بعد مرور عشر سنوات على إطلاق مبادرة السلام العربية بالقمّة العربية في بيروت، وفي غمرة كل هذه التطوّرات العاصفة، وبعد كل هذه المتغيّرات الدراماتيكية والتحوّلات التاريخية التي شهدتها منطقتنا على مدى عقد كامل من الزمن، يبدو أنّ التذكير بمبادرة السلام العربية، الذي يبدو وكأنه ضرب من ضروب الحنين إلى ماضٍ مضى، وشعور يستبد عادة بالمفعمين بالمرارات والإخفاقات وخيبات الأمل.

وها نحن اليوم نفتح صفحة هامة من سجل أهمية الأطراف المعنية كـ غيره من السجّلات الهامة، ونطرح الأسئلة على الذات، ثم نعيد طرحها على الملأ: لماذا لقيت أول مبادرة سلام عربية من نوعها في تاريخ الصراع كل هذا الصدّ والتنكّر؟ كيف جرى تفويت هذه الفرصة النادرة؟ وهل يمكن اليوم إعادة بعث الحياة في عروقها اليابسات من جديد؟ في أعقاب القمّة العربية في العراق.

لعل عرض السلام الذي تقدّمت به أعلى مرجعية رسمية عربية، والممهور بتواقيع القادة العرب كافة، كان المبادرة الوحيدة من بين سلسلة طويلة من مبادرات السلام، التي لا يمكن التلاوم عن المتسبّب في ضياعها، وتقاذف كرة المسؤولية عن تفويتها هكذا في وضح النهار، حيث كان العرض هذه المرة عربياً خالصاً، فيما كان الرفض إسرائيلياً تاماً، إن لم نقل أنه كان رفضاً فورياً معززاً بالجرّافات والحديد والنار، وبإعادة إحتلال الضفة الغربية على رؤوس الأشهاد.

كان عرض السلام العربي هذا بمثابة دعوة صريحة إلى التصالح والتعايش وحسن الجوار، إجتاز فيه العرب لاءاتهم التاريخية المرفوعة عالياً منذ قمّة الخرطوم عام 1967، أقرّوا فيه بوجود إسرائيل، وتقدّموا من خلاله بيد ممدودة بالسلام الكامل مقابل تطبيع كامل للعلاقات، ووضعوا حدّاً نهائياً لإدعاء إسرائيل الرائج بأنّ العرب يرفضون الإعتراف بها، ويتربصون بها.

وأكثر من ذلك، فقد كانت هذه المبادرة، التي وضعت أسسها المملكة العربية السعودية، بكل ما لها من وزن سياسي وقيمة معنوية ومكانة دينية، تعبيراً عن تحوّل في المواقف، وإجتيازاً للخطوط الحمراء العربية السائدة منذ بدايات الصراع، ونزوعاً إلى الحلول الوسط على نحو غير مسبوق، للوصول إلى السلام المنشود فعلاً، أو كـ رفع القناع عن وجه المخاطبين بهذه المبادرة وحقيقة رغبتهم في السلام المنشود.

وبإستحضار مكوّنات البيئة السياسية التي تخلقت فيها مبادرة السلام العربية، لا سيما المناخ الدولي الذي ساد بعد الهجوم الرهيب على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر عام 2001، والإنتفاضة الفلسطينية الثانية التي وقعت عشية ذلك الهجوم، فقد بدت هذه المبادرة أقرب ما تكون إلى هجوم سياسي عربي، لوقف حالة التدهور المتفاقمة في الأراضي الفلسطينية من جهة، ومنع المراكمة على الصورة النمطية المتكوّنة لدى الغرب عن العرب كـ قوم من المنتجين للنفط والإرهاب.

ومع أنّ هذه المبادرة التي إرتبطت حينها بإسم ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، فقد قوبلت بردود فعل إيجابية من جانب قادة الولايات المتحدة، بمن فيهم الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته كولن باول ومستشارته للأمن القومي كونداليزا رايس، إلاّ أنّها وقعت على أذن إسرائيلية صماء وذهنية مغلقة على الذات، إن لم نقل أنها جوبهت بالتجاهل والإزدراء، وبالرفض المدوي من خلال تحريك الأرتال العسكرية وإحكام الحصار على مقرّ الشهيد الرمز الخالد ياسر عرفات. 

وبالعودة إلى تلك المبادرة التي صدرت في ختام قمّة بيروت لعام 2002، نجد أنّ العرب طالبوا إسرائيل بأن تعيد النظر في سياساتها، وأن تجنح إلى السلام معلنة أنّ السلام العادل هو خيارها الإستراتيجي، على أساس الشرعية الدولية وقراراتها: بالإنسحاب الكامل من كافة الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وحلّ عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، والإقرار بقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، تكون القدس الشرقية عاصمتها.

في مقابل ذلك تلتزم الدول العربية بإنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار السلام الشامل وإعتبار الصراع العربي - الإسرائيلي منتهياً، وتحقيق الأمن لجميع دول المنطقة.

وفي الجلسة الإفتتاحية المنقولة عبر شبكات التلفزة من قاعة القمّة، خاطب ولي العهد السعودي الإسرائيليين مباشرة لأول مرة، قائلاً: " إسمحوا لي أن أوجه الآن أقوالي مباشرة إلى الشعب الإسرائيلي، وأن أقول له إنّ طريق العنف خلال أكثر من خمسين عاماً لم يجلب إلاّ الدمار، والمجتمع الإسرائيلي ما زال بعيداً عن تحقيق السلام والأمن، وذلك رغم تفوّق إسرائيل العسكري ومحاولاتها تحقيق ذلك بالقمع والتعذيب. فالسلام ينبع من العقول والقلوب، وليس من فوّهة المدافع ونيران الصواريخ. حان الوقت لإسرائيل كي تراهن على السلام بعد أن راهنت على الحرب طوال العقود الماضية، إن على الإسرائيليين أن يفهموا أنه لن يتحقق السلام طالما إستمرت إسرائيل في إحتلال الأراضي العربية. أما إذا إختارت إسرائيل إرجاع الأراضي العربية المحتلة لأصحابها، فإنها تعبّر بذلك عن رغبتها في سلام حقيقي، وحين ذلك لن نتردد في قبول الشعب الإسرائيلي ليعيش بأمن بين شعوب المنطقة ".

وبالرغم من الأوضاع المأساوية التي كان يعيشها الشعب الفلسطيني آنذاك، وشدّة الحصار وأخطاره الداهمة حول مبنى " المقاطعة " في رام الله، أصدرت القيادة الفلسطينية بياناً رحّبت فيه بالمبادرة العربية فور صدورها، غير أنّ الطرف الإسرائيلي الرسمي، الذي بنى خطابه التاريخي على زعم أساسي قوامه أن العرب يرفضون يد إسرائيل الممدودة، ويضمرون في قرارة أنفسهم هدف إزالة الدولة العبرية، قابل هذه الدعوة العربية الجماعية غير المسبوقة بالتجاهل تارة وبالتسخيف تارة أخرى. فقد سارع بعض الناطقين في حكومة أرئيل شارون إلى التشكيك في المبادرة العربية، وإعتبرها البعض الآخر عقيمة، بما في ذلك إستعداد الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل إذا وفت بالشروط الواردة في كل من خطاب ولي العهد السعودي والمبادرة العربية ذاتها.

لم تكتفِ إسرائيل بتجاهل مبادرة السلام العربية والحط من قدرها وأهميتها التاريخية، بل وأيضاً عمدت في الوقت ذاته، وقبل أن يجف حبر هذه المبادرة، إلى شنّ أكبر وأوسع عدوان عسكري شامل في الضفة الغربية، منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو ما بدت معه هذه العملية، كما ذكرنا سابقاً، كأنها الردّ الإسرائيلي الملموس على العرض العربي الجماعي بتحقيق السلام العادل والشامل المتمثل في مبادرة السلام العربية، أكثر مما بدت كردٍ على سلسلة من العمليات المتتابعة في ذلك الوقت ضد أهداف إسرائيلية في كل من نتانيا وحيفا والقدس.

على أي حال واصل العرب، رغم ردود الفعل الإسرائيلية الرافضة لهذه المبادرة والمتعجرفة، التمسّك بمبادرتهم السلمية هذه، حيث نالوا بعد عدّة أشهر تصديق سبعة وخمسين من أعضاء مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي، ثم أعادوا تبنيها بعد سنة أخرى في مؤتمر القمة العربي التالي، وظلوا كذلك طوال السنوات الطويلة اللاحقة يعاودون تقديم هذا العرض وسط اعتراضات متفاوتة، أخذت تبرز من جانب بعض الاطراف العربية إلى أن توصل القادة العرب إلى مبادرة السلام العربية لن تبقى هكذا على الطاولة إلى أجل غير معلوم. 

وإذ نستعرض اليوم في هذه العجالة، أهم مكوّنات مبادرة السلام العربية الموءودة، ونستذكر بعضاً من محطاتها الرئيسة المبكرة، من قبيل " ذكّر إن نفعت الذكرى " فإننا نود أن نغتنم الذكرى السنوية العاشرة لهذه المبادرة الاستثنائية، كي نستنبط العِبَر الثمينة من مآلات هذا الجهد العربي الجاد لتحقيق السلام العادل والشامل، والقبول بإسرائيل كـ طرف مقبول في المنطقة، لقاء انسحابها من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وموافقتها على قيام دولة فلسطينية ذات سيادة تكون القدس الشرقية عاصمة لها.

وفيما كان أصحاب المبادرة العربية يجددون عرضهم هذا في كل قمة لاحقة، تولت القيادة الفلسطينية بنفسها طرح المبادرة على الرأي العام الإسرائيلي وعلى الرأي العام الدولي مباشرة، بترجمتها إلى العبرية واللقاءات الاخرى ونشرها في كُبريات الصحف اليومية الإسرائيلية والعالمية، كما تم مناقشتها وجهاً لوجه مع بعض النخب الفكرية وجنرالات متقاعدين وقادة حزبيين وباحثين مهمين، وغيرهم من ذوي الحضور البارز في الطبقة السياسية الإسرائيلية، لعل ذلك كله يحدث اختراقاً ما في حائط الصد المنيع الذي أقامته الحكومات الإسرائيلية وعلى المستوى الدولي المتعاقبة أمام عرض السلام العربي الأول من نوعه. 

على أي حال، وفي غمرة كل هذه المتغيرات التي تعصف بالمشهد الإقليمي من حولنا، بما في ذلك التحولات غير المكتملة التي أتى بها الربيع العربي، فإنه يجدر بنا اليوم أن نتوقف كما يتوقف الشعراء على الأطلال، كي نستخلص ما يمكن استخلاصه من دروس مفيدة، تزاحمت في مدار عقد كامل من زمن مبادرة عربية فقدت زخمها.

ولعل أول هذه الدروس المستخلصة ماثل ملء عين الشمس، يلمس لمس اليد ويرى بالعين المجردة، وهو أن إسرائيل، بكل ما لديها من فائض قوة، ومن نهم شديد إلى ابتلاع مزيد من الأرض، وميل تاريخي إلى إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه، ليست اليوم في وارد القبول بتسوية سياسية، أو الدخول في لعبة تفاوضية جدية، حتى وإن خاطب العرب أعمق هواجسها، وردوا بالإيجاب على أعقد أسئلتها الوجودية، وبسطوا لها اليد بالسلام والتعايش وحسن الجيرة، طالما أنها تدرك مدى الخلل القائم في ميزان القوة الراجح بشدة لصالحها.

وثاني هذه الدروس قائم على رؤوس الأشهاد، وهو أن أي عرض لتحقيق السلام مع الدولة التي قامت على مبدأ القوة، لن يكون مقدراً له النجاح مهما كان سخياً واشتمل على إغراءات كبيرة، إذا لم يكن له أسنان، وكان مقروناً بما هو أشد أهمية من النوايا الطيبة والرغبات الذاتية المخلصة، ونعني بذلك أن يكون مثل هذا العرض لديه مقومات الدفاع عن نفسه، ومتبوعاً باستخدام ما لدى العرب من طاقات كامنة على الصعد السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها من مفردات اللغة القابلة للترجمة على أرض الواقع، والفهم من جانب الأسرة الدولية 

أما ثالث هذه الدروس وأهمها على الإطلاق فهو كامن في ما يمكن أن نسميه بناء مسار يزاوج بين رفع سوية العامل الذاتي الفلسطيني في الصراع مع الاحتلال، وزيادة كفاءة الحاضنة العربية المؤهلة موضوعياً لتقديم عرض سلام، مثل مبادرة السلام العربية، لديها روافع رسمية قوية، وكلمة مسموعة لدى من في سمعه وقر مثل إسرائيل، ولها عين حمراء يراها كل من له بصيرة من دول الاقليم والدول العظمى لا يريدون رؤية واقع عربي أخذ في التبدل عميقاً، منذ أن دالت دولة نظام عربي كان شائخاً، وحضر الشارع بكامل عافيته السياسية، وصار لاعباً يحسب حسابه في علاقات القوة المتغيرة على مسرح الشرق الأوسط كله.

ويظل السؤال: هل تظل مبادرة السلام العربية على الطاولة بعد هذه المدة الطويلة من تقديمها، أم تسحب لحساب خيار عربي آخر؟؟ أم عملنا ما علينا وما نستطيع كعرب، وكفى المؤمنين شر القتال؟؟