مع نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وفي اعقاب ضرب المعاول جدار برلين، وعودة الوحدة لالمانيا، حطت الحرب الباردة رحالها بعدما تسيدت الرأسمالية على العالم بهزيمة الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية السابقين.
تقريبا عقدان ونصف العقد من السنين والعالم يخضع كليا للعولمة الاميركية، تسرح وتمرح في اصقاع الارض دون وازع قانوني او سياسي، سوى وازع البحث عن الربح الاحتكاري. تملي شروطها وسياساتها الاقتصادية والامنية العسكرية على شعوب الارض. تفرض خياراتها كيفما تشاء، وتستبيح الامم المتحدة بمنابرها وهيئاتها المختلفة وخاصة مجلس الامن، الذي تخضعه لعصا الفيتو وفق ما تراه من وجهة نظرها مناسبا لها. وإن بقي هامش محدد للجمعية العامة وبعض المنابر الاممية الاخرى للخروج عن عصا الطاعة، فلأن آليات عملها تسمح للدول بامتلاك حرية التقرير النسبي فيما يتناسب وقوانين الشرعية الدولية.
لكن العالم وخاصة اقطابه الكبار بما فيها الاقطاب الاوروبية الغربية وبتباين فيما بينها ضاقت ذرعا بمنطق الولايات المتحدة. غير ان الحلفاء التقليديين لاميركا، ما زالوا يراوحون في ذات المكان، مع انهم احيانا يخرجون اعلاميا فقط عن سقف السياسات الاميركية. غير ان روسيا الاتحادية بعد ان تعافت نسبيا من هزيمتها المريرة، ومعها جمهورية الصين الشعبية ومن يدور في فلكهم من دول العالم الثالث، رفضوا الاذعان المطلق للسياسات الاميركية، بعدما استشعروا خطرها، لا سيما وان الادارات الاميركية المتعاقبة، عملت على التدخل في شؤونها الداخلية، ولاحقتهم في مواقع نفوذهم التاريخية في دول الجوار او في القارات الاخرى آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، بهدف السيطرة عليها. وعملت على تقزيم مكانتهم الاقليمية والدولية.
روسيا والصين وبعض دول اميركا اللاتينية والعرب (مصر نموذجا) خرجت من شرنقة الهدنة الطويلة للحرب الباردة، وعادت لتدافع عن ذاتها ومصالحها القومية ومواقع نفوذها. ولعل من راقب تطور الصراع والمواقف المحتدمة في الملفات الايرانية والسورية والاوكرانية وجنوب شرق آسيا واميركا اللاتينية واخيرا نشر الصواريخ في بريطانيا وبولندا وبلغاريا ورومانيا، التي تتناقض مع اتفاقية حلف الناتو + روسيا في 1997، تعكس تصاعد وتيرة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة ومعها اوروبا العجوز واليابان من جهة وبين روسيا الاتحادية والصين الشعبية وايران وعدد من الدول في اصقاع العالم المختلفة.
لم تعد الحرب الباردة محكومة بالايديولوجيا بعد التحولات الاستراتيجية في روسيا الاتحادية والصين وان بمعايير مختلفة نسبيا، بعد ان امسى اقتصاد تلك الدول يعتمد على اقتصاد السوق والخصخصة، وبالتالي تبنيه النهج الرأسمالي. عاد العالم مجددا للحرب الباردة للصراع على مواقع النفوذ وتقاسم الثروات في قارات ودول العالم المختلفة. الامر الذي يحمل في طياته فتح ابواب حرب عالمية ثالثة ولو بعد حين. لان الولايات المتحدة الاميركية، التي بدأت تتراجع مكانتها الدولية نتاج ازماتها العميقة، ومديونيتها الاعلى في العالم، وإفلاس سياساتها على اكثر من مستوى وصعيد، ولوقوفها بشكل عبثي مع قوى الاستعمار وخاصة دولة التطهير العرقي الاسرائيلية، لن تسمح لروسيا او الصين الوقوف في وجه مطامعها ومصالحها الحيوية، التي تمتد على كل الكرة الارضية ونصفيها الغربي والشرقي، مما يدفع قيادتها للجوء للخيار صفر، وفرض سيطرتها على العالم ولو بقوة السلاح.
بالتأكيد السلاح ايا كان نوعه وقوته، بقدر ما يكون عامل قوة في يد الدولة، التي تمتلكه، بقدر ما يكون عبئا عليها، ولا تتمكن من استخدامه في كثير من الاحيان. اضف الى ان هناك عمرا افتراضيا لكل امبراطورية مهما عظمت قوتها، بالتالي ليس بالضرورة ان تكون اسلحة اميركا، عامل قوة، لكن هذا لا يمنعها من الدفاع عن مكانتها ودورها الاول في العالم. المؤكد ان الحرب الباردة، عادت تظلل المشهد السياسي والعسكري الاقليمي والدولي.