مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، التي بدأت رحاها في السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023، تصاعدت التوقعات والتكهنات حول مستقبل قطاع غزة وسيناريوهات "اليوم التالي" للحرب. غير أن المشهد الإسرائيلي، بمختلف أبعاده الأمنية والسياسية والاجتماعية، يبدو أنه سيشهد تحولات عميقة بدوره، حيث أن هذه المواجهة لا تمثل فقط جولة صراع عسكرية، بل نقطة فاصلة قد تترك بصمة طويلة الأمد على وعي المجتمع الإسرائيلي وخيارات قادته. ما يطرح تساؤلات حول مدى استقرار إسرائيل وقدرتها على إدارة تداعيات الحرب وتحقيق توازن بين متطلبات الأمن والسيطرة على التوترات الداخلية. فما هي الخيارات الاستراتيجية أمام إسرائيل في مرحلة ما بعد الحرب؟ وكيف قد تؤثر نتائج هذه المواجهة على شكل النظام السياسي، وعلى وعي المجتمع الإسرائيلي، بل وحتى على علاقات إسرائيل الإقليمية والدولية؟.
يشهد كيان الاحتلال الإسرائيلي تحولات عميقة على مستويات متعددة، تعكس صراعاً متشعباً لا يقتصر على المستوى العسكري، بل يتجاوزه ليصل إلى الوعي الجمعي والسياسي داخل المجتمع الإسرائيلي وعلى الساحة الدولية. فقد كانت إسرائيل تتمتّع لسنوات عديدة بثقة مفرطة، عززتها عوامل عدة، من بينها الدعم الغربي القوي، لا سيما الدعم الأميركي، واندفاع بعض الدول العربية نحو التطبيع معها في عام 2020، فضلاً عن الاعتقاد بتفوقها العسكري الذي لا يُنازع. لكنّ حرب غزة كشفت عن هشاشة هذه العوامل، وأدت إلى زعزعةٍ عميقةٍ للثقة، سواء على المستوى الشعبي أو المؤسسي، في قدرة إسرائيل على المحافظة على هيمنتها الإقليمية.
كانت التوقعات في بداية الحرب على غزة، تشير إلى إمكانية تحقيق نصر سريع وحاسم، ولكن مع اشتداد القتال وارتفاع الخسائر، بدأت هذه الآمال تتلاشى تدريجياً. فبدلاً من تحقيق النصر السريع، وجدت إسرائيل نفسها أمام مقاومة شرسة وتحديات غير متوقعة مع استراتيجيات جديدة من خصومها، سواء في ساحة المعركة أو على الساحة الدبلوماسية الدولية. وقد أثّر هذا الإخفاق في تحقيق الحسم السريع بعمق على الرأي العام الإسرائيلي، الذي لطالما وضع ثقته في قدرة الجيش على ضمان الأمن الوطني وتحقيق مصالح الدولة. ومع دخول الحرب عامها الثاني، بدأت تزداد الشكوك داخل المجتمع الإسرائيلي حول كفاءة الجيش وفعالية القيادة السياسية والعسكرية.
ولم يكن الفشل العسكري وحده سبباً في تراجع ثقة المجتمع الإسرائيلي بقيادته؛ فالتوترات الداخلية والانقسامات السياسية العميقة تفاقمت بمرور الوقت. وبالرغم من حقيقة أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتغذّى على ضعف المعارضة الإسرائيلية ودعم اليمين المتطرف، مستفيداً من موقف الإدارة الأميركية التي تفضل تجنب الانتقاد خلال الانتخابات، لمواصلة سياساته دون أي ضغط حقيقي. إلا أن رهانه على أن الإرث الذي سيخلّفه جغرافياً وديمغرافياً سيشفع له ما بعد الحرب إسرائيلياً وأميركياً، أصبح هشاً اليوم أمام التحديات الأمنية والاجتماعية المتصاعدة.
أثّرت الصدمة التي خلفتها الحرب بشكل خاص على الطبقة الوسطى في إسرائيل، والتي تعد العمود الفقري للمجتمع المدني الإسرائيلي. حيث أن هذه الطبقة كانت تعتمد بشكل كبير على الاعتقاد بتفوق الجيش الإسرائيلي وفعالية النظام السياسي في حماية مصالحها، ولكن بعد الأحداث الأخيرة، تراجعت الثقة بشكل كبير، وظهرت تساؤلات حول مستقبل الدولة واستقرارها.
ما يجري في إسرائيل لا يقتصر على الداخل فقط، بل يمتد إلى المستوى الإقليمي والدولي. حيث كان يُنظر إلى إسرائيل لفترة طويلة على أنها القوة العسكرية المهيمنة في الشرق الأوسط، بفضل دعمها الغربي وتفوقها التكنولوجي. غير أن التحديات التي واجهتها في الحرب الأخيرة أثارت تساؤلات حول مدى قدرتها على الحفاظ على هذا التفوق في مواجهة خصوم متزايدين قوةً واستعداداً.
وعلى الصعيد الدولي، بدأت بعض الدول الغربية، التي كانت تدعم إسرائيل دعماً شبه مطلق، في إعادة النظر في مواقفها. فحرب الإبادة الجماعية المستمرة، وحملات التجويع والتدمير، إضافة إلى الإصرار على تعطيل أي فرص لتحقيق حلول سلمية، دفعت العديد من الدول إلى التفكير في تعديل سياساتها تجاه إسرائيل. ورغم استمرار الدعم العسكري والاقتصادي القوي من الغرب، إلا أن الشكوك تتزايد حول فعالية هذا الدعم في تحقيق استقرار دائم وحقيقي.
إن الصراع الذي تواجهه إسرائيل اليوم ليس مجرد صراع عسكري أو سياسي، بل هو صراع على الوعي. فالوعي الجمعي الذي كان يؤمن بقوة إسرائيل وقدرتها على الهيمنة بدأ يتغير، وهو ما قد يؤدي إلى تحولات جوهرية في طريقة تعامل إسرائيل مع الصراعات المستقبلية ومع جيرانها في المنطقة.
تحاول القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، الترويج لفكرة أن إسرائيل تواجه "خطراً وجودياً"، محذرةً من أن بعض القوى تسعى إلى "اجتثاث الحركة الصهيونية" عالمياً. ورغم أن هذا الخطاب يهدف إلى توحيد المجتمع الإسرائيلي خلف الحكومة في مواجهة التحديات الخارجية، إلا أنه قد لا يكون كافياً لمواجهة التغيرات الكبيرة في الوعي الداخلي والخارجي.
تمثل معركة الوعي التي انطلقت بعد السابع من أكتوبر نقطة تحول في تاريخ إسرائيل؛ إذ تراجعت الثقة المطلقة التي لطالما أحاطت بها، وبرزت تساؤلات حول قدرتها على الحفاظ على تفوقها العسكري والسياسي. وقد يفتح هذا الواقع الجديد الباب أمام تحولات عميقة لا تقتصر على الداخل الإسرائيلي، بل تمتد إلى علاقات إسرائيل الإقليمية والدولية. ويبقى السؤال: هل ستتمكن إسرائيل من التكيف مع هذه التغيرات، أم أن الصدمة الاستراتيجية ستدفعها نحو قرارات مصيرية قد تعيد تشكيل مسار الصراع؟.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها