سلسلة حلقات "لماذاأنا فتح؟"

من الحلقة الحادية عشرإلى الحلقة الرابعة عشر

بقلمالمحامي /لؤي عبده

عضوالمجلس الثوري لحركة "فتح"

 

الحلقة الحادية عشر

كلالثورات التي انطلقت في العالم انتصرت على أرضها، إلا أن الثورة الفلسطينية انتصرتعلى أرض العالم قبل أن تنتصر على أرضها

الخروجمن لبنان في بداية الثمانينات من القرن الماضي، فتح الباب لدخول المؤامرات المحليةوالخارجية وتشتيت قوى الثورة، وعزل قياداتها، وإبعادها عن مركز الصراع، وفرض حصار طويلالأجل عليها، والبدء في تفتيتها سياسياً وأمنياً، ولوجستياً.

لكننسى الإمبريالي الأمريكي والإسرائيلي الصهيوني والمتواطئ هنا وهناك؛ أن الثورة باتتروح الفلسطيني ووعيه الوطني، وخلاصه من الذل والاضطهاد والاحتلال والشتات.

فتحعرفت خصائص الثورة وأبعادها ومنطلقاتها، وأكدت أن طريق الحرية لفلسطين مازال طويلاًوشاقاً يحتاج إلى التضحيات تلو التضحيات، وما لم تستطِع البندقية إنجازه جاءت السياسةلتحقيقه؛ لأن أهم ما انتزعته بندقية النضال الوطني كان اعتراف العالم بمنظمة التحريرالفلسطينية ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني، والوطن المعنوي والهوية السياسية له. بالتاليلا أحد يمكنه أن يسلب هذا الشعب حقه بالتمثيل وقراره السياسي المستقل.

معذلك الواقع المرير الذي فرض على الثورة الفلسطينية الواعدة؛ فتح الطريق أمام الكثيرمن الضغوط الإقليمية والدولية لابتزازها سياسيا، واستقطاب أطراف من قواها الذاتية ودفعهمللقيام بممارسات لا تصب إطلاقاً في أهداف الكفاح المسلح والعملية السياسية.

 ومنناحية أخرى كان النظام العربي من المحيط إلى الخليج يصرّ على التصرف سياسياً بالقضيةالمركزية للأمة العربية -قضية فلسطين-، واتخاذ القرارات والمبادارات على طريقته لوضعهافي مسار التسوية، وخاصة بإخضاعها إلى تلك القرارات المنقوصة مثل قرار 242 الصادر عنمجلس الأمن في عام 1968-1969، وهو القرار الذي لم يكن موجهاً للشعب الفلسطيني ومنظمةالتحرير الفلسطينية آنذاك؛ وإنما للدول التي كانت تخضعنا للوصاية والرضوخ.

 هذاالقرار الذي فجر الساحة الفلسطينية مرات عديدة وخلق الإشكالات وزاد من التناقض الثانويفي مراحل ما؛ كان لا بد من إيجاد المخرج السياسي الحقيقي للتعامل معه على أنه ورقةمن أوراق لاعبي السياسة الدولية الكبار.

القبولالعربي بهذا القرار آنذاك كان له أسبابه، أما القبول الفلسطيني فكان نتيجة لتلك المواقفوالصراعات والابتزازات التي جرت في تلك الفترة، بل ومع كل مؤامرة ومعركة سياسية وأمنيةخاضتها الثورة؛ كان هذا القرار يوضع على الطاولة مرة تلو الأخرى.

وبعدتلك التجرية الطويلة والعظيمة، تجربة الكفاح المسلح والتواجد على ساحتي دول الطوق الأردنولبنان، ومحاولات القضاء على هذا الوجود بسبب ذرائع ودعوات ومفاهيم ومقولات مفتعلةللتخلص من هذه الحقيقة المقلقة وبرميل البارود المتفجر المهدد لأمن واستقرار الكيانالإسرائيلي، بل وبعض الأنظمة العربية المتسلطة.

 لذلكوخوفاً من هذا الفيروس الفلسطيني المؤثر والسريع الانتشار؛ كان لا بد من هؤلاء أن ينهواتلك الثورة المسلحة بأي طريقة ممكنة، وإخضاعها للمنهج السياسي العربي  في الحرب والسلم والأمن والاستقرار، ولعبة الدول.ومما قيل في هذا الشأن من أقاويل (كل الثورات التي انطلقت من فلسطين ضربت في الدولالعربية)،  وتهدف مثل هذه المواقف –ببساطة-  منع  انطلاقالثورات المسلحة بشكل مطلق، خشية أن تصبح الثورة الفلسطينية وسيلة للتغيير والقضاءعلى الظلم في المنطقة كلها.

تلكسنوات شهدت أن الثورة الفلسطينية على أرض لبنان الجميل والشقيق باتت تشكل تجمعاً نضالياًوقومياً وأممياً لكل المثقفين والأدباء والشعراء والمناضلين والأحرار في الوطن العربيوالعالم. وكانت لبنان ملاذهم الآمن والمثير لطاقاتهم وإبداعاتهم وأفكارهم المكبوتةفي أوطانهم، وهكذا يجب أن ينظر للمسألة وليس العكس، بأن هؤلاء هم صعاليك العصر الحديث،الذين خرجوا عن نظمهم العشائرية وتمردوا عليها، وراحوا بعيداً ليتجمعوا من جديد ينادونللثورة في بلدانهم وقبائلهم!!.

كانتسنوات الخروج من لبنان إلى أفريقيا قد تركت فراغاً أمام نظريات التحدي والمواجهة والتحرير،ووضعت أهل البندقية أمام طريق التسويات السياسية، والقبول بالأمر الواقع، وهيمنة أمريكاعلى العالم والمنطقة.

لكنالرد كان في تلك المرحلة، مختلفاً تماماً، ونوعياً بالأداء، وعفوياً بالشكل، لكن أسبابهكبيرة جداً، وامتداداً لذات الفكرة. حيث كان الرد من الأرض المحتلة، من فلسطين عندمااندلعت الانتفاضة المباركة نهاية عام 1987، تلك الانتفاضة البيضاء التي نالت إعجابكل العالم، والتي وضعت إسرائيل وحكوماتها على طول السنين أمام حقيقة الإصرار الفلسطينيالواعي والملتزم. فبالحجارة والمظاهرات، والإضرابات العامة، والإرادة الجماعية، والأداءالإنساني الاجتماعي المميز، أكد الفلسطيني أن الشعوب إن أرادت الحياة فإنها تصنع الأحلامحقائق.

 

الحلقة الثانية عشر

الداخلالفلسطيني قطع الشك باليقين وأسقط خيارات البديل لمنظمة التحرير، وأكد رجاله ومناضليهوكوادره أن الثورة على أرض فلسطين وليست في منافي العالم.

 اندلعتالانتفاضة المباركة، وقالت للقاصي والداني أن شعب فلسطين ماض في طريق الحرية والاستقلال،فلا سلطات الاحتلال ولا قمعها ولا سجونها أو رصاصها المطاطي والمتفجر يخيف طفلاً ولدتهأمه حراً. وأن شعب فلسطين حيّ، وواع لقضيته، وصراعه المركزي مع الاحتلال الإسرائيلي.

وسبقالشعب قياداته، وفرض مصطلحه العالمي "انتفاضة"، وخرج إلى السطح أسلوب جديدلمواجهة الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس وقمع الفاشية الجديدة.

لماذاانتفاضة؟ بعد كل هذه السنين توجد أسباب كثيرة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي،لكن الحقيقة يجب أن تقال بأن شكلت الانتفاضة رافعة هامة لنضال شعبنا ومنظمة التحريرالفلسطينية بعد حصارها في أفريقيا وإجلاء الساحة العربية وخاصة في دول الطوق من بندقيةالفدائي، وراجمات صواريخ الحرب العالمية الثانية، وبقيت بيروت مهدمة ومقسمة بين غربيةوشرقية لسنين طولية، بالرغم من  أن البعض كانيغني لعودته لها أكثر بكثير من عودته إلى القدس!.

بيروتحلت لدى وعي البعض وطناً آخر، لأنه اعتقد ببقائه في المخيمات إلى الأبد، وأن الثورةثورة لاجئين.

فكانلا بد من امتطاء صهوة الحصان الذي انطلق في الأرض المحتلة، وخوض السباق السياسي به.

فتححركة اعتمدت المنهج التجريبي بالنظرية والتطبيق. الإجتهادات فيها تأتي من ذلك المنهج.

وكالعادة،على الساحة الفلسطينية هناك من يريد ومن لا يريد، من يريد أن يمتطي صهوة حصان النضال،ومن لا يريدها، إلا أن استمرار الانتفاضة جعل الكل الفلسطيني يصعد سلم القطار الشعبيالماضي إلى الأمام. هذا الثقل بالحراك وإعجاب العالم به هيأ الفرصة أمام القرارات السياسيةوالتوجهات لتنطلق من جديد، وأن ترد على المبادرات القديمة ومحاولات الإبتزاز التي جرتبإعلان وثيقة الاستقلال من المؤتمر الوطني الذي انعقد عام 1988 في الجزائر.

وبعدأن حاول الاحتلال وحكومة إسرائيل قمع شعب بأكمله في الأرض المحتلة، مستخدمة سياسة تكسيرالعظام للآلاف الشباب والمناضلين. وزج عشرات الآف المواطنين في معسكرات الاعتقالات،وتحولت إسرائيل إلى دولة سجون ومعتقلات، ولكن الحقيقة بانت للأمم؛ أن شعب فلسطين أرادالحياة والحرية ولن يتوقف قطار الثورة والانتفاضة مهما علت التضحيات.

سقطالقرار الأممي 242، سقوطاً مدوياً، وعلا صوت الانتفاضة، وأعلنت وثيقة الاستقلال الفلسطيني،رؤيا حضارية ومفهوما واضحا لأي تسوية سياسية لصراع المئة عام.

فتحأدركت دوماً، أن الاحتلال ومحور دعمه لن تترك صعود القضية مستمراً، ونظرية الإحتواءالأمبريالية الصهيونية ابتكرت أصلاً للتعامل مع حالة كحالة النضال الفلسطيني. لكن الذكاءالسياسي في الكفاح يكمن في أن تكون السباق بإطلاق المبادرات؛ لأن الجميع يعرف مسبقاًأن القادم والمتوقع في السياسة يستهدف القضية. من هنا تصبح  بعض المواقف إجبارية إما لحماية الوجود، وإما لتحقيقهدف بعيد متوسط المدى، فالقبول بقرار التسوية 242 ما كان إلا سباقاً مع الزمن لاستباقالعاصفة أو ربما للانحناء أمامها، وإلاّ ستتعرض القضية لقطع رأسها إذا ما وقفت متحجرةأمام تلك العاصفة.

وأمامذلك تتراجع القضية خطوة إلى الوراء، لتكسب خطوة إلى الأمام أو خطوتين. وهذا هو الحراكالسياسي على ساحة الوطن العربي، والدولي.

منظمةالتحرير الفلسطينية كانت وما زالت تدرك تماماً أنها على موعد مع الحراك السياسي العربي،والدولي بشأن التسوية إذا ما طرحت عليها، وبالتالي كانت مستعدة تماماً للتحرك قدماًنحو التفاعلات السياسية والمصيرية بشأن الصراع، وإلا فلماذا انتزعت صفة الممثل الوحيدلشعبنا؟ لكنها قالت في مرات سابقة إذا دعينا إلى مؤتمر جنيف (مؤتمر دولي، سابق) سنفكرحينها بالأمر.

وهكذاجاءت التطورات لتقبل بتمثيل "مجتزء" بانضمام وفدها (شخصيات سياسية) مع الوفدالأردني حين انعقد مؤتمر مدريد، وحضرته جميع الأطراف بما فيها إسرائيل وسوريا ولبنان.

وجاءالمؤتمر في ضوء اندلاع الانتفاضة الأولى، وإعلان المجلس الوطني الفلسطيني وثيقة الاستقلال،وقبل أن تعترف حكومة إسرائيل بمنظمة التحرير، ممثلاً للشعب الفلسطيني.

منهناك، ومن تلك الظروف كان مفترق الطرق التي تواجهه المنظمة، وبالتالي كان لا بد منالتعامل مع الظروف والتغيرات الجارية دولياً. وعلى الرغم من أن تجاهل أمريكا وحلفائهالمنظمة التحرير كان مضيعة للوقت طالما أنها- أي أمريكا- ستتعامل لاحقاً وبشكل مباشرمعها، سواء كان هذا في مؤتمر مدريد، الذي دعا إلى مبدأ الأرض مقابل السلام... (المفهومالذي كان موجهاً أصلاً إلى الفلسطينيين والإسرائيليين لبدء تجربة جديدة قد تنهي صراعاًاستمر طويلاً) أو في محطات لاحقة.

 

ليسجديداً على حركات التحرر الوطني في العالم أن تدخل في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرةمع العدو كما قلنا سابقاً، فالصراع ينتهي إما بالسيف أو اللسان أو كلاهما معاً.

وآخرثورة حققت النصر، كانت الثورة الفيتنامية عام 1975 من القرن الماضي، وهي أعظم ثورةمسلحة دحرت الأمبريالية الأمريكية في العصر الحديث وسببت هزيمة لأمريكا، لكنها تفاوضتفي فرنسا وأماكن أخرى، وكانت نبراساً لكفاح الشعوب، ومدرسة نضالية ذات خصائص واضحةوهامة.

وإناختلفنا بالثورة من حيث الخصائص وطبيعة العدو وموازين القوى. إلا أن الثورة الفلسطينيةاهتدت كثيراً بنضال الثورة الجزائرية والفيتنامية وغيرها من حركات التحرر.

لكنمبدأ التفاوض يرتكز على موقع القوة على الأرض أو على موقع في ميزان القوى العالمي والإقليمي،وأيضا يرتبط بخصوصية التجربة وطبيعتها. وهذه أسس مهمة في تناول الأمور ووضعها في نصابهاومجراها الطبيعي أو الموضوعي.

لكلصراع نهاية

 بعدكفاح طويل استمر لعشرات السنين، لا بد أن يحقق الهدف الذي انطلق من أجله المناضلون.وإلا لا معنى لذلك الصبر وتلك المراحل النضالية، وفي حالة  مثل حالتنا لم نحقق الهدف الذي انطلق كفاحنا منأجله، ولكننا ذهبنا قدماً  في نضالنا الوطني،وحققنا الكثير من الأهداف القريبة والمتوسطة إذا صح القول، وكانت كلها تعزز قوتنا فيالطريق للوصول إلى الهدف  الأساسي.

وصحيحأننا اليوم على ساحة العمل مختلفين ومنقسمين وأكثر من هذا فقد تجاوز البعض الخطوط الحمراء،وتقاليد النضال الوطني ومفاهيم الوحدة والتضحية، وخرج عن السرب ليغرد لوحده ويسيء لتضحياتشعبنا بسلوكه؛ إلا أن نضالنا الوطني الذي أوصل شعبنا إلى الحالة الدولية المرموقة والتأييدلحقوقه كانت ثمار كفاح طويل ما زلنا على دربه رغم حالة الانحطاط والهرطقة، التي حاولالبعض من هنا وهناك أن يضعنا بها.

إنخصائص هذا النضال وطبيعة هذا الصراع، تؤكد دوماً أن المتغير حاصل وأن الثابت مستقر،وكل المحاولات التي جاءت لتحرفه عن مساره سقطت سقوطاً مدوياً، وأن تجاهل حق شعبنا بتقريرالمصير فشلت كما فشلت محاولات ضرب هذا النضال العظيم.

 

الحلقة الثالثة عشر

رؤيةفتح لإنهاء الصراع العربي/ الإسرائيلي جاءت في نهاية الستينات من القرن الماضي، عندماطرحت إقامة دولة واحدة في فلسطين ديمقراطية علمانية، يعيش فيها الجميع بمساواة وعدلوحرية وفق أسس حددتها فتح ترتبط بمن تواجد على الأرض الفلسطينية قبل عام 48. ولم يكنهذا الطرح دعائياً أو تكتيكياً؛ إنما جاء برؤية فلسطينية عميقة، لو استجاب له الجميع،لاختصر الطريق، وحقن الدماء، ومنع الحروب في المنطقة.

لكنهمتجاهلوا ذلك؛ لأن مصالح الصهيونية والأمبريالية الأمريكية بعيدة جداً عن أي مخرج لهذاالصراع، فالأولوية لدور ووظيفة إسرائيل في المنطقة، بل هناك أسباب كبيرة ومصالح للدولالمسيطرة والمتنفذة تقف وراء اسرائيل بكامل قوتها ودعمها وتريد لهذا الصراع أن يستمر.

الاستعمارالعالمي، والمهيمن على العالم يعتقد دوماً أنه قادر على اتباع نظرية الإحتواء، وبالتاليأي متغير في هذا الصراع، أو حوله يمكن إحتوائه - كالعامل النضالي- الفلسطيني، وإخضاعهإلى الشروط الذي يراها ممكنة. والإبقاء على كيان اسرائيل قوياً، متفوقاً في المنطقةوالعالم. فالدور الذي أنيط بإسرائيل من أمريكا وحلفائها، غير قابل للتغيير أو التبديل،بل مازال يحظى على الأولوية، ولذا مازالت الدعوات والممارسات للإدارات الأمريكية يعتمدعلى ذلك، وتؤكده دائماً وفي كل المناسبات.

وبالتاليمشروع الدولة الواحدة في فلسطين قتل في مهده ولم يعد قابلا للتطبيق. وقد أجبر العالمم.ت.ف البحث عن الممكن، وبالتالي جاءت فتح بمشروع حل الدولتين لهذا الصراع الذي أخذمنحاً آخر بعد بروز العامل الفلسطيني على الخارطة السياسية وما حظي به من تأييد عالميوتطابق الحل الفلسطيني إلى حد ما مع كثير من النظريات والمصالح السياسية، وخاصة معالقانون الدولي.

معأن الذي يجري اليوم، إسقاط مفهوم وواقعية حل الدولتين، والإبقاء على الحالة التي أصابتهذا الصراع والدول المتنفذة، لزرع اليأس من جديد، والقضاء على حقوق الشعب الفلسطينيالثابتة، ودفع المنطقة وشعوبها للعيش في فوضى لا نهاية لها، وتدمير الدولة القوميةوتقسيمها وشرذمة مجتمعات الأمة، وتحويلها إلى كانتونات دينية ومذهبية، وقبائلية، ليستمرالاستعمار العالمي بنهب خيراتها والسيطرة عليها.

إنحل الدولتين، نظرية سياسية قابلة للتطبيق تكاد تغير وجه المنطقة والعالم، وتفرض علىإسرائيل وربيبتها أمريكا الإتجاه إلى دور آخر، بل وإيقاف الدور السابق لدولة إسرائيلالعبرية، ومنع تحقيق طموحاتها الصهيونية في المنطقة، وهو الأمر الذي كشفته نظرية حلالدولتين، طالما وجد هذا التوجه المزيد من الدعم والتأييد والمساندة وقرارات الشرعيةالدولية.

ترفضإسرائيل هذا الحل منذ أن ولدت على ساحة الصراع والعالم، لإدراكها حقيقة الأمر حيث ستجبرعلى إعادة النظر في الفلسفة التي جاءت عليها، واستمرت من خلالها، نظرية تحقيق السلاموالأمن والاستقرار المتطابق مع المفهوم الدولي.

وأنتكون هذه الدولة بين محيط الدول العربية والإسلامية، بالتالي ماذا سيصبح دورها؟

السلامالذي يضمن للفلسطينيين دولة مستقلة على الأرض المحتلة عام 1967.

مفهومحل الدولتين بات مصلحة دولية، وتجاوز المصلحة الفلسطينية والعربية، ولاقى قبولاً يساعدفي الوصول إليه على أرض الواقع، وما يجري لمنع الفرصة أمامه كحل واقعي بتنفيذ المخططاتالإسرائيلية وتسارعها ورفض الدعوات الدولية، لوقف الاستيطان وتهويد القدس وتكريس الأمرالواقع بكل السبل، إنما يجري لتفجير هذا المشروع من واقعه ومحتواه.

المشهداليوم تغير تماماً عما كان قبل عشرين عاماً. وبالتالي فاليد التي حملت البندقية بيد،وأغصان الزيتون باليد الأخرى تحاصرها العملية الإسرائيلية الاحتلالية بل وتمنعها منأن تصبح حقيقة بعد أكثر من ستين عاماً.

لقدشهد النضال الفلسطيني ومنذ عشرات السنين مآزق عديدة، وهو اليوم يواجه مأزقاً أخيراًخطيراً لم تستطع المسؤولية الدولية أن تضع حداً له.

إنالتمسك برؤية فتح التاريخية لحل الصراع هو أحد عناصر الحل الواقعي لصراع المئة عام،وعلى الشباب الفلسطيني أن يدرك وبأمانة وشرف، أن الصراع صراع وطني وليس غيره. وهو الصراعالذي جوهره الأرض، وبالتالي فإن الإبتعاد عن هذا المفهوم سيحقق مصالح الأعداء وفي مقدمتهإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية التي تدفع بجعله صراعاً من نوع آخر.

والتمسكبالأرض والبحث عن سبل تحريرها والتواصل في مسيرة الآباء، سيحقق النهاية لهذا الصراعالذي بدأ بالغزوة الصهيونية والهجرات اليهودية للإستيلاء على الأرض، أرض فلسطين. بدعوىوفتاوٍ يهودية استعمارية لتحقيق دور استعماري متفوق طالما الاستعمار ارتدى رداءً آخرلكنه يحمل نفس المضمون والهدف.

منهنا لا بد أن نعود إلى تلك الحقيقة التي فرضت نفسها علينا، ألا وهي الذهاب إلى طريقالمفاوضات للبحث عن حل ممكن طبقاً للرؤية الفلسطينية وسط صراعات ومعادلات دولية لايمكن حصرها.

المفاوضاتفي تاريخ حركات التحرر الوطني، تمت بين الأعداء، أي بين أطراف الصراع الدامي والمسلح،ولكل تجربة في هذا المضمار خصوصية، وظروف ومعطيات، وهذه مفردات للنظر بموضوعية لمايجري في صراع دام طويلاً، وليس لتبرير الأخطاء، أو غض الطرف عن اجتهادات مميتة ونتائجهاالوخيمة، وكذلك ليس تبريراً لمن أرادوا أن يبقى الشعب الفلسطيني في المخيمات وتحت الاحتلالإلى الأبد، كما قالوا: يجب أن نبقى نقاتل ونقاتل إلى ما لا نهاية!! رافضين أن يرواالحقائق.

وكماقالت فتح، الثورة طريق تصنعها الحقائق وها نحن اليوم في ظل العديد من الحقائق...وماكان بالأمس طريقا طويلا قدم شعبنا فيه التضحيات والشهداء ونموذجاً يحتذى به بالصمودوالتصدي والصبر طالما كان هذا صراعا طويل الأمد.

مؤتمرمدريد للسلام، الذي حضرته كل قوى العالم وإسرائيل ومنظمة التحرير بكوفية على الظهر،وضمن وفد مشترك مع الأردن.

راهنالجمع على رفض الحضورمن م.ت.ف بهذا الشكل والتمثيل وبالتالي يخرج العامل الفلسطيني،ويقع بالفخ الذي أعدته أمريكا، لكن كان لا بد من التعامل مع المستجد بواقعية وحنكةلأن الفكر السياسي الفلسطيني طالما اتبع المرونة أسلوباً في تجاوز العقبات والمعيقاتفهو فكر يؤمن بالحداثة السياسية، وإحداث الاختراق طالما هناك من يضع السدود والموانع.

دونأدنى شك، عانى النضال الفلسطيني طويلاً من الوضع العربي، والصراعات الإقليمية والمحوريةفيه، وانعكس هذا أو ذاك على ساحتنا وحتى على قرارانا السياسي، الذي لم يكن ينتهي منإشكالية حتى يدخل الأخرى، فالعمق العربي لم يكن مثالياً أصلاً، بل كان من العوامل المدمرةللنضال الوطني وهناك الكثير من الشواهد على ذلك.

كثيرةهي الأحداث والمواقف التي برهنت ما عجزت إسرائيل وأمريكا إملائه على الساحة الفلسطينيةوكان هناك بين الأشقاء العرب من يقوم بالدور ويحقق لهما ما عجزتا عنه...

ماذكرناه في بداية الحلقات، أن الثورة الفلسطينية سعوا أعدائها إلى ضرب وجودها النضالي،ثم تشتيت قواها وحصارها، وبعد ذلك احتوائها سياسياً ووجودياً.

وهذاما حصل إذا ما أعيد قراءة تاريخ النضال الوطني، وكيف سعوا إلى إخضاعها للتسوية السياسيةتحت أي عنوان بدأ بقرار 242، أة المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط وأخيراً ماجاء بعد ذلك من اتفاقات.

والسؤالهنا ماذا لو فشل مؤتمر مدريد الذي دعى إلى تسوية سياسية تقوم على مبدأ الأرض مقابلالسلام؟

للأسفيمكن القول بأنه لا يوجد في قاموس السياسة والعمل الفلسطينيين كلمة "فشل؛ بل هناكمنهج سياسي ساد المنطقة والعالم وحل مكان منهج آخر، ألا وهو البرغماتية، بدل الثورية(الوطنية). أي الذرائعية التي تقوم على أساس المنفعة المتبادلة. وهذا المنهج أسس لثقافةسياسية واسعة في الحياة المعاشة والعمل المقام على أرض الواقع، ورعى هذا النهج جيلأو جيلين كاملين، وبات سلوكاً تاماً في الممارسة والتطبيق.

لايمكن أن تتحول الثورة إلى نظام سياسي شبيه بالنظام العربي وتبقى الثورية ثوبك أو فيعقلك!. وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من حركة فتح كان يفضل العمل الثوري على العملالدبلوماسي ومنهج البرغماتية، طالما أن شعبنا مازال في مخيمات اللجوء، فقيراً ويأساًوتحت الاحتلال محاصراً ومقموعاً. والقدس أسيرة والأمة العربية (عمقنا الإستراتيجي)في سبات عميق.

 

الحلقة الرابعة عشر

المؤتمرالدولي للسلام في مدريد دعى إلى تسوية سياسية تقوم على أساس الأرض مقابل السلام، وقرار242 للصراع العربي الإسرائيلي، بحضور جميع الأطراف والحقيقة أن مرحلة طولية بدأت تحملشكلا ومضمونا مختلفا عن كل المراحل السابقة، وأن تحولات سياسية واقتصادية واجتماعيةوإقليمية تنتظرنا وتنتظر المنطقة ومصيرنا ومصير المنطقة العربية.

الصراعدخل عصرا جديدا سيحتاج التعامل معه إلى أدوات ومنهجية تناسب ما سيأتي من تفاعلاته وتداعياته،وسيلد من رحم هذا المتغير متغيرات وأشكال وأجسام ستكون مشوهة سياسيا وثقافيا وربماأكثر من ذلك!! وربما تبين للجميع ذلك بعد سنوات؟!

لمتمضي سنوات قليلة على هذا التحول الدولي، وما إن وضعت التفاعلات السياسية أوزارها؛حتى هبت عاصفة العواصف، علينا وعلى المنطقة والعالم، وضرب اعصار " أوسلو"المنطقة وتكسرت المفاهيم والمنطلقات وتشققق بل وانهار الفكر السياسي انهيارا لم يكنأحدا يتوقعه. والسبب بسيط للغاية، أن ثقافة الناس لم تكن يوما تقوم على هذا النوع منالثقافة أو القراءة السياسية، فتبعثرت كل الحقائق وحل إحباط نفسي ووجودي لاشبيه لهفي الماضي رغم الأعاصير التي صمدنا امامها.

فلسطيناسم حقيقي لبلاد حقيقية عبرها الغزاة عبر التاريخ وخرجوا منها ولا يمكن للأمر الواقعان ينهي هذه الحقيقة أو يستبدلها بواقع اخر، وليس من حق أي كان التصرف بها، ولا يمكنالتسليم بما فرضته قوى الظلم والإستعمار عليها. فهناك قضية تشكلت سبب وجودها وخلقتهاعوامل وظروف القوة ولا يمكن للقوة أن تنهي الحق لأنها حقيقة العدل. وبالتالي لا يعنيأن كل من امتلك القوة في هذا العالم أن ينفي حق الاخر بالوجود والحياة والحضارة والتاريخ.

قدتنتهي القوة يوما لكن الحق لا يتلاشى ولا يفنى، وعلى حكام إسرائيل أن يدركوا جيدا بأنهمغزاة، وأن ما أقاموه من بنية فوقية وتحتية لن ينهي بنية الآخر صاحب الحق بهذه البلاد.وشعب فلسطين لم يأتي إلى هذه البلاد ويرحل عنها لمجرد ادعاءات باطلة نسجها مفكري الاستعمارالغازي ليبرر غزوته وارتكاب جرائمه بحق الاخر الآمن المستقر.

لقدحملت الصهيونية ومن وقف خلفها بذور الفناء في ذاتها لأنها فكرة باطلة وعنصرية وفوقيةوتدعي أنها فوق البشرية، وهذا اللون من الرؤى السياسية سقط في التاريخ الإنساني لعدمأخلاقيته، ولتجنيه على الحضارة التي هي من فعل إنساني خلاق .

ماذايعني أن يقدم المحتل الغازي الفاشي، حلا لا أخلاقيا ولا إنسانيا لشعب اضطهده وقمعهواحتله وفرض عليه أحكاما جائرة سعى من خلالها إلى تهجيره بالقوة والإرهاب من بيته وأرضهومصنعه ومزرعته ليحل مكانه ويسلب منه الحياة والحرية والسلام التي وهبها الله لكل البشريةدون تفرقة أو تمييز.

 ماقدمته إسرائيل للشعب الفلسطيني من حكم ذاتي مستغلة ظروفه ومعاناته وضعف امكاناته وقوتهالمحدودة وعدم توفر الدعم له، وادعاء إسرائيل أنها تعطيه حق حكم ذاته بنفسه دون أنيكون له سيادة على الأرض وأي حق بامتلاك بيته - فالاحتلال وحكمه العسكري يمكنه أن يجرد كل مواطن من بيته وحياته طالما هو صاحبالسلطات ومصدرها وحدث ولا حرج- وكله غير منطق أو مقبول، خصوصا

أنشيئا لم يتغير منذ مدريد وحتى اليوم على الواقع الفلسطيني المعاش!! وبقي الرمح علىحاله.

حركةفتح شخصت الواقع مرات عديدة وفسرت السياسات الإسرائيلية ووضعت لشعبها رؤية واقعية وكيفيةسياسية ممكنة، ودفعت بكل قواها الذاتية أن تجعل الأحلام حقائق وسط محيط عربي لا رهانعليه، بل بالاعتماد على النفس ومناداة الشرفاء الأحرار في هذه الأمة والتطلع المستمرإلى الأمل، والمستقبل، واستغلال الفرص وتوظيفها لصالح القضية والوطن والشعب.

لكنومن " أجل الحقيقة" فقد جاءت الرياح لما تشتهي السفن!، ودخل النضال الوطنيمرحلة أخرى من إثبات الوجود في تحدٍ كبير وخطر ربما كان مصيريا، وظهر من انشغل وأشغلالناس معه في بحر الاجتهادات والانتقادات، ومنهم من أخذ يبرر ويختلق الأعذار وهو يدركتماما أن ما جاء به " اتفاق أوسلو" لا يتسع لقدم طفل! وأنه يتعارض مع ثقافتناونضالنا وتضحياتنا ولا يلبي أيا من طموحاتنا وحقوقنا.

اتفاقأوسلو الذي أسميناه بالإعصار السياسي والمنعطف الحاد في طرق النضال الوطني؛ دفعت حركةفتح وشعبنا الثمن الباهظ  للمضي في طريقه، وربماما ساعد على تبريد حرارة الموقف الناجم عنه بعض الخطوات التي حملها هذا الاتفاق وسطردود فعل لا حدود لها بين " مبرر" و"ذرائعي" ورافض وتكفيري وغيرهفي الوطن العربي كله والعالم ايضا. وقد حاول بعض المجتهدين أن يرسموه مخرجا لمأزقهم،وحلا لهم؛ فلطالما اعتقدوا طويلا أنهم أصحاب الحق باحتكار السياسة الفلسطينية ونضالشعبنا، وأنهم أوصياء على قراره ومستقبله، هؤلاء ينظرون لأنفسهم بأنهم هم البداية وهمالنهاية.

ووقعالمثقفون وبعض الثوريين في الفخ الذي نصبه أعداء الشعب والأمة، ومر القرار في مؤسساتمنظمة التحرير الفلسطينية، وجاء بذلك واقع جديد، لايمكن التبرير له، ولا يمكن تأييدهأيضا، لماذا؟

هلالحالة العدمية تلك جاءت رغما عن إرادة النضال الوطني ؟! أم كانت ممرا إجباريا لابدمن عبوره لتحقيق الممكن؟ أم أن الحاجة أم الاختراع حين وصل الحال إلى ضرورة الحفاظعلى الوجود وضمان الديمومة؟ كثيرة هي الأسئلة التي عبر عنها الواقع واتجاهاته السياسيةوالفكرية، لكن في المجمل يبرز أهم الأسئلة، أين نحن اليوم؟ وهل حسابات البيدر تطابقتمع حسابات السهل ؟

فتحالحركة التي ضمت في ثناياها أجيالا عديدة، وقيل أنها حركة " السهل  الممتنع" و"يا جبل مايهزك ريح"،والخيار الواقعي والمتطابق مع طموحات شعبنا وتطلعاته، ستجيب على كل سؤال يقف أمام كلفلسطيني أينما وجد.

 

ر