مقدّمة

تسعى هذه الورقة إلى الوقوف على ظاهرةٍ تولّدت في السّنوات الأخيرة من داخل صفوف المستوطنين اليهود الإسرائيليّين في الضفّة الفلسطينية المحتلّة، ويطلق عليها تسمية "جباية الثّمن". وهي كما يبدو تنظيم فضفاض، ولكن مع قيادية مركزيّة توجّهه. ويسعى هذا التنظيم إلى زيادة تعزيز الاستيطان اليهوديّ في الضفّة الفلسطينية المحتلّة، ويستعمل العنف والإرهاب أساسًا ضدّ الفلسطينيّين وممتلكاتهم في الضفّة الفلسطينية المحتلّة، علاوةً على "جبايته الثمن" من أذرع السلطة الإسرائيلية احتجاجًا على عدم تبنّيها سياساته بالكامل إزاء الاستيطان. وتقف الورقة على خلفيّة نشوء تنظيم "جباية الثمن" وعلى بنيته التنظيميّة ومركباته، وعلى الأرضيّة الفكريّة التي يستند إليها.

ما انفكّت إسرائيل منذ احتلالها المناطق الفلسطينية في عام 1967 تعزّز مشروعها الاستيطانيّ في هذه المناطق. وتهدف جميع الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة -من خلال مثابرتها على زيادة الاستيطان- إلى خلق واقعٍ ديمغرافيّ جديد في الضفّة الفلسطينية المحتلّة، من أجل تهويد أكبر مساحة ممكنة منها تمهيدًا لضمّها إلى إسرائيل كحلٍّ مستقبليّ، سواء أكان هذا الحلّ مفروضًا من إسرائيل بفعل الأمر الواقع والتّقادم أو متّفقًا عليه مع القيادة الفلسطينية. ومن الملاحظ أنّ جميع الحكومات الإسرائيليّة هي التي بادرت -في العقود المنصرمة، وفي الغالبيّة العظمى من الحالات- إلى إقامة المستوطنات اليهودية في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة، وإلى توسيعها وزيادة عدد المستوطنين فيها.

تتحكّم في وتيرة زيادة الاستيطان في الضفّة الفلسطينية المحتلّة مجموعةٌ من العوامل المهمّة، وفي مقدّمتها سياسة التّهويد والتوسّع التي تلتزم بها جميع الحكومات الإسرائيليّة؛ والتي تحظى بتأييدٍ واسعٍ في صفوف المجتمع الإسرائيلي، ولدى الأحزاب السياسية وجماعات الضّغط والقوى الاستيطانيّة الفاعلة في المجتمع الإسرائيلي مهْما اختلفت الحكومات. وفي المقابل، تحدّ من وتيرة الاستيطان، كلّ من المقاومة الفلسطينية – إذ لوحظ تباطؤٌ جدّي في وتيرة الاستيطان إبان الانتفاضتين الأولى والثانية- والضّغط الدولي على إسرائيل، لا سيّما ذاك الذي يمكن أن تمارسه الإدارة الأميركيّة بهذا الشّأن. وعندما تتعرّض الحكومات الإسرائيلية إلى ضغط المجتمع الدوليّ، وخاصّةً من الإدارة الأميركية، فإنّها تستجيب في بعض الأحيان إلى هذه الضّغوط، وتعلن، في أحيانٍ نادرة، عن تجميد الاستيطان رسميًّا وشكليًّا، فيما تستمرّ فيه عمليًّا تحت ذرائعَ عدّة، وفي مقدّمتها استكمال بناء ما شُرع في بنائه، أو إتمام بناء ما تمّ إقراره نهائيًّا في لجان التخطيط. ولم يحدث أن توقّف الاستيطان فعليًّا منذ سنة 1967 وحتّى اليوم، وإنّما تغيّرت وتيرته بين فترةٍ وأخرى وفقًا للضّغوط الدولية لمحاولة إيقافه أو الحدّ منه؛ فالاستيطان يقلّ في فترات الضّغط، خاصّةً ضغط الإدارة الأميركية، ثمّ لا يلبث أن يعود بشكلٍ أسرع ما إن يخفّ الضّغط الدولي. ويصل اليوم عدد المستوطنين الإسرائيليّين في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة إلى 550 ألف مستوطن، وهو ما يعادل 10 في المئة من مجموع سكّان إسرائيل اليهود، ويعيش 250 ألف مستوطن في القدس الشرقية المحتلّة و300 ألف مستوطن في بقيّة أنحاء الضفّة الفلسطينية المحتلّة. وتولِي إسرائيل الأهميّة القصوى لتعزيز الاستيطان اليهودي في القدس الشرقيّة المحتلّة، إذ تعمل الحكومة والمؤسّسات الإسرائيلية الاستيطانيّة المختلفة على مضاعفة عدد المستوطنين اليهود في القدس الشرقيّة المحتلّة في العقدين القادمين. وقد كشف تقريرٌ إسرائيلي عن وجود 50 ألف وحدة سكنيّة استيطانية في مراحلَ مختلفة من التخطيط لبنائها في القدس الشرقيّة المحتلّة. ومن المتوقّع أن يُبنى قسمٌ منها في المستوطنات الإسرائيليّة القائمة في القدس الشرقيّة المحتلّة، بينما سيُبنى القسم الآخر منها داخل الأحياء العربية في القدس الشرقيّة المحتلّة( ).

ويضغط المستوطنون دومًا على الحكومة الإسرائيليّة من أجل إقامة المزيد من المستوطنات الجديدة في الضفّة الفلسطينية المحتلّة وتوسيع المستوطنات القائمة وزيادة عدد المستوطنين فيها. وغالبًا ما يزداد ضغطهم حدّةً في فترات استجابة الحكومة الإسرائيليّة للضّغط الدولي وقيامها بتخفيف وتيرة الاستيطان أو تجميده جزئيًّا( ). وكثيرًا ما يقوم المستوطنون بإنشاء بؤرٍ استيطانيّة، غير مرخّصٍ فيها رسميًّا من الحكومة الإسرائيليّة، ولكن بتشجيع ودعمٍ خفيّيْن منها أو من بعض أحزاب الائتلاف الحكوميّ. ففي منتصف تسعينيّات القرن الماضي، وعلى خلفيّة امتعاض المستوطنين من انخفاض وتيرة الاستيطان من ناحية، واحتدام الصّراع على مصير الضفّة الفلسطينية المحتلّة من ناحيةٍ أخرى، شرع المستوطنون في إقامة بؤرٍ استيطانيّة على التّلال في مختلف أراضي الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة بدعوةٍ مباشرة وعلنيّة من أريئيل شارون، خلال تنافسه مع نتنياهو على قيادة الليكود في فترة رئاسة الأخير للحكومة، من دون الحصول على تصريحٍ رسميّ منها، ولكن بدعمٍ ماديّ من بعض وزاراتها ومن أركان الحكم في إسرائيل. فقد كشف تقرير إسرائيليّ رسميّ عن البؤر الاستيطانية أنّ العديد من الوزارات والمؤسّسات الإسرائيلية سهّلت إقامة البؤر الاستيطانية ودعمتها وموّلتها وفي مقدّمتها: وزارة الإسكان ووزارة البنى التحتيّة ووزارة الدفاع، وكذلك الجيش الإسرائيلي و"الإدارة المدنيّة" الإسرائيليّة في الضفّة الفلسطينية المحتلّة وقسم الاستيطان في المنظّمة الصهيونيّة العالميّة( ). وذكر التقرير أنّ إقامة البؤر الاستيطانية جرت تحت غطاءٍ كاذب كان الجميع على علمٍ به. إذ درج المستوطنون على أن يقدِّم أحدهم طلب إقامة مجسّ هوائيّ (أنتينا) أو مزرعة أو مؤسّسة تربويّة على تلّة، فيتمّ الموافقة عليها، ومن ثمّ يتمّ إقامتها، ثمّ يجري ربطها بشبكة الكهرباء، وبعد ذلك يُبنى بيت للحارس ويوصل أيضا بشبكة الكهرباء، ثمّ يباشر بشقّ طريقٍ ترابي وبتمهيد الأرضيّة لمواقع بيوتٍ جاهزة، وبعد ذلك يقوم المستوطنون بإحضار البيوت الجاهزة إلى الموقع، ويعلن عن إقامة بؤرة استيطانيّة. وبلغ عدد البؤر الاستيطانية التي أقيمت في الضفّة الفلسطينية حتّى سنة 2005 أكثر من 105( ). ويدور صراعٌ بين المستوطنين والحكومة الإسرائيلية على مسألة إخلاء بعض تلك البؤر. ففي حين تقوم أذرع الحكومة الإسرائيليّة في بعض الأحيان بإزالة بعض البيوت من بعض البؤر الاستيطانيّة، فإنّ المستوطنين يقومون في العديد من الحالات بالتصدّي بالآلاف لهذه العمليّات ويقومون في كثيرٍ من الأحيان بإعادة بناء هذه البيوت وإنشاء بؤرٍ استيطانيّة جديدة، بحيث ظلّ عدد البؤر الاستيطانيّة يزيد على المئة حتّى الآن( ). وعلى خلفيّة صراع المستوطنين من أجل زيادة الاستيطان اليهوديّ في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة وتصدّيهم لسياسة الحكومة الإسرائيليّة تجاه الاستيطان والبؤر الاستيطانيّة، وعلى خلفيّة كراهية المستوطنين للفلسطينيّين ودعوات المستوطنين الإسرائيليّين إلى طرد الفلسطينيّين والبطش بهم وقتلهم؛ ظهر من بين صفوفهم في السّنوات الأخيرة تيّارٌ استيطانيّ أكثر تشدّدًا وعدوانيّةً ممّا سبقه، وأفرز تنظيمًا إرهابيًّا يطلق عليه "جباية الثمن".

تنظيم جباية الثّمن

يحمل مصطلح "جباية الثمن" معنًى مزدوجًا؛ فهو كنية للنشاط الإرهابيّ الذي يقوم به إسرائيليون مستوطنون في الضفّة الفلسطينية المحتلّة ضدّ الفلسطينيّين وممتلكاتهم، وضدّ سياسة الحكومة الإسرائيليّة تجاه الاستيطان. وهو في الوقت نفسه أيضًا تسمية لتنظيمٍ إسرائيليّ - استيطانيّ إرهابيّ يقوم بعمليّات إرهابية، ضدّ الفلسطينيين بالأساس، ويوقِّع عمليّاته هذه ونشاطاته المختلفة باسم "جباية الثّمن". وقد ظهر تنظيم "جباية الثّمن" في منتصف سنة 2008، ومنذ ذلك التاريخ يقوم التنظيم بنشاطاتٍ إرهابيّة في أربع دوائرَ، وهي:

الدّائرة الأولى: العرب الفلسطينيّون في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة. وأغلب أنشطة تنظيم "جباية الثّمن" وعمليّاته تجري في هذه الدّائرة، إذ يقوم يوميًّا -وعلى مدار السّنة- بنشاطاتٍ وعمليّاتٍ إرهابيّة ضدّ الفلسطينيّين في الضفّة المحتلّة، ويشمل ذلك: الاعتداء الجسديّ على الفلسطينيّين، وإطلاق النّار عليهم وعلى بيوتهم، ومهاجمة قراهم وبلداتهم، واقتلاع أشجارهم، وإتلاف مزروعاتهم أو سرقة منتوجاتهم، وإحراق حقولهم وسيّاراتهم وبيوتهم ومساجدهم. وتؤكّد المؤسّسات الفلسطينيّة والإسرائيليّة التي تهتمّ بحقوق الإنسان في المناطق الفلسطينيّة المحتلّة، وترصد الخروقات الإسرائيلية لهذه الحقوق وتوثِّقها، أنّ تنظيم "جباية الثّمن" يقوم منذ أن بدأ نشاطه -وحتّى اليوم- بعشرات الاعتداءات في الشّهر ضدّ الفلسطينيّين وممتلكاتهم في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة( ). ولكي نعطي صورةً عن نوعيّة الاعتداءات التي يرتكبها تنظيم جباية الثمن وعن وتيرة حدوثها؛ سنعرض عددًا من الاعتداءات التي قام بها هذا التّنظيم في شهر كانون الأوّل / ديسمبر 2011، والتي تمكّنت من توثيقها مؤسّسة بتسيلم( )، وهو نموذج مصغّر عمّا يقوم به تنظيم "جباية الثّمن" في جميع شهور السّنة الباقية:

في 3 – 12 – 2011، رشق مستوطنون من "جباية الثمن" سيّارة أجرة فلسطينية تقلّ عددًا من النّساء الفلسطينيات عند مرورها بالقرب من البؤرة الاستيطانيّة "جفعات جلعاد". وعندما اشتكى سائق سيّارة الأجرة إلى بعض الجنود الإسرائيليّين الذين كانوا على مسافة مئة متر فقط من راشقي الحجارة المستوطنين، رفض الجنود التدخّل.

في 7 – 12 – 2011، اعتدى مستوطنون من "جباية الثّمن" تحت جنح الظّلام على قرية برقين القريبة من بلدة سلفيت الفلسطينيّة، وأضرموا النّار في مسجد القرية وأيضًا في سيّارة وجرّار في القرية، وكتبوا شعارات باللّغة العبريّة معادية للعرب وكذلك كلمتي "جباية الثمن".

في 12 – 12 – 2011، هاجم مستوطنون من "جباية الثّمن" قرية عصيرة الشمالية ليلًا وكسروا شبابيك ستّة بيوت رميًا بالحجارة وكذلك أعطبوا عدّة سيّارات. وفي اليوم نفسه ألقى مستوطنون من "جباية الثّمن" الحجارة على سيّارةٍ فلسطينيّة بالقرب من مستوطنة "كرني شومرون"؛ ممّا أدّى إلى تحطيم الزّجاج الأماميّ للسيّارة.

في 14 – 12 – 2011، هاجم مستوطنون من "جباية الثّمن" ثلاث قرى فلسطينيّة، وهي: دوما، وياسوف، وحارس في شماليّ الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة. وقد أحرق المستوطنون شاحنتين فلسطينيّتين في قرية دوما التي أقيمت على أراضيها البؤرة الاستيطانيّة "إيش كودش"، وكتب المهاجمون عدّة شعاراتٍ منها "متسبي يتسهار – ضمان متبادل". وأحرق المستوطنون سيّارتين أخريين، واحدة في قرية ياسوف وأخرى في قرية حارس وكتبوا شعارات "جباية الثّمن" على الجدران باللغة العبريّة بالقرب من السيارتين اللّتين أُحرِقتا.

15 – 12 – 2011، في الفجر، أضرم مستوطنون النّار في مسجدٍ في بلدة برقة التي أُقيمت على أراضيها البؤرة الاستيطانيّة "ميغرون"، وكتبوا باللّغة العبريّة: "الحرب" و"متسبي يتسهار".

وفي 19 – 12 – 2011، كتب مستوطنون على جدران مسجد قرية بني نعيم الواقعة بالقرب من الخليل شعارات بذيئة مسيئة للنبيّ محمّد وكتبوا تحتها "جباية الثّمن" و"يتسهار".

في 21 – 12 – 2011، قطع مستوطنون جذوع 30 شجرة زيتون في خربة شويكة الواقعة جنوبيّ الخليل وكتبوا في مسرح عمليّتهم شعارات باللغة العبريّة: "جباية الثّمن" و"يتسهار".

ويتّضح من التّحقيقات التي أجرتها مؤسّسة بتسيلم وغيرها من المؤسّسات التي ترصد اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيّين وممتلكاتهم، أنّ قوّات الجيش الإسرائيلي كانت حاضرة في أحيانٍ كثيرة عند قيام عشرات المستوطنين بشنّ غاراتهم على القرى الفلسطينيّة في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة، وأنّ هذه القوّات لم تكن تمنع هذه الغارات، وكانت تتدخّل في المراحل الأخيرة للغارات لصالح المستوطنين المهاجمين، وذلك عندما يشرع الفلسطينيّون في الدّفاع عن أنفسهم ويرجمون المستوطنين بالحجارة( ).

الدائرة الثانية: نشاط إرهابيّ ضدّ دعاة السّلام الإسرائيليّين الذين يعارضون الاستيطان وسياسة المستوطنين، ويشمل ذلك كتابة الشّعارات المعادية لهم على جدران بيوتهم وإثارة جوٍّ من الرّعب والترهيب حولهم وتهديدهم بالقتل. وعادةً ما يجري هذا النشاط الإرهابي ضدّ العديد من قادة السلام الإسرائيليّين ونشطائهم، عند محاولتهم إزالة بؤرة استيطانيّة أو بيتٍ استيطانيّ في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة، عن طريق أذرع السّلطة الإسرائيليّة؛ وذلك لثنيهم عن نشاطهم ذاك، ومعاقبتهم على موقفهم، وجباية الثمن منهم على مواقفهم المعارضة للاستيطان في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. فمثلا في 6 – 11 – 2011 هدّد أحد أتباع "جباية الثمن"، الناشطة في حركة السلام الآن ورئيسة "لجنة متابعة الاستيطان في حركة السلام الآن"، حجيت عوفران، بنسف مكتب حركة السلام في القدس الغربيّة. إذ اتّصل بها شخصٌ في مساء ذلك اليوم من الهاتف الداخلي للمبنى الذي يوجد فيه مكتب حركة السلام الآن وأخبرها أنّه "سيتمّ تفجير البناية خلال خمس دقائق"، وفرّ من المكان، بعد أن كتب شعار "جباية الثّمن" على جدران العمارة؛ وقد تمّ استدعاء الشرطة الإسرائيليّة التي لم تعثر على شيء( ). وفي ليلة 8 – 11 – 2011 عاد أتباع "جباية الثّمن" وكتبوا شعارات على المبنى الذي تسكن فيه حجيت عوفران مثل: "حجيت عوفران رابين في انتظارك" (إشارة إلى أنّ مصيرها سيكون مثل مصير رابين) و"انتقام جفعات آساف" (بؤرة استيطانيّة تعتزم الحكومة الإسرائيليّة إخلاءها)، و"تحية من معوز تسيون" (بؤرة استيطانيّة تمّ إخلاؤها قبل ذلك بيومين)( ). وعلى إثر ازدياد التّهديدات والنشاطات الإرهابيّة هذه ضدّ نشطاء السلام في إسرائيل والتي وصلت إلى خمسة خلال شهرين في نهاية 2011، وضعت الشرطة الإسرائيلية حارسًا دائمًا على عضو الكنيست من حركة ميرتس زهافا غال أون بعد تهديدات بقتلها( ).

الدائرة الثالثة: نشاطات ضدّ أذرع الحكم في إسرائيل وفي مقدّمتها ضدّ الجيش الإسرائيلي وقواعده وضدّ الشرطة الإسرائيلية وضدّ "الإدارة المدنية" وضدّ الادّعاء العامّ في إسرائيل. لقد وضع الحاخام يوسف إيليتسور الأسس الفكريّة لجباية الثمن من أذرع الحكم في إسرائيل التي تطبّق سياسة الحكومة الإسرائيلية إزاء البؤر الاستيطانية، كما سنرى لاحقًا، بهدف ردع الحكم في إسرائيل عن تطبيق قرار إخلائها. وفي هذا السّياق هاجم مستوطنون من أتباع "جباية الثمن" مرّتين -حتّى الآن- قاعدتين عسكريّتين للجيش الإسرائيليّ في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. ففي 9 – 9 – 2011، هاجم عشرات المستوطنين من أتباع "جباية الثّمن" قاعدة " قيادة بنيامين" العسكرية الواقعة بالقرب من مستوطنة بيت ايل في وسط الضفّة الفلسطينية المحتلّة، وأعطبوا 13 مركبة عسكريّة وكتبوا شعارات تندّد بالجيش الإسرائيليّ في أعقاب هدمه عدّة بيوت في البؤرة الاستيطانية "ميغرون"، قبل ذلك بعدّة أيّام( ). وفي 13 – 12 – 2011، هاجم عشرات المستوطنين من أتباع "جباية الثمن" "قاعدة بنيامين" العسكريّة القائمة في الضفّة الفلسطينية المحتلّة بالقرب من قلقيلية. وقد أعطب المهاجمون عددًا من المركبات العسكرية في القاعدة العسكرية وأشعلوا إطارات السيارات بداخلها وألقوا الحجارة على الضبّاط والجنود وأصابوا قائد القاعدة بجروحٍ في رأسه( ). وبسبب الخلاف بشأن البؤر الاستيطانية، صعّد تنظيم "جباية الثمن" نشاطاته ضدّ أذرع الحكم الإسرائيليّ المختلفة في الشّهور الأخيرة، وأخذ نشطاؤه يستعملون العنف ضدّ جنود الجيش الإسرائيليّ وضبّاطه، و"بات إلقاء المستوطنين الحجارة وحتّى الزجاجات الحارقة على سيارات الجيش الإسرائيلي وحرس الحدود، أمرًا غير نادر الحدوث، وباتت المواجهات الجسديّة التي تصل إلى حدّ الضّرب أمرًا عاديًّا تقريبًا"( ).

الدائرة الرابعة: نشاط ضدّ العرب الفلسطينيين داخل الخطّ الأخضر، ويشمل ذلك حرق المساجد والكنائس وحرق أماكن رزقهم كالمطاعم مثلا، وكتابة الشّعارات المنادية بالموت لهم أو بقتلهم أو بطردهم من البلاد. وفي الشّهور الأخيرة من سنة 2011 قام أتباع تنظيم "جباية الثمن" بنشاطاتٍ ملحوظة معادية للعرب الفلسطينيّين في داخل الخطّ الأخضر. فقد أحرقوا في هذه الفترة مسجدًا في قرية طوبا – الزنجرية الواقعة في الجليل، ومطعمًا في يافا يملكه فلسطيني، وقاموا بكتابة الشّعارات العنصريّة المعادية للعرب، مثل "الموت للعرب" في داخل مقبرتين للعرب في مدينة يافا، واحدة إسلاميّة وأخرى مسيحيّة، وخرّبوا أكثر من 25 قبرًا فيها وتركوا أيضًا شعار "جباية الثمن" على مسرح عمليّاتهم( ).

بداية النّشاط

عقدت مجموعة كبيرة من المستوطنين في نهاية حزيران / يونيو 2008 اجتماعًا واسعًا في مستوطنة "يتسهار" القائمة في جنوبيّ مدينة نابلس في الضفّة الفلسطينية المحتلّة، وناقش المشاركون في هذا الاجتماع مسألة الخلاف مع الحكومة الإسرائيليّة بشأن الاستيطان، والإستراتيجيّة التي على المستوطنين اتّباعها بهذا الشّأن. وقد ضمّ هذا الاجتماع المئات من نشطاء المستوطنين من مختلف المستوطنات الإسرائيليّة القائمة في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. وكان هدفه ثنْي الحكومة الإسرائيليّة عن سياستها تجاه الاستيطان، وردعها عن اتّباع سياسةٍ من شأنها الحدّ من وتيرة زيادة الاستيطان في الضفّة الفلسطينية المحتلّة، والضّغط عليها كي لا تقوم بإزالة بعض البيوت التي أقامها المستوطنون في البؤر الاستيطانيّة من دون الحصول على تصريحٍ حكوميّ رسميّ بإقامتها( ). ومن أجل تحقيق ذلك، سعى هذا الاجتماع إلى حشد أكبر عدد ممكن من المستوطنين من مختلف المستوطنات الإسرائيليّة في الضفّة الفلسطينية المحتلّة للقيام بنشاطاتٍ متنوّعة ضدّ سياسة الحكومة الإسرائيلية وضدّ أذرعها المختلفة التي تنفّذ هذه السياسة. ورأى المستوطنون المشاركون في هذا الاجتماع أنّه من أجل إرغام الحكومة الإسرائيليّة على تغيير سياستها؛ فإنّه ينبغي "جباية الثمن" منها على كلّ عملٍ تقوم به هي أو أحد أذرعها الموكل إليها عرقلة الاستيطان أو إبطاء وتيرته( ). ولكي لا يكون هناك أيّ لبس أو غموضٍ بشأن الهدف الذي يسعى المستوطنون إلى تحقيقه أو الجهة التي ترتكب باسمها هذه النشاطات؛ دأب منفِّذو العمليّات على التّوقيع بـاسم "جباية الثمن" على مسرح عمليّاتهم.

التّركيبة والنّشاط التنظيميّ

يتبيّن لنا منذ ظهور تنظيم "جباية الثمن" وحتّى اليوم أنّ نشاطه الإرهابي لا ينطلق من مستوطنةٍ واحدة أو عدّة مستوطنات، وإنّما من مجمل بؤر الاستيطان الإسرائيليّ في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. ويشمل مسرح عمليّاته مجمل الضفّة الفلسطينية المحتلّة، وما يقع داخل الخطّ الأخضر. ويُستدلّ من كثافة عملياته وانتشار مساحتها ومن نوعيّة أهدافه وكيفيّة قيامه بعملياته، ومن التقارير التي تُنشر عنه، أنّ "جباية الثمن" تنظيم سرّي له قيادة مركزية سرّية تقوده وتوجّه نشاطاته وعملياته الإرهابية وتحدّد أهدافه بدقّة. هذا لا يعني أنّ كلّ من يشارك في نشاطات "جباية الثمن" العامّة كالتظاهرات وإغلاق الطرق هو عضوٌ في التّنظيم. ففي هذه النّشاطات يشارك أيضًا وأساسًا جمهوره وأنصاره. ولكن من الواضح أنّ العمليات الإرهابيّة التي يقوم بها تنظيم "جباية الثمن" يتمّ التخطيط لها بشكلٍ سرّي من جانب قيادةٍ مركزيّة، وتنفّذها مجموعات صغيرة وسرّية من أعضائه. وقد أشار تقريرٌ لجهاز المخابرات الإسرائيليّة الداخلي (الشاباك)، جرى تسريبه لصحيفة هآرتس على إثر قيام تنظيم "جباية الثمن" بنشاطاتٍ ضدّ الجيش الإسرائيلي وناشطين من قوى السلام في إسرائيل، إلى أنّ نشطاءه باتوا يعملون في خلايا ومجموعات صغيرة محكمة التنظيم والسرّية؛ بدرجةٍ تجعل من الصّعب على جهاز المخابرات الإسرائيليّة (الشاباك) اختراقها. وأضاف التقرير أنّ بعض هذه الخلايا والمجموعات تراقب القرى والتجمّعات الفلسطينية في الضفّة الفلسطينية وتجمع المعلومات عنها وعن طرق الوصول إليها وطرق الهرب، بعد تنفيذ العمليّات ضدّها. وجاء في التقرير أيضًا أنّ بعض هذه المجموعات يراقب ناشطين من دعاة السّلام الإسرائيليّين ويجمع عنهم المعلومات تمهيدًا للقيام بنشاطات ضدّهم. وأشار التقرير إلى أنّ هذه العمليات والنشاطات هي في حقيقة الأمر إرهابيّة( ). إلى جانب ذلك، تراقب مجموعات من "جباية الثمن" تحرّكات الجيش الإسرائيليّ وتجمع المعلومات عنه وعن العمليات التي يعتزم القيام بها لإخلاء هذا البيت أو ذاك في البؤر الاستيطانيّة.

وقد قدّر الصّحافي الإسرائيلي نداف شرجاي، المختصّ في شؤون المستوطنين ونشاطاتهم، أنّ عدد الذين كانوا يشاركون في نشاطات "جباية الثمن" في عام 2008 قد تجاوز ثلاثة آلاف مستوطن، وتأتي غالبيّتهم من المستوطنات الأيديولوجيّة – الدينيّة ومن المدارس الدينيّة اليهودية (اليشيفوت) المنتشرة في الضفّة الفلسطينية المحتلّة( ). ويحظى نشاط المستوطنين -الذين يشاركون في نشاطات "جباية الثمن"، والذين يزداد عددهم بمرور كلّ سنة- بتأييدٍ واسعٍ للغاية من جموع المستوطنين في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة ومن كثير من الأحزاب الإسرائيليّة ومن قطاعٍ واسع في المجتمع الإسرائيليّ، ما دام هذا النشاط يستهدف الفلسطينيّين في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. أمّا عندما يستهدف "جباية الثمن" الجيش وناشطي السلام الإسرائيليّين، فإنّ هذا الدّعم يتقلّص وينحصر في القوى الأساسيّة المشكّلة لـ "جباية الثمن".

يضمّ تنظيم "جباية الثمن" في داخله مجموعةً من الأشخاص والحركات والتّشكيلات السياسية – الدينية اليهوديّة الموجودة بكثافة في الضفّة الفلسطينية المحتلّة- وهي: 1- "حاخامون" من التيار "الدينيّ– القومي" الصهيوني، و"حاخامون" من التيّار الدينيّ اليهوديّ الحِريدي، 2 - خرّيجو وطلّاب المدارس الدينية اليهودية (اليشيفوت) المنتشرة في الضفّة الفلسطينية وفي داخل الخطّ الأخضر، 3- نشطاء وأتباع حركة "كاخ" المحظورة قانونيًّا منذ 1994، ونشطاء من أتباع حزب "الوحدة الوطنية" وحزب "البيت اليهودي"، 4 – "شبيبة التلال" وهم الشبيبة المستوطنون الذين نشطوا في إقامة البؤر الاستيطانية في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة منذ أواسط تسعينيّات القرن الماضي. وتتكوّن "شبيبة التلال" بدورها من عدّة فئاتٍ ومشاربَ مختلفة، جاء قسمٌ كبير منهم من التيار الدينيّ– القوميّ الصهيوني وقسم آخر منهم هم من أبناء الجيل الثاني في المستوطنات اليهوديّة المُقامة في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. وهم يسعون إلى الاستمرار في عمليّة الاستيطان وإقامة مستوطنات جديدة كما فعل آباؤهم، وعدم الاكتفاء بزيادة عدد المستوطنين في المستوطنات القائمة. وجاء قسمٌ آخر من "شبيبة التّلال" من خرّيجي المدارس الدينية اليهوديّة (اليشيفوت) القائمة في المدن والبلدات الإسرائيليّة في داخل الخطّ الأخضر، في حين جاء قسمٌ آخر من خرّيجي "إصلاحيّات" دينيّة يهوديّة أقيمت خصّيصًا لمعالجة المنحرفين من الشبيبة الإسرائيليّين داخل الخطّ الأخضر لإعادتهم إلى الحياة اليهوديّة.

الأرضيّة الفكريّة

يشترك ناشطو تنظيم "جباية الثمن" وأنصاره وجمهوره الواسع في اعتناق فكرٍ عنصريّ يستند إلى الكراهية الشّديدة للعرب الفلسطينيّين، ويدعو إلى قتلهم أو إبادتهم أو طردهم من المناطق الفلسطينية المحتلّة من ناحية، وإلى زيادة تعزيز الاستيطان اليهودي في الضفّة الفلسطينية المحتلّة والإسراع في تهويدها وضمّها إلى إسرائيل، من ناحيةٍ أخرى. وإلى أن تتمّ إبادة الفلسطينيّين أو طردهم، يدعو تنظيم جباية الثمن إلى تنغيص حياة الفلسطينيّين في الضفّة (ويعمل على ذلك) إلى درجة تفوق حدود الاحتمال في بطشها وتنكيلها بهم. ويتنافس منظّرو "جباية الثمن" وقادته الفكريّون في الدّعوات والأفكار المنادية بطرد الفلسطينيّين أو إبادتهم. وهناك أيضًا منافسة بين العديد من الأحزاب الإسرائيليّة، التي يشارك بعضها في الائتلاف الحكومي مثل حزب "الوحدة الوطنيّة" وحزب "البيت اليهودي"؛ والتي ينشط بعض أنصارها في "جباية الثمن"، في التطرّف وتكرار الدعوات إلى إبعاد الفلسطينيّين من المناطق المحتلّة لإحلال المستوطنين مكانهم. ولا يُخفي منظِّرو "جباية الثمن" وقادته الفكريّون أفكارهم الداعية إلى قتل العرب الفلسطينيّين وإبادتهم؛ بل إنهم يعتزّون بأفكارهم العنصرية هذه ويتباهون بها وينشرونها على الملأ في كتبٍ ومقالاتٍ ويبشِّرون بها على العلن. فمثلا، في سياق السّعي إلى تعزيز الاستيطان في الضفّة الفلسطينية المحتلّة والتخلّص من أصحابها الفلسطينيّين؛ دعا الحاخامان المستوطنان في مستوطنة يتسهار، يتسحاق شبيرا ويوسف إيليتسور -وهما من أبرز قادة "جباية الثمن"- في كتابهما "توراة الملك" (الذي صدر في عام 2009) ليس فقط إلى قتل الفلسطينيّين؛ وإنّما أوجبا ذلك دينيًّا. فقد أكّدا في كتابهما على أنّه ينبغي قتل الفلسطينيّين من دون استثناء رجالًا ونساءً، شيوخًا وأطفالًا، وخصّصا مساحةً واسعة في هذا الكتاب لوجوب قتل الأطفال الفلسطينيّين( ). وإلى جانب الدعوة إلى البطش بالفلسطينيّين وطردهم وقتلهم ينظّر العديد من " القادة الروحيّين المتديّنين" للاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيّين وسرقة منتوجاتهم الزّراعيّة. فمثلا، أصدر الحاخام مردخاي الياهو فتوى دينيّة أثناء زيارته إلى مستوطنة "مزرعة غلعاد" القائمة على أراضي الفلسطينيّين في الضفّة الفلسطينية المحتلّة، تسمح بسرقة زيتون الفلسطينيّين( ).

 في عام 2009 نشر الحاخام يوسف إيليتسور مقالة مطوّلة تحت عنوان "ضمان متبادل" أرسى فيها الأرضيّة الفكرية – السياسية لنشاط تنظيم " جباية الثمن"( ). ومن المهمّ استعراض الأفكار والقضايا المركزيّة التي جاءت في هذه المقالة لسببين، أوّلهما أنّ تنظيم "جباية الثمن" مازال يُقْدم على فعل الأنشطة عينها التي تصفها المقالة، وبشكلٍ يكاد يكون حرفيًّا، وثانيهما أنّ المقالة تسهب في شرح فلسفة "جباية الثمن" من أذرع الحكومة الإسرائيلية المختلفة، بما في ذلك جباية الثمن من الجيش الإسرائيلي ومهاجمة قواعده العسكريّة، وهو الأمر الذي لم يحدث له مثيل من قبْل في تاريخ إسرائيل.

 أكّد الحاخام إيليتسور في مقالته أنّه ينبغي ألا يغيب عن أذهان الجميع -ولو للحظة واحدة- أنّ العدوّ الحقيقيّ يتمثّل في العرب الفلسطينيّين "الذين يحاولون احتلال هذه البلاد" وفق ما ذهب إليه الكاتب، والذين "يحدثون بلبلة في أدمغة يهود منحرفين وبعيدين عن التوراة". ودعت المقالة إلى استعمال القوّة ضدّ العرب الفلسطينيين وإلحاق الهزيمة بهم والانتصار عليهم بالعنف. خصّص الحاخام إيليتسور جزءًا كبيرًا من مقالته -التي كتبها أثناء فترة "تجميد الاستيطان" الرسمي، الذي أعلنته حكومة نتنياهو- في توجيه النقد اللّاذع للحكم في إسرائيل، وفي رسم أسس جباية الثمن من هذا الحكم. ورأى الكاتب أنّ الحكم في إسرائيل يتكوّن من أشخاصٍ فقدوا أحاسيسهم اليهوديّة والقيميّة، وهذا يشمل رئيس الحكومة الإسرائيليّة وغالبيّة الوزراء وأعضاء الكنيست وكبار ضبّاط الجيش وكبار الموظّفين في وزارات الحكومة المختلفة. وانتقد الحاخام إيليتسور أيضًا موقف قادة المؤسّسة الاستيطانية في الضفّة الفلسطينية، مشيرًا إلى أنّه على الرّغم من ضغطهم على الحكومة الإسرائيليّة من أجل زيادة الاستيطان اليهوديّ، ونجاحهم في بعض الأحيان في جرّ الحكومة خلفهم، وقيامهم "بتدوير الزّوايا مع القانون"، فهم يظلّون جزءًا من اللّعبة ولا يخرجون منها، خاصّةً عندما تصدر الحكومة أوامر إخلاء بيوت في بعض البؤر الاستيطانية. ثمّ انتقلت المقالة إلى معاملة الحكومة الإسرائيليّة للفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة سنة 1967 والفلسطينيين داخل الخطّ الأخضر، فادّعت أنّها تتساهل معهم، وصبّت جام غضبها عليها لأنها لا تبطش بالفلسطينيّين وترضخ لمطالبهم بحسب ادّعائها؛ "في حين تقمع الدولة المستوطنين" لأنهم وفق تفسيرها جزء من الدولة. وخلص الكاتب إلى نفي حقيقة كون الفلسطينيين شعبًا يعيش تحت الاحتلال، فإذا به يقلب الحقائق مضفيًا صفة " شعب تحت الاحتلال" على المستوطنين. ويؤكّد الكاتب أنّه "بات الآن واضحًا ما الذي علينا أن نفعله: التحوّل إلى شعبٍ يعيش تحت الاحتلال. عندها يفقد الحكم قوّته الأخلاقية وقوّته الفعليّة أيضًا". فعندئذ، و"في اللحظة التي ندرك فيها أنّنا قوّة يهوديّة منيعة نواجه قوّة متينة ترغب في خنق اليهودية، فإنّنا نستطيع الشّروع في القتال وتحقيق النّصر في هذه المواجهة". وفي هذا السّياق ذكر الكاتب أنّ قرار "تجميد الاستيطان" الذي اتّخذته الحكومة الإسرائيليّة قد يحمل بين ثناياه بركة، لأنه قد يقود الكثيرين إلى إعمال الفكر بعمق وتسريع الانعتاق من العلاقة النفسيّة مع دولة إسرائيل. وعندما يتحرّر العقل فإنه يقود إلى حرّية القيام بأعمالٍ ونشاطات، وكلّما كان العقل متحرّرًا أكثر فإنه يقود للقيام بـ "أعمال عظيمة"، أساسًا ضدّ الفلسطينيين، وهي التي تأتي بنتائجَ مهمّة.

يدعو الكاتب إلى تبنّي سياسة "الضّمان المتبادل" بين المستوطنين، وهذا يعني: 1- وقوف المستوطنين صفًّا واحدًا ضدّ الخطوات التي تتّخذها السلطات الإسرائيليّة بشأن تخفيض وتيرة الاستيطان أو قيامها بإزالة بيوت في بعض البؤر الاستيطانيّة. 2 – المستوطنون هم الذين يحدّدون زمام ومكان المواجهة ضدّ السلطات الإسرائيليّة وأذرعها المتعدّدة التي تنفّذ سياسة الحكومة إزاء الاستيطان، وعليهم عدم انتظار إجراءات السلطات الإسرائيليّة. ودعا الكاتب إلى القيام بنشاطات وبعمليّات من أجل ردع السّلطات الإسرائيليّة المختلفة عن القيام بأيّ عملٍ ضدّ المستوطنين ونشاطهم الاستيطاني، ويشمل ذلك القيام بعمليات ضدّ الجيش الإسرائيلي وقادته وقواعده العسكريّة وإعطاب آليّاته، وضدّ الشرطة الإسرائيلية وقادتها المسؤولين عن متابعة نشاطات المستوطنين ، وضدّ "الإدارة المدنيّة" الإسرائيلية في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة، وضدّ قادة الادّعاء العامّ ورموزه في إسرائيل وضدّ نشطاء السلام الإسرائيليّين. 3 – أكّد الكاتب أنّه علينا "أن نتذكّر دومًا أنّ العرب هم العدوّ الحقيقي". وينبغي استعمال العنف ضدّهم باستمرارٍ لأنّ ذلك يُبقي المستوطنين في حالة استنفارٍ دائم وعلى أهبة الاستعداد لكلّ طارئ( ).

موقف الحكومة الإسرائيليّة من جباية الثّمن

على الرّغم من قيام جباية الثمن بالاعتداء على الفلسطينيّين وعلى ممتلكاتهم بشكلٍ شبه يوميّ على مدار السّنة، بما في ذلك إحراق 15 مسجدًا في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة منذ عام 2008 وحتّى اليوم، لم يحدث أن عقدت الحكومة الإسرائيليّة -سواء كانت حكومة أولمرت أو نتنياهو- اجتماعًا مخصّصًا، أو أفردت وقتًا من اجتماعاتها العاديّة لمعالجة النشاطات والعمليّات الإرهابيّة التي يرتكبها تنظيم "جباية الثّمن" ضدّ الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة. فما دام نشاط جباية الثمن يستهدف الفلسطينيّين وممتلكاتهم وأراضيهم في الضفّة الفلسطينية فإنّ الحكومة الإسرائيليّة لم/ ولا تحرّك ساكنًا لوضع حدٍّ له، وتكتفي بإصدار تصريحٍ عنها أو عن أحد وزرائها يدين مثل هذه النّشاطات. ولكن عندما يستهدف جباية الثمن أذرع السلطة الإسرائيليّة أو يتصدّى بعنفٍ لإخلاء بيت في إحدى البؤر الاستيطانية فإنّ الحكومة الإسرائيليّة تطرحه في اجتماعها على رأس أجندتها. فمثلًا، بحثت الحكومة الإسرائيليّة في بداية تشرين الثاني / نوفمبر 2008 العنف الذي مارسه المستوطنون و"جباية الثمن" ضدّ قوى الأمن الإسرائيليّة التي أخلت إحدى البؤر الاستيطانية. ومن المفيد استعراض النقاش الذي أجرته حكومة أولمرت بهذا الشّأن وكيفيّة معالجتها له: فقد أشار وزير الدّفاع الإسرائيلي إيهود براك، وهو الوزير المكلّف بالمسؤوليّة المباشرة عن المناطق الفلسطينيّة المحتلّة بما في ذلك عن نشاط المستوطنين، إلى أنّ غالبيّة المستوطنين في الضفّة الفلسطينية المحتلّة تحترم القانون وأنّهم موجودون في مستوطناتهم بمبادرة الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة ودعمها. وادّعى براك أنّ قلّة فقط من المستوطنين هي التي تقوم باستخدام العنف ضدّ الجيش والشرطة الإسرائيليّين( ). أمّا رئيس جهاز المخابرات الإسرائيليّة العامّة (الشاباك) يوفال ديسكين، فأشار إلى ازدياد الفجوة بين قطاعٍ واسع من المستوطنين ومؤسّسات الحكم في إسرائيل. ففي حين كان هؤلاء المستوطنون يعملون في الماضي على إقناع مؤسّسات الحكم في إسرائيل بطرقٍ ودّية من أجل تحقيق أهدافهم، فإنّهم يرفعون اليوم شعار "بالحرب ننتصر". وأضاف رئيس الشاباك أنّ "شبيبة التلال" تنشط في "جباية الثمن" وتقوم بالتّشويش على العمليات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي لضبط نشاط المستوطنين. وأكّد أنّه إذا ما اتّخذت الحكومة قرارًا بإخلاء البؤر الاستيطانية والمستوطنات المعزولة فإنّ حجم المواجهات مع المستوطنين سيكون أكثر بكثير من تلك التي حدثت عند تنفيذ خطّة الانفصال. وأضاف رئيس الشاباك أنّه "تبيّن من الفحص الذي أجراه الشاباك أنّ هناك استعدادًا مرتفعًا للغاية بين صفوف هؤلاء المستوطنين لاستعمال العنف الذي لن يقتصر على رمي الحجارة وإنّما أيضًا استعمال السّلاح الناريّ من أجل إفشال هذه الخطّة أو تلك التي تشمل إخلاء مستوطنات". وأضاف: "إنّ هذا الوضع مقلق جدًّا. ورجال الأمن مكشوفون لإزعاج قاس من قبل فئة من هؤلاء المستوطنين، ولا يتوفّر لدينا في الدولة جوابٌ عن كيفية التعامل مع هذا الأمر"( ).

وشارك ميني مزوز، المستشار القضائيّ للحكومة الإسرائيلية، في النّقاش وأشار إلى أنّه يوجد في السّنوات الأخيرة تصاعدٌ في نشاطات المستوطنين، وناشد الوزراء تقديم اقتراحات ملموسة لمعالجة هذا الأمر، وأكّد أنّ تطبيق القانون في حقّ المستوطنين طوال السنوات الماضية كان محدودًا للغاية، وعَزا ذلك إلى عدم تجاوب المؤسّسة الأمنيّة، قائلًا: "لقد توجّهنا طوال السنوات الماضية إلى المؤسّسة الأمنيّة من أجل القيام بمهامّها بهذا الشأن، بيد أنّها لم تستجب ولم تقم بعملها". وأضاف مزوز إنّ الحكم في إسرائيل "بثّ طوال السّنوات الماضية رسالةً مزدوجة للمستوطنين. إذنْ، هناك تصريحات ضدّ بعض نشاطات المستوطنين من ناحية. ولكن من ناحيةٍ أخرى، يقع غضّ النظر عن نشاطات المستوطنين على أرض الواقع. بل إنّ مؤسّسات الدولة قد ساعدتهم على اختراق القوانين والقرارات". واستخلص المستشار القضائيّ للحكومة أنّه "من الضروريّ أن تكون هناك رسالة واحدة ووسائل وخطوات إداريّة ضدّ هؤلاء المستوطنين الذين يخترقون القانون بما في ذلك إصدار قرارات إبعادهم من المناطق المحتلّة". أمّا وزير العدل دانئيل فريدمان فقد قال إنّ الحكومة الإسرائيليّة تتحدّث بصوتين تجاه المستوطنين الذين يخترقون القانون ودَعا إلى العمل ضدّ المستوطنين المشاغبين المخالفين للقانون وقال إنّه ينبغي طرح الأسئلة عن "من هو الذي يموّلهم؟ من الذي يوفّر لهم العمل ويشغّلهم؟ فالدولة تشقّ لهم الطّرق وتزوّدهم بشبكة الكهرباء والماء والمجاري. يجب وقف ذلك". أشار الوزير حاييم رامون في مداخلته إلى قضيّة مهمّة وهي نجاح المستوطنين في ردع الحكومة الإسرائيليّة عن الإقدام على إخلاء البؤر الاستيطانية بواسطة استعمال المستوطنين العنف ضدّ الشّرطة والجيش، عند إخلاء البؤرة الاستيطانيّة "عمونه"، فمنذ المواجهة في عمونه لم تخْل الحكومة أيّ بؤرة استيطانية. وأصاب رامون كبد الحقيقة عندما أكّد "إنّ المستوطنين يعتبرون ذلك نجاحًا لهم، إذ يوجد من ناحية أبارتيد ضدّ الفلسطينيّين ومن ناحيةٍ أخرى هناك تفضيل للمستوطنين المشاغبين الذين يخترقون القانون". وذكّر الوزير بنيامين بن اليعيزر الوزراء بأنّه كان قد قال في اجتماع للحكومة الإسرائيلية عشيّة مقتل يتسحاق رابين، إنّه "سيكون قتل" ولكن لم يصغ له أحد. وأضاف، "إنّ هذا الأمر سيتكرّر، إنّ هؤلاء المستوطنين ليسوا مثلنا، إذ يوجد لديهم أفكار شيطانيّة. ونحن أغبياء لأنّنا نخاف، وهم يقرؤون ضعفنا هذا. يجب اعتقال المئات من المستوطنين"( ). على الرّغم من الكلام الكثير والنّقد الشديد الذي وجّهه العديد من الوزراء لنشاط جباية الثمن وللعنف الذي قام به المستوطنون ضدّ الشّرطة والجيش الإسرائيليّين، إلّا أنّ الحكومة الإسرائيلية بقيادة إيهود أولمرت لم تتّخذ إجراءاتٍ ضدّ هؤلاء المستوطنين العنيفين والمخلّين بالقانون الإسرائيلي الاحتلاليّ نفسه، ولم تجمّد أيًّا من مختلف أنواع الدّعم الذي تقدّمه لهم؛ بل خضعت حكومة أولمرت لهم وجمّدت نشاطها، المحدود أصلًا، ضدّ البؤر الاستيطانية. وفي الوقت الذي ظلّت فيه تتحدّث عن السّلام وتجري مفاوضات مع القيادة الفلسطينيّة، واصلت هذه الحكومة زيادتها للاستيطان ودعمها متعدّد الجوانب للمستوطنين بما في ذلك لتيّار "جباية الثّمن" والمستوطنين في البؤر الاستيطانيّة، وهذا ما يعني عمليًّا اعتبارهم فوق القانون. وعلى الرّغم من بطش "جباية الثّمن" والمستوطنين بالفلسطينيّين والتّنكيل بهم على مدار السّنة وتنفيذ عمليّات إرهابيّة ضدّهم، إلا أنّ الحكومة الإسرائيليّة لم توقف ذلك ولم تبذل جهدًا لوضع حدٍّ لنشاطهم ضدّ الفلسطينيّين. علاوةً على ذلك، نادرًا ما قامت الشّرطة الإسرائيليّة بفتح تحقيق بشأن عمليّات "جباية الثّمن" الإرهابيّة وآلاف اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيّين وعلى ممتلكاتهم. وفي المرّات القليلة التي فتحت فيها تحقيقًا فإنّها لم تقدّم أحدًا للمحاكمة. وقد ذكر تقريرٌ إسرائيليّ أنّ الشّرطة الإسرائيليّة في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة فتحت تحقيقًا بشأن 97 حالة اعتداء على الفلسطينيّين في الفترة الممتدّة من 2005 إلى 2010، من بين آلاف الاعتداءات التي ارتكبها المستوطنون بحقّ الفلسطينيّين، بيد أنّها لم تقدّم أيّ لائحة اتّهام ضدّ أيّ مستوطن ولم تقدّم أيّ مستوطن إلى المحاكمة( ).

ازداد نشاط تنظيم "جباية الثمن" اتّساعًا في "الدّوائر الأربع" التي يعمل بها، بعد تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو في بداية عام 2009، ويعود ذلك لعدّة أسباب، أهمّها:

1 – حظي نشاط تنظيم "جباية الثّمن" ضدّ الفلسطينيّين وممتلكاتهم في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة ليس فقط بتساهل حكومة نتنياهو، وإنّما أيضًا بتشجيع وزراء من بعض الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكوميّ، إذ ضمّت حكومة نتنياهو الائتلافيّة أحزاب اليمين المتطرّف التي تدعو علانية إلى البطش بالفلسطينيّين وطردهم من الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة.

 2 – أثار التّجميد الجزئيّ والمؤقّت للاستيطان -الذي قامت به حكومة نتنياهو، تحت ضغط الإدارة الأميركيّة- غيظ قيادة "جباية الثّمن" والمستوطنين، خاصّةً وأنّهم اعتقدوا أنّ على هذه الحكومة المكوّنة من اليمين واليمين المتطرّف، أن تسارع في تكثيف الاستيطان وفي دعم المستوطنين.

3 - عدم وجود قوى سياسيّة ذات وزن وتأثير حقيقيّ في السّياسة والمجتمع في إسرائيل تقف بجدّية ضدّ النّشاط والعمليّات التي يرتكبها تنظيم "جباية الثّمن" بحقّ الفلسطينيّين في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة على مدار السّنة، واكتفاء بعض الجمعيّات وبعض القوى السياسيّة في إسرائيل بإصدار تقارير أو بيانات استنكار ضدّ هذه العمليّات بين الفينة والأخرى.

4 – وأهمّ من كلّ ما ذُكر أعلاه، وفي غياب مقاومةٍ فلسطينيّة ولو حتّى مدنيّة، وضغط عربيّ ودوليّ، يحظى الدّور السياسيّ – الاستيطانيّ المهمّ الذي يقوم به تنظيم "جباية الثّمن" وجمهوره وأنصاره، كرأس حربة الاستيطان في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة، بالتأييد الضمنيّ لغالبيّة المجتمع الإسرائيليّ ولغالبيّة نخبه المختلفة. فدور المستوطنين ورأس حربتهم "جباية الثمن" هو الاستمرار في خلق واقعٍ استيطانيّ جديد في الضفّة الفلسطينية المحتلّة من أجل تهويد أكبر مساحةٍ ممكنة من أراضي الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة، ومن ثمّ قيام إسرائيل بضمّها. وتنظيم "جباية الثمن" وجمهوره هما القوّة الضاربة والطّليعة في المعسكر الصهيونيّ من أجل تحقيق هذا الهدف، وهما اللّذان يضغطان على الحكومة الإسرائيليّة لزيادة الاستيطان وتعزيزه، وهما اللّذان يقومان بردعها عن الإقدام على تفكيك البؤر الاستيطانيّة بتنفيذ عمليّات ضدّ أذرع الحكم المختلفة مثل الجيش والشّرطة والادّعاء العامّ.

الهجوم على القاعدة العسكريّة

 بلغت ثقة قادة "جباية الثمن" بأنفسهم وبأهميّة الدور السياسيّ التاريخي الذي يقومون به في خدمة المشروع الاستيطانيّ درجة، أنّه في كانون الأوّل / ديسمبر 2011 شنّ أكثر من خمسين عنصرًا من أتباع التنظيم هجومًا ليليًّا خاطفًا (غير مسلّح)، على قاعدة عسكريّة للجيش الإسرائيلي في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. وقام المهاجمون بالاعتداء على جنود القاعدة وضبّاطها، وإتلاف بعض محتوياتها، وجرح قائد القاعدة في رأسه من جرّاء إصابته بحجر ألقاه أحد المهاجمين عليه( ). وهدفت هذه العمليّة إلى ردع الجيش الإسرائيليّ عن الإقدام على إخلاء بؤرة استيطانيّة بالقرب من القاعدة العسكريّة. وقد تبيّن لاحقًا من التّحقيق في هويّة الذين نفّذوا هذه العمليّة أنّ عدّة عشرات من الذين شاركوا فيها جاءوا من المدرسة الدينيّة "يشيفات مركز الراب كوك" القائمة في القدس الغربيّة التي يدرس فيها نخبة التيّار الدينيّ القوميّ الصهيونيّ.

على خلاف عمليّات تنظيم "جباية الثمن" الإرهابيّة ضدّ الفلسطينيين، أثار هجوم تنظيم "جباية الثمن" على القاعدة العسكريّة الإسرائيلية امتعاض وسائل الإعلام وسخط الرّأي العامّ في إسرائيل، وشرع الكثير من كبار الصحافيّين والمحلّلين السياسيّين وقادة الرّأي وزعماء الأحزاب السياسيّة ينادون بمعاقبة "جباية الثمن" على عمليّته ضدّ القاعدة العسكريّة ووضع حدٍّ لظاهرة الهجوم على الجيش الإسرائيليّ والتعرّض لضبّاطه من جانب هذا التّنظيم. وفي هذا السّياق وجّه الصّحافي رون بن يشاي نقدًا لاذعًا إلى كيفيّة معالجة المؤسّستين السياسيّة والعسكريّة ظاهرة "جباية الثمن". واستهلّ مقالته بإشارةٍ إلى أنّ "مواقف وردود فعل السياسيّين وقادة المستوطنين وقادة الجيش لا تثير سخطًا أقلّ من الإرهاب اليهوديّ ذاته الذي نشهده هذه الأيام". فهم -وفي مقدّمتهم رئيس الحكومة- يستنكرون هذه الأعمال ويشجبونها، ويدركون جيّدًا ما الذي عليهم أن يفعلوه من أجل وضع حدٍّ لها. فجميعهم يدركون أنّه من أجل القتال ضدّ "الجريمة القومجية" التي يطلق عليها "جباية الثمن"، ينبغي تعريفها أوّلا -وقبل كلّ شيء- على أنّها جريمة ثمّ معالجتها كما تعالج الشّرطة والادّعاء العامّ الجريمة المنظّمة في إسرائيل، بيد أنّهم لا يفعلون شيئًا( ). وأكّد بن يشاي أنّ الجيش الإسرائيلي يتعامل مع "جباية الثمن" بيدٍ من حرير، وعزا ذلك إلى الأسباب التالية: أوّلًا، خشية قادةِ الجيش ذوي الرّتب العليا والمتوسّطة من اللوبيّ السياسي والقانوني الذي يدعم "جباية الثمن"، فقادة الجيش لا يريدون التورّط في مشاحنات مع أنصار "جباية الثمن". ثانيًا، تعاطف الكثير من الضبّاط والجنود الإسرائيليّين الذين يخدمون في الضفّة الفلسطينية، مع أيديولوجيا ونشاطات "جباية الثمن" و"شبيبة التلال". إذ يقوم بعض الضبّاط والجنود بتزويد "جباية الثمن" مسبقًا بالمعلومات عن خطط وعمليّات الجيش ضدّه، ممّا يساعد "جباية الثمن" على الاستعداد لنشاطات الجيش ضدّهم والتصدّي لخطواتهم( ). أمّا الصحافيّة ياعل باز – ملاميد فأكّدت أنّه ما دامت حكومة نتنياهو قائمة فلا مجال إطلاقًا لوضع حدٍّ لنشاطات "جباية الثمن". فهذه الحكومة تستجيب لطلبات المستوطنين، وإذا ما قامت الشّرطة باعتقال اثنين أو ثلاثة من المستوطنين المخالفين للقانون، يقوم الحاخامات بالضّغط على قادة أحزابهم وهؤلاء يقومون بدورهم بالضّغط على الجهة المناسبة، فيتمّ إطلاق سراح المعتقلين ويستمرّ نشاط "جباية الثمن" وتبقى بؤرهم الاستيطانيّة قائمة. واستخلصت ياعل باز – ملاميد أنّ "الحكومة الإسرائيليّة هي الرّوح الحيّة التي تدعم غلاة المتطرّفين" الذين يتلقّون تعليمهم في المدارس الدينيّة التي تموّلها الدولة، والتي تعبّئهم وتشحنهم بشحنات التطرّف( ).

أدرك زئيف شطيرنهل، أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة العبريّة في القدس، الوظيفة السياسيّة لتنظيم "جباية الثمن" ودوره في خدمة المشروع الاستيطاني برمّته، في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. إذ أكّد في مقالة له أنّ "عصابات جباية الثمن"، والتي شبّهها بالظّواهر العنصريّة التي ظهرت في أوروبا بين الحربين العالميّتين، هي الطّليعة المقاتلة للاستيطان الإسرائيليّ في الضفّة الفلسطينية المحتلّة. وأضاف شطيرنهل، إنّ عمليّات "عصابات جباية الثمن" ونشاطات المستوطنين هي التي ترسم حدود قوّة إسرائيل. فهي من ناحية تعمّق سيطرة إسرائيل على الأرض الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني وتوسّعها؛ ومن ناحيةٍ أخرى، حتّى وإن خسر اليمين الإسرائيلي الحكم، فإنّ سياسة إسرائيل تجاه المناطق الفلسطينية المحتلّة لن تتغيّر بشكلٍ جدّي، لأنّ عصابات المستوطنين هي التي تسيطر على المناطق الفلسطينيّة المحتلّة بتعاونٍ بين الجيش والشّرطة الإسرائيليّين. وأضاف شطيرنهل أنّ هؤلاء المستوطنين هم الذين يمسكون بإمكانيّة القيام بانتفاضة عنيفة ضدّ كلّ حكومة إسرائيليّة لا تخدم مصالحهم. وفي هذه الظّروف، فإنّ كلّ المفاوضات مع الفلسطينيّين للتوصّل إلى اتّفاقٍ ما هي إلا نكتة حزينة، لأنّ المجتمع ومؤسّسات الحكم في إسرائيل تقف عاجزةً أمام "حكم المستوطنين المستند إلى التّخويف والابتزاز"( ). وأشار شطيرنهل إلى تمتّع المستوطنين بدعمٍ واسع في المجتمع الإسرائيليّ وإلى وجود حلفاء لهم، من اليمين، هم القوميّون المتعصّبون الإسرائيليون، سواء أكانوا علمانيّين أو متديّنين. فهؤلاء جميعًا لهم قواعد وأهداف مشتركة. ويروْن أنّ التفوّق اليهوديّ يشكّل القاعدة الأساس للصهيونيّة ولوجود إسرائيل. وأضاف شطيرنهل أنّه مثلما كان الوضع لدى القوميّين العنصريّين الأوروبيّين في الفترة المظلمة من القرن الماضي، وكما هي الحال لدى العنصريّين في أوروبا في هذه الأيام، يقوم القوميّون العنصريّون اليهود الإسرائيليّون ببلورة التّماسك الإثنيّ بواسطة كراهية الغريب والآخر. فهم يعدّون المواطنة مصطلحًا اصطناعيًّا، وكذلك يعتبرون مجتمع المواطنين في الدولة الذي يشمل جميع المواطنين - والمواطنين العرب أيضًا- مجتمعًا اصطناعيًّا. لذلك، فمكانته منحطّة في مقابل المجتمع العرقيّ – الدينيّ اليهوديّ الذي يُعدّ طبيعيًّا في نظرهم. ويستطرد شطيرنهل قائلًا، من هذا المنطلق فإنهم يعتبرون حقوق الإنسان والقيم الإنسانيّة العالمية كالعدل والمساواة والحرّية قيمًا تافهة( ).

أثار تعامل وسائل الإعلام والنّخب الإسرائيلية -مع هجوم "جباية الثمن" على القاعدة العسكريّة- حفيظة الصّحافي الإسرائيليّ غدعون ليفي. فقد سخر من موجة الإدانة هذه في مقالةٍ له تحت عنوان "شكرا لمشاغبي اليمين"، لأنّها تتظاهر بأنّ عنف المستوطنين ظاهرة جديدة وتدّعي ذلك، وتدينه وتستهجنه عندما يوجَّه ضدّ الجيش الإسرائيليّ، وتدعمه ضمنًا أو صراحةً عندما يوجّه ضدّ الفلسطينيّين. ذكر غدعون ليفي في مقالته أنّه لا يوجد جديد تحت الشّمس ولم يحدث في الفترة الأخيرة ارتفاعٌ في وتيرة عنف المستوطنين ولم يقع تجاوز أيّ خطّ أحمر. وأضاف، "لقد كتبنا التّقارير أسبوعًا بعد آخر ولسنوات طويلة عن اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيّين. وقد ذكرنا كيف يهدّدون الفلسطينيّين ويضربون أبناءهم وهم في طريقهم للمدرسة، ويرمون القاذورات على الأمّهات الفلسطينيّات، ويطلقون كلابهم للاعتداء على الكهول الفلسطينيّين، ويخطفون الرّعاة، ويسرقون ممتلكات الفلسطينيّين، وينغّصون حياتهم على مدار السّاعة في كلّ مكان، في السّهل والجبل، في الشارع وفي القرية والمدينة، ويستولون على أراضيهم ويستوطنون فيها ويتحكّمون ويبطشون بالفلسطينيّين". ولكن بدل أن يحاسبهم المجتمع الإسرائيليّ على اعتداءاتهم هذه، قام باحتضانهم، وأيّدت جميع الحكومات الإسرائيلية والجيش وغالبيّة المجتمع الإسرائيليّ اعتداءاتهم على الفلسطينيّين، وضخّت تلك الحكومات لهم الميزانيّات الهائلة واعتبرتهم طلائعيّي المجتمع وملح الأرض ووعدتهم أن يبقوا في مستوطناتهم إلى الأبد. وأخذ المستوطنون يعدّون المناطق المحتلّة بلادهم ويرون أنّهم أسيادها وأنّه مسموح لهم بعمل كلّ شيء فيها. ودعا غدعون ليفي في ختام مقالته إلى "وضع حدٍّ للمشروع الاستيطاني برمّته وإزالته من المناطق الفلسطينيّة المحتلّة وإنهاء الواقع غير القانونيّ وغير الأخلاقيّ وغير المحتمل القائم في ساحة بيوتنا الخلفيّة"( ).

الخاتمة

لم يتأثّر نشاط تنظيم "جباية الثمن" ومجمل نشاط المستوطنين ضدّ الفلسطينيّين في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة، بالإجراءات الطّفيفة التي اتّخذتها الحكومة الإسرائيليّة ضدّ بعض ناشطي التنظيم على إثر هجومهم "على القاعدة العسكريّة للجيش الإسرائيلي في كانون الأوّل / ديسمبر 2011. وهناك شبه إجماع بين المحلّلين الإسرائيليّين أنّ نشاط تنظيم "جباية الثّمن" وجموع المستوطنين ضدّ الفلسطينيّين، يحظى بدعم قطاعاتٍ واسعة للغاية في المجتمع الإسرائيلي، وبدعمٍ وتشجيعٍ وحمايةٍ، من أجهزة الحكم في إسرائيل وفي مقدّمتها، الجيش وأجزاء من الحكومة الإسرائيليّة. إلى جانب ذلك، يحظى هذا النّشاط ضدّ الفلسطينيّين بتساهلٍ كبير للغاية من جانب جميع أذرع الحكم في إسرائيل وفي مقدّمتها: الحكومة والجيش والشّرطة والادّعاء العامّ والمحاكم الإسرائيليّة.

من غير المتوقّع البتّة أن يوقف المستوطنون وتنظيم "جباية الثّمن" اعتداءاتهم اليوميّة على الفلسطينيّين. لكن على النّقيض من ذلك، تشير الدّلائل الكثيرة إلى أنّ هذه الاعتداءات ستزداد كمًّا ونوعًا، وذلك في ظلّ احتدام الصّراع على مصير الضفّة الفلسطينية المحتلّة. ومن غير المتوقّع أيضًا أن تقدم الحكومة الإسرائيليّة على وقف اعتداءات تنظيم "جباية الثمن" وجموع المستوطنين ضدّ الفلسطينيّين وممتلكاتهم أو حتّى تخفيفها. فالحكومة والمستوطنون الإسرائيليّون ورأس حربتهم "جباية الثمن" يعدّون هذه الاعتداءات على الفلسطينيّين وممتلكاتهم وأراضيهم، جزءًا من عمليّة الاستيطان ذاتها ومن الصّراع على مصير أراضي الضفّة الفلسطينية المحتلّة. وفي هذا السّياق تدرك الحكومة الإسرائيليّة والمستوطنون أنفسهم الدّور التاريخيّ المهمّ الذي يقوم به المستوطنون في تهويد أراضي الضفّة الفلسطينية المحتلّة وفي دفعهم المستمرّ وعملهم الدّؤوب لالتهام المزيد من أراضيها من دون توقّف، وكذلك دورهم المهمّ، إلى جانب جيش الاحتلال الإسرائيليّ، في البطش بالفلسطينيّين لكسر إرادتهم وإذلالهم وتخفيض تطلّعاتهم وترويضهم لقبول وجود الاستيطان والمستوطنين فوق أراضيهم المحتلّة.

إنّ من أسوأ ما يمكن أن يحدث لشعبٍ يعيش تحت الاحتلال هو أن يصبح سلبُ أراضيه ونهبها واستيطان المحتلّين فيها أمرًا روتينيًّا يجري على مدار الساعة، وأن تصبح اعتداءات المستوطنين المحتلّين وبطشهم بالشّعب الذي يعيش تحت الاحتلال وتنكيلهم به، جزءًا من الحياة اليوميّة العاديّة. وهذا ما يحدث بالضّبط في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة. وممّا يزيد الوضع سوءًا، عدم وجود إستراتيجيّة فلسطينيّة أو عربيّة لمواجهة الاستيطان والاحتلال والبطش بالفلسطينيّين. فعندما تتعرّض فئةٌ من الفلسطينيّين لبطش المستوطنين، وعندما تتعرّض أرضٌ فلسطينيّة للمصادرة والاستيطان، -وهو الأمر الذي يحدث دومًا وعلى مدار السّنة- فإنّ الفئة التي تتعرّض مباشرةً للاعتداء ولمصادرة أراضيها هي وحدها، عادةً، التي تواجه الأمر وتتصدّى له. ولكن هذه المواجهة غير متكافئة إطلاقًا ونتيجتها معروفة سلفًا. فعندما يعتدي تنظيم "جباية الثمن" وجموع المستوطنين على الفلسطينيّين وينتزعون منهم أرضهم عنوةً ويبطشون بهم بدعمٍ من جيش الاحتلال الإسرائيليّ وحمايته، فإنّهم يدركون أنّهم رأس حربة مشروع استيطانيّ تتبنّاه وترعاه دولة محتلّة قويّة تمتلك جيشًا يوصف بأنّه أقوى من جميع جيوش دول المنطقة مجتمعة، وتحتكر السّلاح النوويّ في المنطقة وتتمتّع بعلاقاتٍ خاصّة مع الولايات المتّحدة التي تدعمها هي وأوروبا ودول أخرى.

يهدّد الاستيطان الإسرائيليّ في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة المصحوب ببطش المستوطنين بالفلسطينيّين، مصير الضفّة الفلسطينية المحتلّة ويُعدّ خطرًا وجوديًّا على الشّعب الفلسطينيّ وقضيّته العادلة. ولقد استغلّت إسرائيل -إلى أقصى الحدود- غياب إستراتيجيّة فلسطينيّة وعربيّة للتصدّي للاستيطان والاحتلال واستفادت كثيرًا من ذلك في الاستمرار في الاستيطان ومضاعفته. ليس هذا فحسب، بل استعملت إسرائيل، واستغلّت بالدّرجة نفسها، المفاوضات العبثيّة مع الفلسطينيّين التي استمرّت ما يزيد على عقد ونصف العقد، كأفضل غطاء لزيادة الاستيطان في الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة وخاصّةً في مدينة القدس الشرقيّة المحتلّة.

إنّه لا يكفي أن توقف القيادة الفلسطينيّة المفاوضات، ولا يكفي أن تشترط القيادة الفلسطينيّة العودة إلى المفاوضات مع إسرائيل بوقف الاستيطان. فإسرائيل مصمّمة كما يصرّح قادتها من على كلّ منبرٍ ولكلّ السامعين أنّها ستستمرّ في الاستيطان سواء كانت هناك مفاوضات أو لم تكن، لأنّها لا تخسر شيئًا حتّى الآن من جرّاء استمرارها فيه.

 لذلك، لا بدّ من رسم إستراتيجيّة وطنيّة فلسطينيّة تضع التصدّي للاستيطان والمستوطنين والنّضال من أجل إنهائه وإنهاء الاحتلال، في قمّة أولويّاتها وتركّز على الآتي:

1 – طرح مصادرة الأراضي واستمرار الاستيطان وبطش المستوطنين بالفلسطينيّين كقضيّةٍ مركزيّة محوريّة وعلى قمّة جدول عمل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة.

2 – إيلاء الأهمّية القصوى لأيّ اعتداءٍ على الفلسطينيّين، ولمصادرة أراضيهم، ولزيادة الاستيطان. واتّخاذ الخطوات النضاليّة لمواجهة ذلك، مثل الإضرابات العامّة والتّظاهرات وأشكال الاحتجاجات الأخرى في المناطق المحتلّة وفي أماكن الوجود الفلسطينيّ الأخرى.

3 – وضع خطّة عمل شاملة تطالب الدّول العربيّة وجامعة الدول العربيّة وجميع الدول في العالم وجميع الهيئات الدوليّة بتحويل موقفها المعارض والمستنكر للاستيطان والاحتلال الإسرائيليّ إلى أفعال، وفي مقدّمة هذه الأفعال فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليّين في المناطق الفلسطينيّة سنة 1967 ومقاطعتهم هم ومنتوجاتهم مقاطعةً شاملة ومنعهم من دخول هذه الدّول؛ وذلك تمهيدًا للمطالبة بفرض عقوباتٍ سياسيّة واقتصاديّة مؤلمة على إسرائيل، وجباية الثّمن منها لإرغامها على إزالة الاستيطان وإنهاء الاحتلال.