُد يردعهم إيمان و لا ورع و لا قانون و لا أخلاق .. ! و المغالطنا منهم يقوم يرقص..؟)

التوبة النصوح أم التبرير

ومع اعتراف القلة بالأخطاء، يعلق على ماسبق الباحث السوداني د.عمر القراي بالقول أن (التوبة الدينية، عن إثم مشاركة الإخوان المسلمين في حزبهم أو حكومتهم، لا يكفي فيها مجرد الخروج عنهم، بل لا بد من مناهضتهم، والسعي لإزالة حكمهم، من باب رد الحقوق إلى أهلها، وهو من شروط التوبة النصوحة .. وحتى يكون هذا العمل ذو أثر، لابد من البحث عن البديل الفكري، عن فكرتهم، لأن مجرد نقدهم مع بقاء الشخص على نفس الفكرة، معناه انتقاد أشخاص، وأن الحل لديه هو تغيير الأشخاص فقط، وهذا حل خاطئ، لأن العلة في الفكرة التي تربى عليها هؤلاء الأفراد أولاً، ثم هي في الأفراد ثانياً)

بينما يقول الكاتب الاخواني الملتزم عزام التميمي منتقدا بعض حالات جلد الذات – كما أسماه في مقاله على موقع عربي 21 – لبعض قيادات الإخوان المسلمين لحكمهم في مصر، ومبررا (أما ما هو يقيني تقديري فهو أن ما آلت إليه الأمور كان حتميا ليس بسبب خطأ في الاجتهاد أو خلل في التنظيم أو سوء في الإدارة – مع عدم استبعاد وجود بعضها أو جميعها – وإنما لأن ميزان القوى محليا وإقليميا ودوليا لم يكن بعد قد ترجح لصالح التغيير والثورات العربي).

نعم هذه من أشكال النظر للأمر فبدلا من نقده ومراجعته، تقف الجبال الشاهقة من قداسة الفكرة وفكرة المظلومية والمحنة، أو فكرة الربط بين الأشخاص والدين وقداسة النص تقف عائقا أمام الاعتبار، فكيف وهم على كل ذلك أن يسقطوا أو يخطئوا فما بالك أن يرتكبوا الخطايا والجرائم؟ هل للزهو محل في ذلك أم لعقلية التبرير أم افتقاد الشجاعة؟

الكثير من الموانع كانت عائقا ربما أمام حركة "حماس" للاعتراف بخطاياها بحق فلسطين وبحق شعبنا في غزة، ولم يكن ليعيبها مطلقا الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه وهو ما بدأه بخجل

في محاضرة السيد خالد مشعل في ندوة مركز الجزيرة للدراسات في قطر 25/9/2016 عبر عن اقراره بمعادلة التأثر والتأثير ما مثل إيجابية بالخروج عن العقل المغلق الذي يظن ذاته محصنة، فهو يذكر أنه قد تأثر كحركات اسلاموية (هو يصر أنها اسلامية ونرى كل مسلم فهو اسلامي) بالربيع العربي سلبا وإيجابا. وأشاد بدول الممانعة دون أن يسميها في مرحلة مضيفا لها (الاسناد) كما ذكر من تركيا وقطر ومصر الرئيس المخلوع مرسي.

فكر واحد ولكن!

تعرض مشعل لفكر حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح، فلم أجد اختلافا واضحا أبدا مع فكر حركة فتح، فهو كما قال حركة مقاومة للاحتلال، ولا يتدخل في الصراعات، وهو مع الشعوب وحقوقها، و فصيله حركة شعبية و (نحن أصحاب قضية عادلة) وننحاز للمبادئ حال التعارض مع المصالح، فماذا يختلف كلامه الجميل هذا عما تقوله كافة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالفكر؟ لا شيء البتة.

خالد مشعل الذي نزع لإظهار تفوق فصيله بشكل جعل من المديح المفرط يأخذ 90% من خطابه مقابل التعرض (للثورة المضادة) قاصدا ما حصل في مصر ودول الربيع العربي دون أن يسميها وباعتقادي أنه أبقى 2% من خطابه لحالة النقد (هكذا فُهمت) التي تعرض فيها لحكم "حماس" في غزة ونبذ الشراكة مع الآخر... .

خالد مشعل يُلهم ويُلهب

ففي مجال كيل المديح للحركات الاسلاموية وفصيل حماس ذكر (أننا ألهمنا الشعوب ) و(ألهبنا شعور الجميع) و(نصحنا الأمة) بل وقرر أن انتخابات العام 2006 في فلسطين التي فازت بها "حماس"، هي شعلة (ثورة الربيع العربي والثورة المضادة علينا)؟ ناهيك عن إشادته المتكررة بالتخصيص بفصيله بالحروب العدوانية على قطاع غزة، وحرص فصيله (على ترتيب البيت الفلسطيني) .. الخ وكلما اقترب من الاعتراف بالخطأ يزيد من كيل المديح، ويعمم، بل ويبرر أحيانا ما هو النهج المتبع في دوائر الاخوان المسلمين.

أن يتعرض لرؤية سياسية يقدمها للعالم العربي وما أسماها (الثورة المضادة) وتعرضه للمؤامرات على الأمة هي مواقف سياسية نتفق أو نختلف معها ولم تأتي بجديد إلا تكرار استخدامه للفظ (الثورة المضادة) عوضا عن مدرسة الفسطاطين وإن كانت لا تختلف كثيرا هنا.

يقدم رجلا ويؤخر أخرى

في الدقائق الأخيرة المتبقية من محاضرته التي دامت 45 دقيقة حاول أن يمارس النقد بعد أن قدّم له بجبال أعلى من جبل أحد في مديح الاسلامويين وفصيل "حماس" الفلسطيني الذي يتزعمه، بل وقدم له بالقول منذ بداية الندوة: أنه رأيه ولا يلزم به أحدا، أي لا يشكل سياسة فصيله !.

وعند النقطتين اللتين أثيرتا عن ممارسته المراجعة والنقد الذاتي العلني يتعرض خالد مشعل [للمبالغة] و [الخلل والنقص] و [الاستسهال] و [نظرية البديل] و [زهو القوة] ليقول بوضوح [أخطأنا].

وهنا أستطيع أن أتفهم الحذر الشديد الذي ألمّ بخالد مشعل عندما تحدث عن الاسلامويين والأمة العربية فهو كما كان يقول الخالد ياسر عرفات يسير في حقل ألغام ما أشار له مشعل بعبارات قريبة.

واستطيع أن أرى من جبل المدائح رغبة لديه في تصحيح الوضع، ولكن بحذر شديد ربما لعلمه بصعوبة ذلك أو لشكه بكيفية استقبال فصيله لما يقول، أو لقناعته بوجود تيارات مضادة له داخل "حماس" قد تستل سيوفها لتقطيع جثته إربا بعد الخروج من المكتب السياسي، وربما قبل ذلك.

الرد السريع على مشعل

ولم يمهله فصيله أن يتنفس فقاموا بالرد عليه حالا رافضين بقوة منطِقه بالاعتراف بالخطأ، وكأنه عار وعيب ونقيصة، أنظر لما يقوله صلاح البردويل القيادي في "حماس" على قناة اٌقصى التابعة لفصيل حماس في غزة 27/9/2016

يقول البردويل ردا على (السيد خالد مشعل) هكذا نطقها السيد وليس الاخ، أن (حماس تولت الحكم من خلال لانتخابات وهي استمرت في تولي الحكم لتحافظ على الشعب الفلسطيني حتى لا يخضع لشروط الرباعية والتنسيق الامني.)

بمعنى أنه كالعادة المتبعة يرفض قطعيا الاعتراف بأي خطأ ويلجا للتبرير الواضح، ويكمل البردويل مؤكدا (اذاً، حماس هي مقتنعة انها لم تخطئ، واذا كان هناك خطأ هو "بتكتيكات معينة" جعلت الحصار ان يزداد، فلا بد من إيجاد اساليب جديدة من اجل تدعيم رؤيتنا، فهذه هي الرؤية التي طرحها ابو الوليد-خالد مشعل والتي لا تحتمل التأويل.)!

شجاعة منقوصة

عموما استطاع مشعل أن يحاكم حماس وإن بلطف وتدرج وحذر (فالإسلاميون هم الخط الوسطي ويؤمنون بالديمقراطية ويمارسونها) ونحن (لا نجلد ذاتنا زيادة عن اللزوم بل وضعنا في مؤامرات، وعلينا تحمل النقد فنحن في صدارة المشهد !) .

خالد مشعل انتقد ذاته والاسلامويين وفصيله في النقاط التالية (استهال الحكم وحيدين) وثانيا في (الزهد بشركاء الوطن) ويقصد حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح والآخرين من الفصائل، وثالثا (في المبالغة في التقدير للموقف وسلوك القوى المتضررة)! ورابعا في (الشعور بزهر القوة) وخامسا بتبني نظرية البديل (الخاطئة فلسنا بديلا عن الآخر حتى لو فشل أو فسد أو ترهل-كما قال) مضيفا عن حركة فتح.

من المحمود أن ينتقد الشخص ذاته وفصيله رغم أنه أكد من البداية أنه لا يلزم الفصيل بذلك محاولا أن يكرس هذا المبدأ أي النقد عادة بالقول (أننا نقرّ بأخطائنا وهو منهج القرآن الكريم : قل هو من عند أنفسكم)، ولم يرقَ في نقده أو اعترافه أو توبته أن شئت لدرجة أن يصحح الخطأ الكبير أو لنقل الخطيئة، وإنما اشار له بنبره خفيفة بالقول (ويحصل الاجتهاد في التصويب).

الخطيئة الكبرى

أن الخطيئة الكبرى هي الانقلاب الدموي عام 2007 على غزة، إذ لم يشر له لا من قريب ولا بعيد، ولم يشر للدم الذي سال ولا إلى الديمقراطية الموءودة في القطاع لعشر سنين في كل المؤسسات حتى الآن، ولم يشر أو ينتقد استغلال فصيله للناس عبر تجارة الانفاق أوتجارة المعبر أو فرض الأتاوات ... الخ،ما يجعل من كلامه السياسي بلا أثر، لا تطبيقي على الأرض ولا تنظيمي، أي أنه لا ينعكس سنّة محمودة داخل التنظيم، وهو قطعا يعلم ذلك ومن هنا جاء حذره الشديد الى درجة قد يفهمها البعض أن ما قاله فقط لذر الرماد في العيون، أو في محاولة أن ينزيّا بزيّ لا يليق به.

عموما بغض النظر عن التحليلات التي تُرجع السبب في إقدام مشعل على الاعتراف بالخطأ (دون الاعتذار أو العودة عنه) فإن الرجل يحاول أن يظهر بالمظهر الوطني والقومي المترفع عن ضيق الأطر، لا سيما وهو يغادر مقعده، ومن المفهوم أنه لا يقطع الحبال، ويحاول أن يبدو متزنا ومتوازنا وسطيا، متمسكا بمبدأ (شعرة معاوية)، كما واللافت أنه لم يُشر للاخوان المسلمين أو للبُعد العقدي/الدعوي في "حماس" ومنطق رفض الآخر الذي حاول أن يجد روابط معه.

التعميم في مفصل الاعتراف

لم يستطِع خالد مشعل أن يصل بالنقد لمستوى متقدم يراجع فيه محطات إخفاق لا أول لها ولا آخر لحركة "حماس" التي تزعمها خاصة في غزة، عوضا عن أنه لم يذكرها أصلا، وكلما اقترب يعمم أو يلتف، ولم يستطيع وربما لن يستطيع أن يحقق هذا الاقتراب، فلم يستطع أن يقتدي براشد الغنوشي في مؤتمر النهضة عام 2016.

إن كرسي الاعتراف ما زال كبيرا على حركة أو فصيل "حماس"، وعلى عامة "الاخوان المسلمين" الرسميين،وكلما جلس عليه قائد أو عضو يجد نفسه خارج التنظيم منبوذا أو مقهورا أو مهانا.

رغم كل ذلك، نتمنى للسيد خالد مشعل مزيد من الاجتهاد، ومزيد من العقل المتفتح، ومزيد من التطور الفكري والسياسي والتنظيمي ما هو أهل له أن امتلك الإرادة والرحابة، إذ قد ينظر ويقلب الفكر شيئا فشيئا فيما أصّله غيره من تيارات الاخوان المسلمين المستنيرة خاصة في تونس والمغرب، فيغير في طريقه التفكير ومناهج التعبئة الداخلية الخطرة جدا وحينها فقط يكون قد أطلق الربيع القادم في (حماس).