حركة ضد الشمولية والاقصائية

إن مسيرة حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح لم تكن لتؤمن بهيمنة الأفكار الشمولية سواء تلك القومية الشوفينية أو الاسلاموية أو الشيوعية فخلعت كل العباءات البراقة، وقررت أن الملعب الأول لها هو أن تركّز وتكرّس وتخصّص نضالها نحو قضية واحدة فقط هي قضية وطن، قضية فلسطين ومن هنا فهم الفتحويون طبيعة تميزهم الحقيقي منذ اليوم الأول والبلاغ الأول (بلاغ قوات العاصفة) ومنذ (هيكل البناء الثوري) واستطرادا في أدبيات الحركة، ومسارها النضالي الذي ارتقى درجات النضالية والثورية من درجة الثورية المثالية الى الثورية الواقعية.

رفض رواد حركة فتح فكر جماعة (الاخوان المسلمين) الحصري الاقصائي الذي يقدس الفكرة وحامليها معا كما يقدّس الجماعة على حساب الأمة، رفض فكرهم السياسي النظري غير العملي، فكرهم الذي يجمد الصراع لدواعي ادعاء المظلومية والسجن وعدم توفر الظروف، فخرج عدد ممن انتموا للجماعة -في غزة خاصة- على قاعدة أن فلسطين تجمعنا، لينهضوا من أجل فلسطين لا لفكر الاخوان المسلمين (خليل الوزير وأبو يوسف النجار وصلاح خلف...)، وتلاقوا مع زملائهم الذين لم ينتموا لأي حزب أبدا الا حزب فلسطين كما هو شأن ياسر عرفات وعادل عبد الكريم ومحمود عباس وهاني الحسن، وليلتقوا مع أولئك ممن خرجوا من حزب البعث العربي الاشتراكي (فاروق القدومي كمثال)، وأولئك الذين طلّقوا الشيوعية والفكر الماركسي-اللينيني الحزبي (ماجد ابوشرار...) والذين تركوا حزب التحرير (الاسلامي) (مثل خالد الحسن) وغيرهم، فكان هذا اللقاء الجامع الذي خلع الأردية الحزبية الضيقة لقاء بين الأنوية المتعددة في غزة والضفة والخليج العربي وألمانيا والنمسا (بدأت التباشير بعد العام 1948 وصولا للنشأة عام 1957 ثم الانطلاقة عام 1965 والانطلاقة الثانية عام 1968م)، ومثّل هذا اللقاء أيضا التقاء أفكار سياسية متعددة اتفقت على أولوية فلسطين، واتفقت على ضرورة اشعال جمرة النضال، واتفقت على تطليق الاحزاب الشمولية التي تهمش فلسطين، وتتلهى بأفكار إقصائية للآخر، أفكار شمولية أفكار لا ديمقراطية أفكار لا ترى بنفسها الا النهج الاوحد التي قتلتنا سابقا وعادت لتدمرنا اليوم، فكانت حركة فتح الحاضنة للكل الفلسطيني بفئاته وتنوعاته، ومازالت.

يقول محمود عباس (أبو مازن) ردا على سؤال حول الوحدة والتنوع داخل حركة فتح بديلا للحزبية منذ البدايات (لتبقى الأفكار كما هي، لكنه ممنوع الارتباط بأي حزب، فقط في الحركة، فكان التنظيم يضم كل الاتجاهات تقريبا، كان هناك إخوان وبعثيون، قوميون عرب، وكان الكثير من الشباب في الحركة قد دخلوا حزب البعث، ولم يقتنعوا، وكذلك حركة القوميين العرب، والإخوان المسلمين، وتركوا، ووجدوا في حركة فتح ضالتهم...).

لقد ميزت حركة فتح بوضوح بين حقيقة الفهم، وصدق التحليل المشفوع بحقائق الجغرافيا والتاريخ والقانون والسياسة، ولكنه المرتبط بالرؤية الاستراتيجية التي تفهم جيدا صراع القوى والمعسكرات وطبيعة تقاطع المصالح، فرأت أن المحرك في القضايا العالمية لم يكن هو القيم والأخلاق والعدالة، وإنما هذا الكم الهائل من التوحش اللأخلاقي الاستيطاني سواء في الفكر الغربي أو الفكر الصهيوني الاحلالي الذي بدأ استيطانيا (قوميا) لينتهي اليوم (عنصريا) (توراتيا) دينيا خرافيا.

مراحل وغيمات عرفات

إن ياسر عرفات الذي أجهد نفسه طوال حياته وهو يبحث عن الغيمات الماطرة، ووجد بعضا منها فحقق انتصارات هنا وهناك وأرادها تراكمية، وصدّر عبقرية الحث هذه لمضمون فعل حركة فتح التي آمنت بالمبادرة والمبادأة والإنجاز فلم تقف خلف المصداح "الميكرفون" تنشر وتصرخ فقط، وإنما جعلت من (الحركة) فعلا ايجابيا، فحيث تكون المقدرة على تحقيق انجاز (أكان وطنيا شعبيا، أو عسكريا، أو قانونيا، أو سياسيا... ) كانت لا تتوانى عن خوض غمار الحرب لتحقيقه وهذا ما كان فكانت الانطلاقة عام 1965، وكانت الحرب الشعبية طويلة الأمد والكفاح المسلح باشكاله المتعددة (1965 – 1974) وكان العمل السياسي يحصد زرع العمل العسكري (1974 – 1987) ثم كانت الإرادة الشعبية الجماهيرية تعبر بقوة عن حضورها ودورها المباشر في أرض الوطن عبر انتفاضة الحجارة التي كان فيها خليل الوزير (ابو جهاد) أول الرصاص أول الحجارة مع شبيبة الفتح وفلسطين في الوطن (1987 – 1993)، وبالانتقال لعناق البناء والتكريس للوطن من نافذة اتفاقيات المرحلة الانتقالية (1994 – 1999م) اقتنصت حركة فتح غيمة ماطرة فأعادت مئات الآلاف من المناضلين للوطن وكرست آليات التشبث بالأرض، ورسخت مفهوم معول البناء ومنجل الحصاد وإرادة الثائر في بناء مداميك الدولة الفلسطينية المقبلة، فماذا حققنا؟.

بلا شك أن النجاحات السياسية كانت ذات طبيعة تراكمية في النضال الفلسطيني وفي جهود حركة فتح المضنية منذ اعلان الدولة عام 1988 في العاصمة الجزائر على وقع انتفاضة الحجارة، ثم انتفاضة الأقصى (2000-2004م) وصولا الى إعلان العالم اعترافا أمميا بفلسطين دولة (غير عضو) في الأمم المتحدة (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19 هو قرار صوتت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 2012، وهو تاريخ اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. قدم الاقتراح ممثل فلسطين في الأمم المتحدة. التصويت كان لمنح فلسطين صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة. في الأساس، يرقي القرار مرتبة فلسطين من كيان غير عضو إلى دولة غير عضو. مع رفض الحكومة الإسرائيلية القرار، إلا أن رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت عبر عن تأييده له. أيد القرار 138 دولة، وعارضته 9 دول، وامتنعت عن التصويت 41، وتغيبت خمس.) ثم النجاحات التي جعلت من مطاردة الكيان الاسرائيلي في المؤسسات الدولية هدفا لنا وهاجسا للإسرائيليين وتكاتفت هذه النجاحات (أو الانتصارات) المهمة مع تواصل الفعل الميداني اليومي من خلال المقاومة الشعبية السلمية المتواصلة منذ العام 2005م.