حكاية محكمة الجنايات الدولية في لاهاي هي إحدى المفارقات التاريخية الأكثر تميزاً؛ لقد نجح الفلسطينيون في استخدامها بطريقة تشكل تهديداً حقيقياً على إسرائيل التي تقوم من جانبها ببذل الجهود الكبيرة لكي لا يطالب الفلسطينيون بالعضوية فيها، فيستغلوا هذه العضوية في رفع الشكاوى ضد إسرائيليين.

الأمريكيون انضموا الى إسرائيل، فهم أيضاً يطالبون الفلسطينيين بعدم استخدام هذه القنبلة النووية، لكن الفلسطينيين من ناحيتهم راضون عن نجاحهم في تحويل هذا التهديد الى أداة فاعلة في لعبة الشطرنج الإقليمية.

صحيفة "اسرائيل هيوم " قالت " إن الذي لا يعرف ما يجري في حينا يمكن ان يعتقد حقاً اننا مقتنعون بأن بعضنا قام فعلاً بارتكاب جرائم فظيعة، لذلك فإننا نخرج عن طورنا لنخفي مخالفاتهم، ومن هنا يستطيع ان يفهم أيضاً ان الجانب الفلسطيني يعمل وفق الكتاب، ولا يحيد عن أي نص في القانون الدولي، ولذلك فهو طليق اليدين في اتهامنا بكل ما يريد دونما خشية مما نمتلكه من ملفات، لا أفهم كيف حُشرنا في هذه الزاوية التعيسة الى هذا الحد".

وتابعت الصحيفة قولها " إذاً علينا ان نعرف ان من وراء إقامة محكمة الجنايات، وهي الفريدة في تخصصها، فهي المحكمة الدولية الوحيدة التي تحاكم أشخاصاً وليس دولاً فقط، والعقل اليهودي هو الذي وقف في الماضي من بعد الحرب العالمية الأولى وراء ظهور الآراء القائلة بإقامة إطار يتعاطى مع المسؤولية الشخصية للقادة السياسيين والعسكريين في ارتكاب جرائم الحرب، كان الهدف من ذلك هو جعل أولئك الأشخاص يفهمون انه ليس بإمكانهم الاختباء وراء المؤسسات (الحكومة والجيش والشرطة الأمنية)، ولكي يكون بالإمكان ردعهم عن القيام بالأعمال الفظيعة، ولكن أي رأي من هذه الآراء لم يتحقق الى ان اندلعت الحرب العالمية الثانية أو قل إلى أن وقعت الكارثة ليهود أوروبا؛ حينها فقط ظهرت مرة أخرى الحاجة الى التعاطي الدولي مع موضوع المسؤولية الشخصية عن الأعمال الوحشية، وأقيمت محكمتان دوليتان في نورمبيرغ وطوكيو، وأوكلت إليهما صلاحية التعاطي مع الجرائم ضد الإنسانية، والجرائم ضد السلام، وكلاهما ألغيتا بعد انتهاء المحاكمات، وتوجهت الجهود بعد الاربعينات إلى إقامة محكمة ثابتة يمكنها ان تحكم وفق قرارها أو قرار مجلس الأمن في الحالات الشخصية التي تقدم إليها".

واذا عدنا للتاريخ فأن حقوقيون إسرائيليون ويهود غير اسرائيليين كانوا هم المحرك الأساسي في محاولة إقامة هذا الإطار الجديد، أناس مثل الدكتور شبتاي روزان، الذي عين كمستشار قانوني من قبل وزارة الخارجية، رأى في المحكمة إمكانية محاكمة النازيين الذين اختبأوا في دول مختلفة أو كواحدة من أهم عناصر الردع التي تمنع ارتكاب جرائم الحرب في المستقبل، لقد كُتبت المسودات ولكن شيئاً لم يحدث.

الحرب الباردة منعت إقامة المحكمة لأن كل طرف تخوف من استخدام الطرف الآخر للمحكمة لإدانته، وكان البديل عن ذلك سلسلة من المواثيق التي وقعت عام 1949، والتي دعت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الى سن قوانين ضد التنكيل بالمصابين والقتل الجماعي وأمور أخرى، وعندما قرر المجتمع الدولي ان يحاكم مشتبهين بمخالفات للقانون الدولي أقيمت لهذا الهدف محاكم خاصة.

عندما سقطت الشاشة الحديدية؛ تجددت الجهود لإقامة محكمة الجنايات الدولية، وكان اليهود مرة أخرى، ومنهم الإسرائيليون، عنصراً مركزياً في دفع العملية التي استمرت حوالي تسعة سنوات، إلى ان أقيمت المحكمة، وفي العام 1988 وُقع ميثاق روما الذي أقامت من بعده 120 دولة تلك المحكمة.

والمثير للدهشة والاستغراب ان اسرائيل لم تكن واحدة من هذه الدول، الاضافة المصرية التي مكنت من مقاضاة الدولة المحتلة إذا نقلت مواطنين مدنيين الى مناطق احتلالها؛ الأمر الذي أحدث فتحة يمكن من خلالها إدانة إسرائيليين بتهم مسؤوليتهم عن الاستيطان في المناطق؛ هذا التفسير لم يكن الوحيد الذي جعل حكومة الاحتلال في حينه تعارض الميثاق وتنسحب من اللعبة.

الولايات المتحدة التي امتنعت بشكل عام عن التوقيع على المواثيق الدولية، قررت أيضاً عدم التوقيع على هذا الميثاق خشية من ان يتعرض جنودها المنتشرون في أنحاء العالم في إطار قوات السلام التابعة للأمم المتحدة وفي أطر أخرى الى محاكمة غير عادلة.
مر عامان، ولغاية 31 ديسمبر 2000، حيث أصبح من الممكن الانضمام الى الميثاق دون التوقيع عليه (تأييد أخلاقي للميثاق دون ان تدفع الدولة العضو رسوم اشتراك للمحكمة، ودون ان يسري عليها التزام ارسال المشبوهين بارتكاب المخالفات للمحكمة).

الجدل الداخلي في دولة الاحتلال لم يكن بسيطاً؛ فمن ناحية كان هناك من رأى في كل مؤسسة دولية مشكلة شائكة، وتخوفوا بأن تكون أداة أخرى لتوجيه الضربات الى إسرائيل.

عقدت الحكومة الاسرائيلية  جلستها في اليوم الأخير من العام 2000 قبل انتهاء المهلة الأخيرة للتوقيع على الميثاق دون الالتزام بساعات، وكان التقدير ان الولايات المتحدة لن توقع هي أيضاً، من أجل ذلك اقترح على الحكومة ان تتخذ قراراً توقع اسرائيل بمقتضاه قبل انتهاء اليوم على الميثاق شريطة ان تفعل أمريكا ذات الشيء، انتظرت المناصرون للتوقيع بشغف القرار الأمريكي، وفي النهاية قررت حكومة كلينتون بألا تكون خارج إطار المنظمة الجديدة ووقعت على الميثاق، وقبل منتصف الليل بقليل أضفنا توقيع إسرائيل، بدأت المحكمة عملها  في الأول من يوليو 2002، حيث التزمت حوالي 60 دولة بالميثاق، ومن ساعتها ناقشت المحكمة المخالفات التي ارتكبت ابتداءً من ذلك اليوم، وما تلاه من الأيام.

الولايات المتحدة في عهد بوش أعلنت انها لن تصادق على انضمامها الى المحكمة، واسرائيل في عهد شارون أرسلت رسالة مشابهة، ومن حينها تحولت المحكمة إلى عدو لإسرائيل .