الحلقة السادسة

تمسكت حركة فتح بقوة بمنظمة التحرير الفلسطينية كيانا سياسيا وإطارا وطنيا واسعا ضاما لكل القوى السياسية والاجتماعية والثقافية يمنح كل طرف من خلالها ما يمكنه لفلسطين من نضال وعطاء. ليس هذا وفقط؛ بل تمسكت فتح أيضا بهويتها وشخصيتها بأنها حركة تحرر وطني لأجل  شعبها الذي ما زال في مرحلة الكفاح من أجل  نيل الحرية والاستقلال، هذا  هو الأساس الذي قامت عليه العملية النضالية الفلسطينية حتى وإن ذهبت للعمل الدبلوماسي والسياسي في مرحلة من المراحل.

فتح قالت: "البندقية تزرع، والسياسة تحصد، وخائن من يزرع ولا يحصد" ... هذا المفهوم  اختزل أهمية المضي قدما في طريق الثورة والعمل السياسي جنبا إلى جنب،  يؤكد في مضمونه على مبدأ المرونة في العمل، وتفسيرا لمفهوم "البندقية غير المسيسة – أي التي لا تلتزم الهدف الرئيسي -  قاطعة طريق".

لذلك كان لا بد من استمرار العمل الفدائي والكفاح المسلح ضمن رؤية للعمل السياسي والدبلوماسي للتعامل مع التطورات وحصد الإنجازات التي جاءت من خلال التضحيات والعطاء المتواصل – وهذا شأن كل الدول-،.

ولأن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وصاحبة الولاية عليه؛ هي ذاتها صاحبة الحق  في الحصاد السياسي، بل هي التي يتعين عليها ويتوجب أن تمارس الحصاد السياسي لما تزرعه البنادق والدبلوماسية، سواء كان ذلك على المستوى الوطني أو القومي أو العالمي، خصوصا بعد أن انتزعت  مشروعية الاعتراف العربي بها مرجعية سياسية وطنية لشعبنا وكل تشكيلاته السياسية والحزبية. بما يضمن أن يزرع كل فدائي – على اختلاف تنظيمه- فتحصد المنظمة جهده وتترجمه لمنجزات فلا يضيع هدرا ما قدم، وهذا ما ترجمته الوقائع على الأرض.

 

ولكن للتاريخ؛ يجب أن نعترف بأن "فتح" كانت أكثر من التزم التزاما مطلقا بالمنظمة ومهماتها وكفاحها، ولولا تمسكها غير المحدود بالمنظمة لكانت الظروف والحقائق  مختلفة، في ظل تنافس الآخرين – هنا وهناك – على ما لا يُعتبر أولوية وطنية بل منفعة حزبية؛ بما أفقدهم مصداقيتهم وجعلهم في تراجع ... ليس لأنهم تمسكوا بأيدلوجيا، بل لرفضهم المرونة السياسية وخوفهم من مبدأ "نزرع ونحصد"، ووقوعهم في خطايا المنافع الذاتية.

ولأن المنظمة استمرت في طريق تمكين القرار الوطني الفلسطيني المستقل، و توفير مظلة للجميع؛ لكان هؤلاء خرجوا من السرب نهائيا، والأمثلة والوقائع كثيرة على ساحة العمل الجماهيري تثبت صحة هذا الطرح.

الذين استجابوا للتجاذبات الإقليمية التزموا بها  لتشكيل جبهة هنا أو هناك خرجوا عن الخط السليم، ومنهم من استيقظ وعاد إلى حاضنة العمل الوطني الجامع للكل، وهناك من يزال يلتزم بهذا المحور أو ذاك إلا أن هؤلاء – مع الأسف - سقطوا مع هذه التجارب وهذا النوع من الارتباط الذي لا مستقبل له.

تعلمنا في حركة فتح مقاتلين ومناضلين أن الولاء لفلسطين، والانتماء لشعبها ووطنها بعد الله سبحانه وتعالى. لذا نقرأ التاريخ والفلسفة والفكر والدين والسياسة و الاقتصاد ونتعلم في مدرسة الحياة ونستقي كل العلوم من أجلها، وأن شعارنا الوطني والنضالي كان ومازال "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين".

الحناجر التي هتفت هذا الشعار وما زالت؛ هي حناجر فلسطينيين صادقين أصروا أن يسمع صوتهم القاصي والداني.

فالظاهرة الصعبة والمعقدة التي تواصلت على ساحة العمل الفلسطيني كانت تلك التي أباحت للغير أن يعبث وفق مصالحة وأن يفتعل ما يفتعل من أزمات عصفت في مراحل سابقة تحت عنوان "التحالفات".

 

حركة فتح عرفت كيف تقيم تحالفاتها ! ولكن مع من ؟! ولماذا؟!.

إن العدو المركزي لحركة فتح واضح، و هدفها المركزي لا حياد عنه، وتدرك فتح أيضا من هم الأصدقاء ومن هم الخصوم. فمن مع فلسطين وطنا وشعبا هو صديق، وحلفاؤها هم أولئك الذين وقفوا مع  حق تقرير المصير لشعبنا ، حقا دعت له كل القوانين والأعراف الدولية.

وعندما تتضارب المصالح و تتناقض المواقف؛ كانت فتح تتعامل بعقلانية مع الأمر، دون تهور أو انجرار إلى صدام، أو الدخول في معارك جانبية قدر المستطاع. فحركة فتح دعت منذ البداية إلى عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول وخاصة الدول العربية؛ لأنها وُجدت من أجل شعبها ووطنها و نضالات أبناء فلسطين والأمة  في سبيل تحرير الأرض الفلسطينية من الاحتلال، بالتالي لا يمكن لحركة فتح التي انطلقت على أرض الغير أن تحمل مسؤولية الصدام مع كل هؤلاء الذين قد يعارضوها، أو يتناقضوا  مع نهجها؛ لأن النتيجة الواضحة لا يُحمد عُقباها، طالما كانت مهمتها تأجيج الصراع مع الاحتلال.

وبالرغم من ذلك فرضت علينا الظروف معارك و صدامات لا حدود لها، ولا قدرة على حسمها لصالح النضال الوطني، وكان لا بد من التركيز دوما على شعار البنادق كل البنادق نحو العدو المركزي، والمضي قدما وفعلا في هذا الطريق، و تصعيد العمل الفدائي والسياسي  على هذه الجهة الرئيسية مما كان يخيف كل من لهم أطماع تهدف لضرب الخط الوطني  الفلسطيني، بل وتجبرهم أحيانا على التراجع؛ لأن لا صوت يعلو فوق صوت البندقية المقاتلة الوطنية الشريفة، وهذا النهج جاء بالمزيد من الدعم والتأييد من جماهير الأمة التي كان مطلبها دوما وأبدا "تحرير فلسطين" .

الجماهير – كل الجماهير – كانت وما زالت القاعدة الأساسية الثابتة لحركة فتح، والاعتماد عليها  في مراحل تعرضت لها الحركة إلى الكوارث كان الحصانة التي حفظت الحق وأثبتت بأنها أعتى من أي قوة. فصوت و صدى جماهير شعبنا وأمتنا كان الحامي للمشروع الوطني والنضالي على مختلف الساحات، وكان يظهر ذلك للجميع عندما ضربت ثورتنا في مواقع مختلفة فكانت تخرج الجماهير إلى الشوارع معبرة عن رفضها  لهذا العمل المشين، ولكن للأسف ؛ كانت قوى إقليمية وعالمية تعمل على إعادة المارد الفلسطيني إلى قمقمه، فلم تتوقف عن حبك المؤامرات ونسجها، وتشكيل الضغوط  للجم الكفاح التحرري، ومنعه من التسبب بالثورات الشعبية، أو خلق ثقافة نضالية لدى الشعوب تتسلح بها أمام الظلم في سبيل التغيير ؛ خوفا على مصالح تلك الأنظمة أو الدول وأسيادها .

اندمج النضال الوطني في إطار منظمة التحرير، وأصبح مفهوم العقلانية السياسية والنضال الجماهيري هما الأساس في مرحلة طويلة  زمنيا، ودفعت فتح ثمن ذلك من ثورتها، وتنازلت عن الكثير من أجل أن تبقى المنظمة و تستمر بقيادة العمل الفلسطيني وعنوانه الرئيسي، ومن أجل أن تبتعد عن روح المغامرة والاندفاع.

وباتت العملية السياسة تحكمها معادلات  السياسة وقواعد  الدبلوماسية والقانون الدولي، فكانت الحاجة لإيجاد حالة دولية ضاغطة ومؤيدة عملا إضافيا أنيط بالثورة؛ لأجل الابقاء على ساحة الأرض المحتلة الساحة المركزية للصراع. ولذلك  كان القبول بالموقف السياسي العربي والدولي الرسميين للبحث عن حل سياسي للنزاع العربي الإسرائيلي على حدود الأرض المحتلة عام 1967.

 

الحلقة السابعة

كل الثورات التي انطلقت في القرن الفائت على وجه البسيطة، انتصرت وحققت حرية واستقلال بلادها وشعوبها الا الثورة الفلسطينية التي مازالت في الطريق، والطريق مازال أمامها طويلا، وهي التي اتخذت من نهج المرحلية استراتيجية عمل متواصل، وربما يعود ذلك لخصائصها وطبيعة الصراعات التي تواجهها.

الثورات التي يطول عمرها زمنيا يصعب طريقها، وتكثر همومها وتثقل خطاها على الأرض، والثورة الفلسطينية منذ بداية الطريق واقعها العربي والوطني. وما تواجهه من تحديات أثقلتها كثيرا وحطمت فرصا عديدة أمامها، والمرحلية في النهج الفلسطيني أنقذها وجودا وممارسة وجعل الجميع يدرك إصرارها على المضي والبقاء لتحقيق أهداف شعبها .

إن الحكمة في نهجها للتعاطي والتعامل مع الواقعين العربي والدولي تظهر حين اتبعت المرونة السياسية والتفاعل مع التطوارت والتغيرات الجارية هنا وهناك وراحت توائم الشعار مع الواقعية السياسية وما يحافظ على جوهر ومضمون الهدف الرئيسي والتمسك بالحقوق الثابتة لشعبنا المناضل تلك الحقوق التي قد تلجأ إلى كل الوسائل كي تصل إليها جيلا بعد جيل.

المراجعية النضالية كانت المخرج الحقيقي لشعار تحرير فلسطين وتوظيفه في واقع كله صعاب وعقبات وربما تحديات عاصفة تكاد تفتك بالوجود النضالي في ساحات المنفى حيث الثورة وخصائصها وعلاقاتها.

وهذا المفهوم دفع العمل السياسي الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى الدخول في الساحات الدولية؛ خاصة وأنها -أي المنظمة- وافقت على مبدأ التسوية للصراع العربي - الإسرائيلي ضمن رؤية النقاط العشر التي طرحت على الساحة، وما أقره المجلس الوطني -برلماننا في المنفى- بمبدأ إقامة سلطة وطنية على أي جزء يتم تحريره من أرض فلسطينية سياسيا أم عسكريا، وتم القبول بقرارات الشرعية الدولية والتعامل معها. وهو الأمر الذي نقل العمل الفلسطيني إلى المجتمع، وأخذ يتجمع حوله مركز القوى والفئات السياسية بالرغم من حدوث انقسامات وانشقاقات -ما- فيما بعد على ساحة الحركة الوطنية الفلسطينية، وبالذات في المنافي، وعلى ساحة الدول المحورية والاقليمية من بعض فصائل وقوى النضال الوطني لأسباب ودوافع مختلفة، إلا ان ذلك يبقى من خصائص نضالنا وواقعنا.

آمنت فتح بالمرحلة لما فيه من ملائمة بعيدة المدى مع طبيعة الصراع التي تخوض وتتالي المبادرات السياسية، التي تطلق معل كل معركة تخوضها أو مع كل مرحلة تجتازها وتحقق فيها صمودا، وكثيرة هي المحطات والاتفاقات والمبادرات التي مررنا بها مقاتلين ومناضلين، وكثيرون هم المتفرجون أو المراقبون وحتى الانتهازيين الذين راهنوا على سقوط دفة النضال بأيديهم.

أجبرت حركة فتح  ولسنوات طويلة أن تزيد من اتباع نهج المناورة السياسية لما بات يهدد وجود مستقبل منظمة التحرير من معارك صغيرة هنا وهناك. وما كانت تواجهه من ضغوط عربية ودولية، وكثرة المبادرات والدعوات السياسية، وكان من اللازم أن تعطي المنظمة موقفا وردا ربما واضحا أو مباشرا، طالما هي الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، وإلا ستفلت منها مصداقية التمثيل وشرعيته. وفتح التي باتت جزءا لا يتجزأ من م.ت.ف أو ربما هي المنظمة حسب مفاهيم البعض لم يكن بإمكانها أن تفسخ علاقتها واندماجها في المنظمة ولا حتى أن تهرب منها أو تدير ظهرها لأي موقف كان، حتى لو أدى ذلك إلى التناقض مع ثوريتها أو نضاليتها أو رصيدها أمام الجماهير والأصدقاء الآخرين، فبات عليها الكثير الكثير من المسؤوليات ولا يمكنها أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.

وحتى إن أصبحت المنظمة تتصرف ككيان أو نظام سياسي رسمي فمرد ذلك إلى واقع الحال العربي وحتمية التغيرات السياسية والمضي في الطريق للحفاظ أو التواصل بالمشروع الوطني الفلسطيني الذي بات حقيقة لا يمكن لأحد تجاوزها، والذي لابد من الحركة الفلسطينية كلها، أن تدرك أن المسألة لم تعد نظريات ثورية وإنما واقع سياسي ومعادلات إقليمية ودولية لا يمكن منعها أو إسقاطها، إنما التعامل معها والاستفادة منها لصالح العمل والهدف والاستمرارية.

إن المرحلية جاء فيها من طرائق عمل وتكتيكات سياسية وتحالفات وعلاقات وغيره كثر فيها الاجتهادات، وارتفع معها منسوب التناقضات الثانوية، ولكل طرف أسبابه، ولكل عمل نتائجه، سواء  أخفق من أخفق وتراجع من تراجع، ربما لقلة فهمهما وإدراك متطلباتها، وإما لضعف الاندفاعة النضالية، والحصار الذي ضرب من حولها حتى باتت جميع الأطراف متبعثرة في معسكرات سياسية وإقليمية إلى قوة ومكانة المركز الذي وفر المظلة للجميع، وكان الوصول إلى فلسطين يأتي عبر زوايا حادة وقنوات ضيقة.

لكن وللأسف –والمعذرة- سقطت المرحلية سقوطا مدويا مع قبول مبدأ التسوية الذي كان عمادها 99% من أوراق اللعبة بين الولايات المتحدة الأمريكية.

هذا السقوط دفع البعض ليتساوى مع كل الأطراف، وجعله –أيضا- يطرح نفسه بديلا طالما أن شعار تحرير فلسطين كان مخرجه المرحلية، ثم مبدأ التسوية ثم الدخول في الحل الأمريكي الإسرائيلي للصراع والبحث عن فرصة؛ سواء من خلاله أو في بعض المساحات المتاحة هنا وهناك.

المرحلية سقطت، وبدأ بالبدل بالظهور والمنظمة أصبحت رمزا تراثيا للهوية الوطنية، وكأن الهدف الرئيسي قد تحقق وحولنا كل المراكز الى متاحف والمخيمات أولها وآخرها.

سقطت المرحلية وحل مكانها صراعات داخلية وإرضاء أطراف خارجية، والقبول بأي مخرج قد ينقذ البعض ويجعله زعيما في التاريخ.

 

الحلقة الثامنة

المرحلية التي أرادتها فتح، ليست المرحلية  التي يدعيها البعض؛ فهناك اختلاف حقيقي وموضوعي بينهما لأن المقولة التي قالت: "الطريق إلى تل أبيب يمر عبر جونيه" في مرحلة من مراحل نضالنا التاريخي والعظيم، كانت ردا على من أرادوا للتناقض الثانوي أن يهدد الكفاح الوطني في المنفى ويدخله طريقا لا مخرج له، وكذلك الذين أدخلوا النضال الفلسطيني في طريق لا تسوية فيه.

لكن الحقيقة التي يجب أن يفهمها الجميع؛ أن فلسطين قضية عادلة، فيها من عوامل المناعة الذاتية ما يكفي لمواجهة التحديات والمآزق حتى في حالات الضعف، فتعود وتولد من جديد وحسب الحاجة والصراع والمتغير، لذا اشتهر كل من اقترب من عدالة القضية الفلسطينية وبرز من خلالها في الراي العام و المجتمع.

إن  أي قضية  ترفع الشأن أو تشهره وليس العكس، فالاجتهادات السياسية وغيرها تقاس بنجاحها وصلاحيتها ومدى واقعيتها، عدى عن قربها أو بعدها عنها في القياس الأول والأخير، ومهما كانت المعتقدات والأيديولوجيات ومن ينادي لها، فقضية فلسطين محور المحاور والمعتقدات، ومركز المراحل، ودون ذلك عبث وتلاعب ولهو من نوع ذاتي وصولي.

بالتالي نقول أن المرحلية لم تطرح لكي يتم شطب شعار ومفهوم تحرير فلسطين، ولم يكن يعني أن المرحلية هي تحرير الجزء المحتل عام 1967 من أرض فلسطين وفقط، إنما هي ذكر شامل لمنهج نضالي سياسي في التعامل مع تطورات الصراع، لكن الذين أرادوا التسوية على ذلك الأساس هم الذين فسروه بتلك الطريقة خدمة للهدف والمطلب!.

صحيح أن ميزان القوى المحلي والعالمي ليس لصالح الحركة الفلسطينية بكامل قواها؛ لكن تغيير الميزان كان يمكن أن يحصل بالتراكم النضالي والتغيير الإقليمي والعالمي كما حصل الفعل السياسي نتيجة للنضال المسلح. ثم إن الحديث عن ميزان القوى لم يكن مفقودا؛ إنما كان موجودا قبل وبعد انطلاق الثورة، لذا لا مصداقية لمن ادعوا أن المرحلية هي مرحلية الأهداف المتغيرة.

لكن السؤال الجاد والحقيقي الذي كان مطروحا على النظام السياسي العربي الرسمي وقوى التحرر الوطني والقومي – آنذاك ولم يزل -  هل كان بالإمكان إسقاط اسرائيل في البحر وإزالة وجودها من المنطقة؟!

كل الذين أجابوا على هذا السؤال -الذي مازال في ذهنية بعض التيارات ودعاة الأيدولوجيات المختلفة- كانت إجاباتهم مقتصرة على العاطفية والانفعالية اللفظية والتعبئة المعنوية، دون أن تضم الإجابات أفكارا واقعية تدفع الحراك التحرري صوب طريق تحقيق المنجزات المتتالية، ومهما كانت خطورة  الإجابات التي جاءت من القوى التي تحدثت عن ضرورة الاعتراف بوجود الكيان المعادي والقبول به، وتقاسم الحل معه بما يكفل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وإنهاء الصراع بالطرق السلمية، حتى من بعض القوى المؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني والمعترفة بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد. فالكيان قائم، وواقعية الحل كانت حقيقة تواجه العمل الفلسطيني في أي مكان وأي زمان. وهنا نقول أن المرحلية السياسية  استراتيجية في العمل الفلسطيني، وهي أم الإجابات على ذلك السؤال الذي يفرض علينا الخروج من الأحلام والأوهام و الركون إلى الانتظار إلى ما لا يمكن تحقيقه  دفعة واحدة؛ بل بمرحلية استراتيجية.

إن الحل المرحلي كان وراء إخراج الساحة الفلسطينية من الخيال إلى  الواقع، ومن المستحيل إلى الممكن - وما نعيش اليوم يجيب على ما اجتهد بنفي نجاعته البعض.

وفن إدارة السياسة والصراع والأزمات؛ حقق الكثير على مستويات متعددة منها ما أوصلت منظمة التحرير إلى الحالة الأممية كهوية معنوية وسياسية للشعب الفلسطيني، وذلك  رغما عن الذين أساؤوا لها.

 كذلك أعادت حركة فتح قضية فلسطين إلى وضعها الطبيعي سياسيا ونضاليا ودوليا، وانتزعت لها الحصانة والمكانة والمناعة، ثم اعتراف العدو بها.

 ومازال العمل طريقه طويلا للوصول إلى الحرية والاستقلال، في ظل وضعية العدو المتقدمة، والذي يمتلك  الكثير من القدرات والكفاءات التي وظفها في احتواء القضية، وجعلها قضية مطلبية لا حقوقا سياسية ووطنية، ومازال يرفض كل القرارات والمواقف الدولية والدعوات والحلول السياسية وفي مقدمتها حل الدولتين -الذي جاءت به استراتيجية المرحلية الفلسطينية، وأصبحت كل المعطيات وأمور الصراع ومحيطه في حالة تعقيد ومأزق-، لا أحد يمكنه الخروج منها، باستغلال العدو لقوته المتفوقة عسكريا ولوجستيا، وسياسة الأمر الواقع المتبعة من قبله عبر سياسة الاستيطان والتهويد، ومازال مسيطرا بإحكام على جميع مناحي الواقع، بهدف احتواء قضية فلسطين وأدواتها وما يخصها من قرارات دولية وحلول ومبادرات مستغلا -دائما- الضعف العربي الذي كان ولا يزال عبئا على كاهل الثورة ومعيقا لتقدمها في ظل الحاجة للعمق العربي الفاعل.

الحلقة التاسعة

إنّ الصراع مع إسرائيل على أرض فلسطين العربية، لم يكن يحتاج إلى نضال مرحلي سياسي إستراتيجي؛ إلاّ أنّ الواقع العربي الرسمي، والحالة الدولية، وموازين القوى فيها، وفي ظل صراع وجودي؛ كلها عوامل فرضت على حركة فتح أن تجد مخرجاً لشعارات ومفاهيم الثورة بما يتناسب مع تطوّرات الصراع العربي الإسرائيلي؛ من تحرير فلسطين بالكامل ورفض التقسيم، إلى تسوية  وحل عادل، ثم إلى حل مقبول وفق قاعدة المرحلية، وقاعدة خذ وطالب.

وللأسف؛ نحن الذين بادرنا بعد سلسلة حروب ومؤامرات تصفوية لثورتنا وكفاحنا المسلح للتجاوب مع متطلبات ودعوات النظام العربي الرسمي، والمجتمع الدولي، وهيئاته التمثيلية،  وفي مقدّمتها الأمم المتحدة بإعتبارها العنوان الرئيسي لهذا المجتمع.

وقد تعاملت فتح مع هذا العالم على إعتبار أنّ الدول تتوزّع في خمس دوائر لها مصالحها وتحالفاتها وسياساتها؛ لتستفيد منها في عملها ونضالها فيما يخدم القضية الفلسطينية العادلة، وعدم إدخالها في محاور إقليمية وعالمية قد تؤدّي إلى شطبها جرّاء الصراع العالمي المنتشر بين دولة بعينها والمصالح المختلفة المتعارضة.

هذه الدوائر، هي: العالم، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ودول عدم الإنحياز - الدول الإفريقية والإتحاد الإفريقي، والمنظومة الإشتراكية ( الإتحاد الروسي وأوروبا الشرقية )، والمنظومة الرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ( الإتحاد الأوروبي ).

وراحت السفينة الفلسطينية النضالية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية تبحر في بحور هذه العوالم؛ لإحداث مسألتين هامتين، الأولى: إعتراف الكون بشرعية النضال الوطني وحق تقرير المصير لشعبنا وضمان حريته وإستقلاله، والثانية: قلب ميزان القوى السياسي العالمي لما فيه المصلحة الفلسطينية في وجه الكيان الإسرائيلي العنصري العدواني، وتعرية مفاهيم ونظريات الإحتلال والإغتصاب الحاصل في فلسطين، وحشر هذا الكيان في الزاوية، وفرض تسوية سياسية، وجعل القبول بها ضمانة الإعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة، لإقامة دولة فلسطين على الأرض المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس، مع حل مشكلة اللاجئين حلاً عادلاً يستند للشرعية الدولية.

هذا جوهر الفكرة الفلسطينية لحل صراع المائة عام!، والذي إشتركت فيه كل دول العالم وتأثرت به، وكان نهجنا الفتحاوي في التعامل مع العالم يقوم على أساس أنّ فتح، فلسطينية الوجه، وعربية العمق، وإنسانية المطاف.

أيّ فتح جزء من حركة التحرّر الوطني العالمي، وتخوض صراعاً مع المستعمر والمحتل، وهذا هو الرابط الوصفي الجامع ما بين حركات التحرّر في العالم، فالعدو – المستعمر-  واحد الوصف والأداء، والظلم الواقع منه على – إختلاف لغات المستعمرين - واحد، والطغيان في قمع هويات الشعوب المحتلة واحد. وبالتالي إرتكزت فتح في نضالها العالمي والأممي على أنها جزء من الكفاح العالمي ضد الإستعمار والإحتلال والإمبريالية.

إنّ الدخول في لعبة الأمم كان أمراً لابُد منه، وهو البُعد الثالث للحركة وكفاحها لإنتزاع الإعتراف بالحقوق الوطنية الثابتة، بقيادة الممثل الشرعي - منظمة التحرير الفلسطينية -، وكانت هذه المنظمة  - التي رفض البعض من أبناء جلدتنا الإعتراف بها حتى اليوم، لأسباب أيديولوجية وحزبية -، هي الحقيقة التي إكتوت بنار الصراعات في المجتمع العربي  والأمم المتحدة  حتى حصلت على عضوية ( مراقب ) في كل المنظمات العالمية، وحققت للشعب الفلسطيني الإعتراف به وبهويته الوطنية وحقوقه الأصيلة، ولم يكن هذا سوى لأنها إنسجمت مع شعبها، ومع عمقها العربي، وكذلك مع المجتمع الدولي ومواثيقه وقوانينه.

ولم تستطع فتح الوصول بالمنظمة إلى دول العالم؛ لولا الطريق الطويل الذي عبرته بنضال وكفاح وتضحيات كبيره قدّمها شعبها على كل الساحات والمستويات، بجدارة المناضل اللبيب والصابر والمتمسّك بالبندقية الوطنية المناضلة، وبذلك  حصلت منظمة التحرير على إعتراف العالم بها، وبأهدافها، وما قدّمته من مبادرة لحل الصراع العربي/ الإسرائيلي، بإقامة دولة فلسطينية على أرض فلسطين المحتلة في الرابع من حزيران عام 1967.

هذه هي حكمة النضال والإستراتيجية الفلسطينية؛ بأنها تعاملت مع كل المساحات الواسعة والضيّقة التي تمرّ وتعبّر فيها بثبات وتوازن وإدراك للمعادلات الدولية، وطبيعة الصراع القائم في فلسطين، حتى أصبح ما  يسمى  بحل الدولتين أمراً واقعاً، وحقيقة ناصعة، مع أنّ النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية تجاهل فلسطين وشعبها، بل وداس بقدمين ثقيلتين فوق حقوق شعب كان ضحية الأطماع الاستعمارية. علماً أنّ فتح قدّمت ومنذ البدايات حلّ الدولة الواحدة لفلسطين، يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي بتساوٍ وعدل وإنصاف، دون تمييز على أساس الدين أو اللون أو الفكر، لكن هذا الحل الذي رفض آنذاك؛ يعود اليوم ويظهر من جديد دون لون أو رائحة.

إنّ نظرية الحل السياسي للصراع العربي / الإسرائيلي تعاملت  معها حركة فتح بذكاء وحكمة، وإستندت فيها على القانون الدولي والشرعية الدولية، وما جاء من قرارات أممية تقضي بإحقاق الحقوق الوطنية الفلسطينية؛ كونها حقوقاً سياسية وقانونية منسجمة تماماً مع قوانين العالم، ولا تتعارض إلاّ مع الفكرة الصهيونية وكيانها إسرائيل، ومع حالة الإنحياز من قِبَلْ الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على العالم والمنطقة بالقوّة والتعسّف.

لقد دخل النضال الفلسطيني بكل أشكاله في مآزق متعدّدة - وربما متتالية -، فرضتها مصالح دول وأنظمة سياسية مهيمنة  ذات أطماع في هذا الوطن الكبير، لكن الحكمة وعقلانية وعدالة القضية الفلسطينية؛ كانت السبب دائماً في الخروج من هذه المآزق المفتعلة

إنّ القوّة لا تستطيع أن تزيل الحق - وربما تطمسه مؤقتاً -، ولكنه يعود ويظهر من جديد، وبشكلٍ واضح وجلي، والعمل النضالي الفلسطيني تعاطى مع ظاهرة القوى ومراكزها العالمية، وحقق تقدّماً هاماً في مساره بينها، وحقق إنجازات عادت بالفائدة على شعبنا وقضية تحرّره المنسجم موقفاً وفكراً مع المجتمع الدولي، هذا المجتمع الذي ما يزال الرهان عليه قائماً بمنظماته ومؤسساته، ليكون طريقاً معتمداً للوصول إلى حرية شعبنا واستقلاله.

 

الحلقة العاشرة 

العوالم الخمسة في هذا الكون التي راحت حركة فتح تبحر في محيطها ومقاتلوها يحملون البنادق بيد وغصن الزيتون بأخرى، هي أفضل صورة تصف حال الحركة الوطنية حينها.

والنظرية السياسية النضالية الفلسطينية بالشكل الموصوف ومعناها الحقيقي وثقلها العادل؛ أحدثت الاختراق الهام في الفكر السياسي العالمي، وفي مجتمعات الدول، ومنابرها وأروقتها، وأعادت للقضية الفلسطينية مكانتها بإرادة فلسطينية، وحراك في كافة المجالات السياسية منها والجماهيرية،  وعلى الأصعدة الدولية بالدبلوماسية  المثابرة.

إن الحقيقة الواجب قولها؛ أن فتح لم تكن وحيدة في هذا العالم، فقد وقف معها  المؤمنون بعدالة القضية الفلسطينية، ممن نسميهم الأحرار والشرفاء عبر العالم، فدفعوا بقوة  معظم دول العالم وحكوماتها للاعتراف بالهوية الفلسطينية، والممثل الشرعي لشعبنا الفلسطيني – منظمة التحرير الفلسطينية-، الأمر الذي أجبر العدو الإسرائيلي والصهيونية العالمية، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية أن تتراجع أمام هذا المد التحرري العالمي.

وأمام الضغط الدولي والجهد الوطني المبذول؛ اعترف العالم بمنظمة التحرير الفلسطينية عضوا مراقبا في الأمم المتحدة،  فهي تشارك في  جميع الاجتماعات والدورات، وتفرض حضور القضية الفلسطينية بشكل دائم – بل وفعال-، وقد صدرت العديد من القرارات الدولية لصالحها، وقرارات تدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في الوطن المحتل.

فلسطين استقرت  في الوعي العالمي والإنساني عبر ذلك النضال السياسي الدؤوب والمليء بالتضحيات والصمود، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل استطاع الفكر السياسي الفتحاوي أن يقترح حلا ممكنا لصراع طويل أمام موازين القوى وتأثيراتها، وتشابك المصالح الدولية المعقدة. هذا الحل كان وما زال ممكنا لو لاقى تجاوبا أمريكيا وإسرائيليا، واستعدادا من هاتين القوتين للتراجع عن نظريتهما حول الهيمنة والتسلط والقمع والتفرد بالمنطقة ومصالحها ومقدراتها.

إن الحل الذي وصل إليه إجماع القوى الفلسطينية بالتدريج، والتأكيد على إمكانيته الوطنية في ظل معادلة كانت الأصعب في تاريخ الصراعات (حل الدولتين) بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي  التي احتلتها إسرائيل  في حزيران عام 1967، على أرض لا  تمثل سوى خمس مساحة فلسطين التاريخية. ومن العدالة أن نقول  بظلم هذا الحل، وبأن  خطوطه العريضة  تشكل التنازلات المؤلمة التي قدمناها على سبيل الحل الدائم إذا ما قيس بالحق الفعلي للشعب الفلسطيني على أرضه، وشعارات التحرير لكامل التراب الفلسطيني، لكنه فن الممكن "سياسيا" وفق المرحلية في كسب الصراع .. لماذا؟

 

لأن الصراعات البشرية في التاريخ انتهت في أغلبها  على شكلين او بطريقتين:

الأولى: بالسيف  - القوة – بالقتال حتى النصر.

الثانية : باللسان . (التفاوض والتسوية)

وفي الحالة الفلسطينية، اتبعنا الطريقتين، قتال حتى النصر وتفاوض للتسوية، إلا أن الموقف في القضية الفلسطينية كان الأكثر تعقيدا عبر التاريخ، فلم تصل بذلك القضية إلى نهاية المطاف المرجو حتى الآن. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حلول الصراع من وحي الاجتهاد، ومحاولات كسب المزيد من التأييد للقضية الفلسطينية، خصوصا إذا ما كانت الحلول تتناسب مع مصالح الأقاليم والدول المؤثرة على مجريات  الصراع بانخراطها فيه.

فقد رفض العالم  بأسره رفضا مطلقا إزالة  دولة الاحتلال وإنهاء الصهيونية في فلسطين، بمعنى رفض المجتمع الدولي وزعماءه "قذف إسرائيل للبحر" وقبل – ربما -  بحل واقعي أو تسوية مقبولة، و من هنا لم يكن أمام حركة فتح إلا أن تتلاءم بطرحها مع مجموع المعادلات والمصالح والتشابك في العلاقات ما بين الدول.

يمكن أن نطلق على هذه الحالة مصطلح "الحداثة السياسية" لضمان الديمومة  النضالية لتحقيق حق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني، وعند البعض اعتبر هذا النهج تفريطا وتنازلا ومساومة على الحقوق، ذلك لأن  نظرية "الكم"  كانت الأساس والمنطلق لدى هذا البعض، ولم يعترف هؤلاء بنظرية "النوع". بمعنى أن اثنين وعشرين دولة عربية و معهما دول العالم الإسلامي قادرة – وفق نظريتهم في الكم – على خوض الحروب المتتالية إلى ما لانهاية، حتى تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل من الوجود.

وبالعلم أن  حروبا اندلعت منذ عام 1948، لم تفلح فيها الدول العربية التي خاضتها بإلحاق هزيمة واحدة لإسرائيل، وأخذا بهذا الاعتبار الذي يعد جزءا من اعتبارات كثيرة تتعلق بوضع وجاهزية والتزام الدول العربية يمكن القول بأن موقف الرهان على "الكم" لم يجد نفعا، وسقطت كافة النظريات السياسية التي ساندت هذا النهج، من الوعي العربي والعالمي.

حركة فتح وبذكاء وحكمة وواقعية اتبعت النهج التجريبي في  صناعة التوجهات والقرارات، وما أمكن توفيره لحل الصراع بعدالة، وتحقيق التقدم والحضور والتواصل على كافة الأصعدة.

إن التقدم في القضية الفلسطينية وحضورها الفاعل مهمة ضرورية وصعبة في ظل التغيرات المستمرة والسريعة، والتحولات الإقليمية والدولية جارية وبسرعة تسحق كل من يقف أمامها وربما تقذفه جانبا، فما بالنا اليوم وفي عصر العولمة وثورة الاتصالات وهيمنة وحيد القرن على دول العالم، الذي يتفجر يوميا فيه الثورات الشعبية والأزمات الاقتصادية، والتصادمات الإقليمية والنزاعات الكثيرة!

القرار الإسرائيلي الأمريكي الإقليمي بضرب التواجد الثوري المسلح لمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها في لبنان؛ نقطة تحول في تأريخ الكفاح المسلح والصراع العربي الإسرائيلي، بهدف تشتيت هذا التواجد المقلق لمصالح الكثيرين في المنطقة، بعد أن اشتعلت حرب أهلية هناك واستمرت لأكثر من عشرين عاما، أنهكت وفرقت لبنان وشعبه، وأعادت للمنطقة ظاهرة أخرى كانت امتدادا للكفاح المسلح الفلسطيني الذي أشعل  الحدود مع فلسطين المحتلة، وما زلت المنطقة في ذات الاتجاه رغم الحروب والتدخل الدولي، والتغيير في الوضع بخروج العامل الفلسطيني المسلح من المنطقة، وانتقال مركز القرار إلى إفريقيا، حيث جامعة الدول العربية في تونس، وبالتالي ظهر ما يمكن وصفه بقيادة في إفريقيا وثورة في آسيا !

هذا الوضع أحدث فراغا سياسيا ومعنويا، وبات البحث من خلاله عن انتصارات صغيرة هنا و هناك للحفاظ على الوجود والتذكير به، ومن جهة أخرى خاضت الثورة بطريقة أو بأخرى في طريق التشويه بشكل أكثر وضوحا وصراحة، وفي عواصف و مغامرات فرضتها الظروف، وراهنت فيها القيادة على ثقة شعبنا الفلسطيني بتوجهاتها وحملها لأمانة الممثل الشرعي والوحيد للشأن الفلسطيني، أمام سياسة خلق البدائل  لطمس الحقوق الوطنية من جديد.

إن خلق البديل حرب باتت شبحا مخيفا، وحالة ترمي بظلالها على واقعنا الفلسطيني، في ظل ظهور المتساوقين مع هذه الفكرة تحت ذرائع  مختلفة مغلفة بالوطنية، وكما تعودنا الحديث بصراحة المؤمنين بمبدأ النقد والنقد الذاتي؛ فقد نجح أعداء القضية الفلسطينية  في خطتهم التي أسفرت عن حصار سياسي وضغط لا مثيل له حتى الآن على القيادة الفلسطينية، وفُرض  حل التسوية باللسان لا بالقوة والذي تكيفت معه فتح سياسيا من أجل مجاراة العالم و تحصيل الجزء الأكبر "مرحليا" للحقوق الوطنية، فبتنا نخوض في  طريق الحل الأمريكي والإسرائيلي منذ ذلك الحين.

وبالرغم من المبادرات السياسية  لتسوية الصراع، كان الحوار الأمريكي الفلسطيني إشارة من الإشارات الرامية لتعميق الاتصال السياسي بغرض فرض الشروط على  فلسطين لاحقا، علما بأن قرارات و توجهات "المنظمة" استبقت المرحلة ودعت لحل الدولتين، ولكن الطرف المعادي أخذ المبادرة لناحية استفادته من خلالها بتكريس الاحتلال أكثر فأكثر وكسب الوقت بإدخالنا في دوامات التشكيك والصراع الداخلي.