ها قد انتهت الأشهر التسعة، التي استغرقتها مفاوضات، مباشرة وغير مباشرة. مفاوضات مكثفة، وصعبة للغاية، ولكن بدون أن تحقق، التسوية، أو التقدم، المطلوب الذي سعت الولايات المتحدة إلى تحقيقه.
 
الإدارة الأميركية لم تدخر جهداً، لتأكيد جدية مساعيها، التي انشغل فيها وزير الخارجية جون كيري وفريق كبير، مقيم، وبدعم وتأييد واضح من قبل الاتحاد الأوروبي، الذي يلعب أدواراً مهمة من خلف الستار، لكنها مرئية من قبل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
 
الطرف الإسرائيلي بقي على حاله، يمارس سياساته وفق مخططات مرسومة مسبقاً، وقراءات لم تتغير، للبيئة الإقليمية والدولية، رغم كل ما يعتريها من متغيرات كبيرة، وبدون التفات، لسياسات ومصالح حلفائه الأميركيين والأوروبيين.
 
بوجود أو غياب المفاوضات تواصل (إسرائيل) مخططاتها الاستيطانية والتهويدية، وقضم الحقوق الفلسطينية، وليس في وارد قيادتها أي احتمالية لتسوية على أساس رؤية الدولتين، التي أصبحت رؤية عالمية الأمر الذي نفترض أنه يضعها في مواجهة مع المجتمع الدولي.
 
مخرجات التطرف الإسرائيلي لا تقف عند حدود ما تنفذه من مخططات على الأرض، ذلك أن صنّاع القرار يعملون وفق منظومة فكرية سياسية شاملة تقوم على مواصلة الاحتلال، وتصعيد وتوسيع دورها ونفوذها ومصالحها في الإقليم والانزلاق أكثر فأكثر نحو العنصرية، الأمر الذي حذر منه كيري مؤخراً.
 
نتنياهو الذي فشل في دفع الفلسطينيين للاعتراف بشرط يهودية الدولة، يعمل على تقديم مشروع قانون في الكنيست يكرس الطابع اليهودي ل(إسرائيل) بالرغم من غياب الإجماع حول هذه المسألة.
 
الغريب في الأمر، أن وزيرة العدل، ومسؤولة ملف المفاوضات تسفي ليفني التي كانت تضغط على الفلسطينيين للقبول بشرط يهودية الدولة، هي نفسها من بين أوائل من اعترضوا على مشروع نتنياهو، لأنه يمس من وجهة نظرها بالديمقراطية الإسرائيلية، وسنلاحظ، أيضاً، أن آخرين سيفعلون الشيء ذاته، ونقصد الاعتراض على ما كانوا للتو ينادون به.
 
شمعون بيريس، الرئيس الفخري لدولة (إسرائيل)، انتقد مواقف وسياسات الحكومة بطريقة دبلوماسية، حين صرح بأنه أجرى مفاوضات مهمة ومكثفة مع الرئيس محمود عباس، في أوقات سابقة، وأنه كان على وشك التوصل لاتفاق لكن نتنياهو تدخل وطلب تأجيل الأمر، ما يؤكد أن (إسرائيل) لم تكن وهي ليست في وارد تحقيق تسوية مقبولة مع الفلسطينيين.
 
المفاوضات انتهت، والأرجح أن كل الأطراف المهتمة بها، وخصوصاً الفلسطينيين باتوا يدركون ربما استحالة التوصل إلى تسوية مع مثل هذه الحكومة، ولكن البعض لا يزال يشغل نفسه بإعلانات تطالب بوقف المفاوضات، والإقلاع عن هذا الخيار كلياً، ولا يزال يتحدث بلغة الاتهامات والتشكيك، وأحاديث التفريط والاستسلام والتنازلات.
 
من جانبها، الولايات المتحدة، أعلنت بلسان رئيسها باراك أوباما عن وقف جهودها لتقييم الوضع، والبعض يعتقد بأن النية تتجه نحو أن تنفض الإدارة الأميركية يدها من هذا الملف، وأن تقلع عن القيام بأي جهد في اتجاه تفعيل عملية السلام.
 
غير أن موقف الإدارة الأميركية اليوم ليس هو بالضبط موقفها بالأمس، أي قبل استئناف المفاوضات، إذ ان أكثر من مسؤول أميركي أعلن عن أن (إسرائيل) هي التي تتحمل المسؤولية عن فشل المفاوضات، وكان مارتن انديك، المنخرط مباشرة وكلياً في المفاوضات، هو الذي أعلن بعظمة لسانه، أن سياسة الاستيطان هي المسؤولة عن إفشال المفاوضات.
 
الانطباعات السابقة، ولفترة طويلة، هي أن انديك الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في (إسرائيل) لفترة طويلة، هو من أكثر المتعاطفين مع (إسرائيل)، ولذلك فإن موقفه ينطوي على أهمية كبيرة.
 
انديك سيلحق بالسيناتور المخضرم، جورج ميتشيل الذي أدرك مبكراً، مدى صعوبة تحقيق نجاح، إزاء تكليفه من قبل الرئيس اوباما بهذا الملف، خلال الأشهر الأولى من ولاية اوباما الأولى، ولذلك فضل أن ينسحب من هذا الملف.
 
يقال، بحسب الصحافة الإسرائيلية إن فريقاً من الدبلوماسيين والسياسيين الأميركيين القدامى، ينوي زيارة المنطقة، لإحياء المحاولات من أجل عودة الدور الأميركي، واستئناف المفاوضات، في محاولة غير رسمية ربما لتجنب الإعلان الصريح عن الفشل الكبير، الذي ينطوي على هزيمة مرة، للأخ الأكبر على يد الأخ الأصغر.
 
ولكن هل ينجح الوفد القادم في تغيير ما لم يستطع كيري وفريقه في تغييره عند حكومة المستوطنين، أم أن عليه أن يحمل إرادة مختلفة تنطوي على إمكانية تطبيق العقاب، بعد أن استنفدت الإدارة الأميركية تطبيق سياسة الثواب والإغراءات لحكومة نتنياهو؟
 
وإذا كان لنا أن نسقط رغباتنا ولو لمرة واحدة، فإن حجم ونوع الإهانات التي وجهتها حكومة نتنياهو السابقة والحالية، للإدارة الأميركية، فإننا أو ان علينا، أن نتوقع بأن تبادر إدارة الرئيس اوباما، للدفاع عن كرامتها ودورها في المنطقة ومصالحها، التي تلحق بها السياسية الإسرائيلية أضراراً بليغة هي أي الإدارة الأميركية في غنى عنها، ومن غير المقبول السكوت عنها.
 
بالنسبة للطرف الفلسطيني، فقد خاض معركة المفاوضات بامتياز، وهو على خلفية إدراكه لاستحالة تحقيق سلام مع (إسرائيل) بسبب تطرف قيادتها. نقول على هذه الخلفية، اتبع الرئيس محمود عباس سياسة نزع الذرائع، وسياسة "لاحق العيار لباب الدار"، وهو يعرف النتيجة ولكن الهدف هو تغيير المناخ الدولي والإقليمي لصالح القضية الفلسطينية.
 
لم تحصل تنازلات، ولا حصل تفريط، ولم يتم التفريط بالكرامة الشخصية أو الوطنية، لكن ما جرى يشكل إنجازاً، يؤسس وضعية في السياسة يمكن البناء عليها لتحقيق المزيد من الإنجازات على المستوى الدولي ونحو عزل (إسرائيل).
 
المفاوضات بالشكل الذي تعاطت معه القيادة الفلسطينية، كانت معركة تكتيكية ناجحة، والحال أن (إسرائيل) ما كانت لتتوقف عن مواصلة تنفيذ مخططاتها وسياساتها، لا في حال وجود مفاوضات ولا في حال غيابها. يمتد النجاح في هذه المعركة التكتيكية، إلى المصالحة التي كانت ستواجه عقبات كبيرة، في ظروف مختلفة، حيث تقف (إسرائيل) وحدها في مواجهة هذا الاستحقاق الوطني.