تفيد القراءة الأولى، لما رَشَح عن توافق بين نتنياهو ولبيد وزير المالية في حكومته، حول الأرقام والمفردات التي تساعد على طي صفحة الخلاف المتعلق بالموازنة العامة؛ أن أقطاب الخلاف الأربعة (نتنياهو ولبيد وليبرمان وبينيت) حريصون على تحاشي الذهاب الى انتخابات جديدة، في حال سقطت الحكومة بسبب الفشل في إقرار الموازنة. فهؤلاء يرون أن الانتخابات لن تكون مناسبة لهم بعد الحرب على غزة!
في هذا السياق، حاول نتنياهو ولبيد، الحفاظ على وضعيهما السياسي وهيبتهما في حكومة الكيان وفي المشهد الاسرائيلي العام. وجاء التوافق، ليلبي مطالب الجيش الذي يطالب برفع موازنته الضخمة، التي تصل الى 20 مليار دولار، وتعويضه بمبلغ ثلاثة مليارات دولار أخرى، عن خسائر الحرب على غزة. وبخلاف ما يترتب على هذا التوافق، من زيادة في عجز الموازنة (من 2.5% الى 3.4) فإن رفع مخصصات الجيش - في إطار التوافق - بنصف ما يطلبه، والتعامل مع الموازنة باعتبارها إطاراً عاماً، لا يُلزم الحكومة بكل تفاصيله؛ فإن أجراس الخطر دقت على أبواب وزارات الخدمات، التي سيصار الى اقتطاع مخصصاتها، ما دعا زعيمة «ميرتس» زهافا غالئون، الى القول «إن ميزانية الجيش الدسمة، تأتي على حساب القطاعات الضعيفة في المجتمع، مثل العرب والحريديم، لا سيما وأنها ستُخصم من ميزانيات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
اللافت في الأمر، أن الدولة التي تحكم سلوكها وتحدد مصيرها نزعة عسكرية عدوانية؛ تصبح حيال كل أزمة لإقرار الموازنة، هدفاً لاستقواء مكوّنها العسكري الغالب. فكلما اختلف الساسة حول تلبية طلبات الجيش، سرعان ما تُشاهد للعيان، مظاهر التمرد حتى يرضخ الساسة والجميع، فيتوارى جوهر الديمقراطية المدعاة، خلف موقف الجيش الذي لا يختلف كثيراً عن مواقف العسكرتاريا في الدول الإفريقية الضعيفة. ففي كل مرة، كان الجيش يهدد بوقف التدريبات والطلعات الجوية، فيسري الرعب في أوصال الساسة والجمهور ويرضخون. هكذا هو الحال في دولة يسكنها قلق وجودي.
ومثلما يُمارس الاستقواء بجبروت السلاح، ضد الفلسطينيين، يصبح الهدف في فترات الهدنة ووقف النار، هو الحصول على المزيد من الترف المالي، على حساب يهود شرقيين، وعرب في أرضهم المحتلة في العام 1948، واقتصادات أخرى، في مقدمها الاقتصاد الفلسطيني. لذا سُمعت أصوات من الأوساط الضعيفة التي تدفع الثمن، تقول إن سياسة الحرب التي تتبعها الحكومة تأخذ الدولة الى اقتصاد فاقد للاستقرار ويعاني مالياً فيزداد شراسة ومقامرة وظلماً للضعفاء. هذه الأوساط نادت بحلول مع الفلسطينيين. بل إن موشي يعلون نفسه، وزير الحرب، قال إن إسرائيل ينبغي أن تكون معنية بوضع آخر، تجسده تسوية، وينقل الفلسطينيين من حال الذي ليس لديه ما يخسره، الى حال من يصبح لديه ما يربحه. وفي كل الأحوال، يظل مثل هذا المنطق عنصرياً ينحو الى قيام تسوية زائفة تفتقر الى العدالة، على قاعدة الحرب والتلويح بها.
من بين كل ما يجري الآن، داخل حكومة العدو وحول الموازنة، نستنتج أن إسرائيل التي شنت الحرب الإجرامية على غزة في ظروف دولية وإقليمية وفلسطينية مواتية لها؛ قد تخلخلت واستبد بها قلقها الوجودي، ما يجعلنا نتساءل: ماذا لو كان حال الإقليم العربي أفضل، وكان هناك من يساند الفلسطيني؟!
إن مفردات خلاف الموازنة بعد الحرب، يمكن أن تؤخذ كواحدة من الوسائل الإيضاحية لإقناعنا جميعاً بأهمية الوحدة والصمود والأخذ بالأداء السياسي الوطني الرشيد، الذي يحظى باحترام الأمم. إن المقابل الموضوعي للذات القلقة عندهم، هو الذات المطمئنة المنسجمة عندنا. فنحن أصحاب أهم قضية عادلة على الدولي، نواجه دولة تتداعى أخلاقياً وذات نزعة عسكرية عدوانية، لم يُكتب لمثلها فلاحاً مديداً على مر التاريخ!