مرَّت ذكرى انتفاضة الحجارة في 8/12/1987 ولم تجد الاهتمام المطلوب إعلامياً خاصة على المستويات الشعبية والفصائلية، وهي المعنية أكثر من غيرها، ليس فقط بالاحتفال والاحتفاء، وانما بالاستفادة من التجربة الغنية الناجحة التي أثمرت دروساً وعبراً لا يمكن الاستهانة بها. لا بد من البحث والدراسة في المعطيات والحيثيات التي سادت الأراضي المحتلة في تلك المرحلة لأنَّ ذلك يعزز الدور الوطني، والتجربة الوطنية الشعبية.

ومن باب التذكير بهذه الذكرى المباركة، ووفاء للشهداء والجرحى الذين سقطوا آنذاك لابد أن نستخلص العبر التي بالإمكان الاستناد إليها في هذه المرحلة الراهنة والمستقبلية، حيث أثبتت تلك الانتفاضة التي اعتمدت على الوسائل الشعبية، والبرامج الوطنية قدرتها على تحريك الشرائح لتأمين الانخراط الكامل في مواجهة الاحتلال، واستعادة بريق الكفاح الوطني الفلسطيني وهنا نؤكد التالي:

أولاً: لقد جاءت الانتفاضة الأولى بعد أن عاشت الساحة الفلسطينية أقسى وأصعب الظروف المدمِّرة لوجود الثورة، وبنيتها التحتية، وحركتها السياسية، والبنية الداخلية، فقد بدأت المأساة بالاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان وصولاً إلى بيروت ومحاصرتها، ومروراً بالانشقاق الذي حصل، والانقسامات التي تتابعت على مستوى الفصائل الفلسطينية، وانسداد قنوات الحوار الداخلي بين الفصائل، وصولاً إلى أحداث المخيمات في لبنان، وازدياد الضغوطات الأمنية والاقتصادية. فالاوضاع الفلسطينية الدّاخلية متردية، والقضية الفلسطينية عاشت حالة اختناق خاصة أنها بعيدة عن دول الطوق مما يضعف دورها وتأثيرها.

ثانياً: لقد كان للشهيد أبو جهاد الدور المميَّز والفاعل بالتهيئة والتحضير لهذه الانتفاضة، وبالتالي نقل المعركة من الخارج إلى الداخل لتأمين عوامل إستمرار الثورة الفلسطينية، والتَّغلب على الاستعصاءات والمعوِّقات.

الشهيد أبو جهاد أثناء وجوده في الأردن عندما تم توقيع اتفاق عمان ركّز على تهيئة الشبيبة الفتحوية وقياداتها، وعلى تهيئة النقابات والجمعيات والروابط العشائرية، وعلى تحديد الأدوات والوسائل، وعلى وضع التكتيكات المطلوبة، ورسم الاستراتيجية المتعلقة تحديداً بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

ثالثاً: القيادات الشابة التي شَكَّلت فيما بعد القيادة الوطنية الموحدة وتشمل فصائل "م.ت.ف" الناشطة في ذلك الوقت، تمكنت من تجسيد الوحدة الوطنية؛ قراراً، ونهجاً، وممارسةً ميدانية، وتطلعاتٍ مستقبليةً، وهذه القيادة الشابة التي تتلمذت على يدي مهندس الانتفاضة الشهيد أبو جهاد لم يتأثر عملها بغياب قائد الانتفاضة في 16/4/1988، وانما إزدادت التضحيات، وعَنُفت المواجهات.إنَّ مبدأ العمل الواحد في إطار الانتفاضة شمل أيضاً التشكيل الاسلامي المكوَّن من حركتي حماس والجهاد،وقد تمَّ التغلُّب على نقاط الخلافات والتباينات بنوع من المرونة المسؤولة القائمة على أن الاحتلال الاسرائيلي هو العدو الأساسي، ولذلك غالباً ما كانت البرامج الميدانية موحَّدة ومنسجمة إلى حدٍ بعيد.

رابعاً: القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى تمكنت منذ البدايات أن تقيم المؤسسات، واللجان، والأطر المعنية مباشرة بقيادة العمل اليومي، وهذه المؤسسات واللجان كانت تقوم بدور شمولي يتناول مختلف مناحي الحياة من حيث التنفيذ، والتقييم، والمعالجة، والمتابعة، ووضع الخطط البديلة.

هذا النجاح الباهر جلب إنتباه العالم بأسره، ودقَّ أبوابَ عواصم الدنيا شرقاً وغرباً بما في ذلك أوروبا وأميركا، وأصبحت هناك معادلة جديدة من إبداع الطفل الفلسطيني. فالحجر الفلسطيني مقابل الرصاص الاسرائيلي، والمقلاع مقابل الميركافا، والكف تواجه المخرز، والصدور المليئة بالإيمان تواجه أحقاد العنصرية الصهيونية التلمودية.

خامساً: العالم في حالة استنفار تام، والعيون شاخصة بإتجاه أطفال الحجارة، باتجاه الجنود الصهاينة يطلقون رصاصهم على الأطفال والنساء، العالم اليوم أدار ظهره لإسرائيل لأول مرة لأنه عرف الحقيقة التي كانت مغيَّبة عنه، وها هي شمس الحقيقة تتفجَّر، وتشتعل في ساحات المواجهة اليومية بين المدنيين الفلسطينيين وبين الجنود المدججين حقداً وعنصريةً وسلاحاً.

الصحافة الدولية الاوروبية والاميركية وغيرها تجرأت على قول الحقيقة، وانتصرت لشعبنا، وتضامنت مع قضيتنا فكشفت عن أوامر رابين بتكسير عظام شبان الانتفاضة، كما كشفت عن فِرَق المستعربين التي تقوم بدور الاغتيالات لنشطاء الانتفاضة وخاصة فرقتي "الكرزة" و"شمشون"، كما تحدثت عن العقوبات الجماعية لإجهاض الانتفاضة، وكشفت عن عرقلة تصدير المزروعات إلى الخارج، ومحاولات إغراق السوق المحلي بإنتاج إسرائيلي لضرب الاقتصاد ولإحباط المزارع الفلسطيني. وبعض الصحف مثل صحيفة اللوموند الفرنسية تحدثت عن إنجازات الانتفاضة؛ فإرادة الشبان أقوى من الاحتلال، وما يجري هو ثورة ضد محاولات طمس القضية الفلسطينية، والانتفاضة أثبتت لإسرائيل أن ثمن الاحتلال سيكون باهظاً، كما أكدت عملياً ان الاحتلال الاسرائيلي الصهيوني شبيه بالنظام العنصري في جنوب أفريقيا.

سادساً: إنَّ العنصر الأهم من بين عناصر نجاح الانتفاضة هو القدرة الفائقة لدى قيادة الانتفاضة على تنظيم الجبهة الداخلية، وصياغة العلاقات بين مختلف الجهات المعنية بالقرار، وإدارة الحياة اليومية بكل تفاصيلها، ومن كل جوانبها، وذلك عبر تشكيل اللجان الاعلامية، والاقتصادية، والصحية، والتربوية، والأمنية، والاجتماعية، والسياسية. ولتحقيق المزيد من الضبط والربط، وتنفيذ قرارات القيادة تشكَّلت المحاكم، واللجان الأمنية، والجيش الشعبي. هذا العمل برمته لم يكن ليحقق الأهداف المرجوة لولا توافُر الثقة بالقيادات التي قادت الانتفاضة، هذه القيادات التي تميَّزت برجاحة العقل، والوعي الوطني والسياسي، والرؤية الواضحة ، ونظافة الكف، والتي تحظى باحترام وثقة كافة الشرائح. وهذه القضايا في الواقع هي من مقوِّمات القيادة الشعبية المطلوبة في كافة المراحل.

هذا الانجاز الوطني الهائل شكّل رصيداً لا بد من استثماره في المسيرة الكفاحية للشعب الفلسطيني، خاصة مع بروز ظاهرة الاجماع الفلسطيني على المقاومة الشعبية الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي مع انسداد أُفق عملية السلام، وجمود عملية المفاوضات.

فعندما تعلن واشنطن علناً أنها لن تعترف بالدولة الفلسطينية على حدود العام 1967، وعندما تصر الادارة الأميركية على أنه لا حل إلاّ المفاوضات التي تريدها هي حسب المعايير الاسرائيلية أي بدون وقف الاستيطان، وبدون مرجعية واضحة، وعندما تعلن الادارة الاميركية الاستسلام الكامل أمام حكومة نتنياهو ، ولا تجد أمامها إلاّ الجانب الفلسطيني تمارس عليه سياسة القمع والضغط والجلد، وبشكل يتنافي مع كافة القرارات الدولية، وينسف مصداقية هذا الراعي الأميركي لعملية السلام، الذي أثبت أنه راعٍ لوجود وحماية الكيان الاسرائيلي العنصري. عندما يحدث ذلك القهر كله للجانب الفلسطيني دون أي اعتبار لحقوق الانسان، ولحق الشعب في تقرير مصيره، فلا بد أن يكون الردُّ أشدَّ وضوحاً، وقد جاء ذلك من خلال البراعة القيادية الفلسطينية في اتخاذ القرارات المدروسة رغم الظروف المعقدة التي يعيشها الوضع الفلسطيني والتي عبَّر عنها الرئيس أبو مازن:

أولاً: أمامنا خيارات متعددة بعد التعنُّت الاسرائيلي والانحياز الاميركي إبتداءً، من الذهاب إلى مجلس الأمن والحصول على قرار دولي يعترف بالدولة الفلسطينية على حدود العام 1967 مروراً بخيارات أخرى كالذهاب إلى هيئة الامم المتحدة تحت بند "متّحدون من أجل السلام"، ثم محكمة لاهاي الدولية، والمحكمة الجنائية، وطلب الوصاية الدولية لحين الاستقلال الناجز".

ثانياً: التأكيد على أهمية التنسيق مع لجنة المبادرة العربية (13 عضواً) التي تمثل الجامعة العربية، وهذا التنسيق أثبت قوَّته ودعمه للموقف الفلسطيني الذي استقوى بالاجماع العربي ليرفض (المفاوضات مع استمرار الاستيطان)، ويرفض مؤخراً المفاوضات المتوازية التي اقترحتها واشنطن والتي لا تخدم سوى الكيان الاسرائيلي.

ثالثاً: نجح الرئيس أبو مازن في تجييش المجتمع الدولي ضد الموقف الاسرائيلي الرافض لوقف الاستيطان المرفوض دولياً، كما نجح في إقناع العديد من دول العالم بضرورة حماية عملية السلام من خلال الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967، والدول الآن تسارع للاعتراف مثل (البرازيل، والأرجنتين، وبوليفيا)؛ أو من خلال رفع التمثيل الدبلوماسي كما فعلت النرويج، والحبل على الجرار.

فالكيان الاسرائيلي الآن معزول في قفص التطرف والعنصرية، وواشنطن معزولة في قفص الضعف وتدمير عملية السلام، أما الرئيس أبو مازن فهو يقف في وسط الميدان على أرضية صلبة يعرف ماذا يريد، ويُحسن الاختيار.

رابعاً: العماد الأساسي لكافة الخيارات السياسية المشروعة التي تمَّ الحديث عنها هي المقاومة الشعبية التي بدأت بنماذج متواضعة في بلعين ونعلين، والمعصرة، والنبي صالح وغيرها، والتي يجب أن تتطور بشكل جاد، وفاعل، وشامل، وبنية تنظيمية صلبة قادرة على مواجهة التحديات المطلوبة، وقادرة على قيادة مختلف الشرائح الاجتماعية، وقادرة على كسب ثقة واحترام مختلف المرجعيات، والمؤسسات، والهيئات. لا بد من طليعة تنظيمية تمتلك الوعي والارادة الوطنية لنفض غبار الروتين الاجتماعي المتراكم عبر السنوات الماضية، وحركة فتح هي التي تتحمل المسؤولية الأولى في الإعداد للمرحلة القادمة من المقاومة الشعبية التي يجب أن تواكب العمل السياسي وتتطور معه، وتشكل حصانة له. وعلينا أن ندرك بأنَّ الانخراط الواعي في مقاومة شعبية مدروسة تتغذى من تجربة الانتفاضة الأولى هو الكفيل بإنهاء حالة الانقسام الفلسطينية من جهة، ومن جهة ثانية هو الذي يعيد القضية الفلسطينية إلى موقعها الدولي الطبيعي، ويحطّم كافة المحاولات التآمرية على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلى الأراضي والمقدسات الاسلامية والمسيحية. فهل من خطوات قريبة جادة وجريئة تتخذها قيادة حركة فتح لتحمل المسؤوليات الوطنية الجسيمة إلى جانب الرئيس أبو مازن؟؟، وبما يعني الاستعداد لإقامة بنية تنظيمية متماسكة قادرة على قيادة المرحلة بكل تعقيداتها!!.