ما زلت أذكر شكل ومضمون ملصقات "بوسترات" جدارية، الصقت على جدران مقابل مدرسة المنصورة في مخيم اليرموك بدمشق في سوريا، عندما كنت تلميذًا في السنة الثانية من المرحلة الإبتدائية، وجميعها بمثابة رسائل توجيهية للكبار والصغار على حد سواء، بمواضيع متعددة أهمها الحذر من الطابور الخامس، والشائعات، وكيفية منع العدو من الوصول للمعلومات الخاصة بسلامة وأمن الوطن، وكنا نسمع في نشرات الأخبار عن اعتقال جاسوس، أو خلية متعاملة مع إسرائيل، حيث حدث اعتقال عميل أو جاسوس آنذاك "منتصف الستينيات" بمثابة ضربة كبيرة لأجهزة أمن واستخبارات منظومة الاحتلال "إسرائيل"، لأن الأمر كان يتطلب جهودًا وإمكانيات وقدرات خارقة لإسقاط شخص ما أو مجموعة تعمل في الميدان المرسوم لها، فمنهم من كلف بمهمة نشر إشاعات تنعكس سلبًا على أمن البلد، وبالتوازي إشاعات خارقة حارقة للنسيج الاجتماعي والوطني، ثم تطور وعينا وإدراكنا لعمليات الاختراق الأمني، وكيفية إسقاط الأفراد في براثن اجهزة استخبارات ومخابرات وأمن العدو وكيفية الحذر والنجاة، باعتبار أن الإشاعة، والسقوط الأمني أهم أسلحة إسرائيل السرية الموجهة نحو عصب حياة وسلوكيات وأنماط تفكير الشعب الفلسطيني، وحركة تحرره الوطنية، ونحو أمتنا العربية ودولها وشعوبها، أما غاية أجهزة أمن منظومة الاحتلال، كانت وما زالت، ضرب قدرة المرء على التفكير، وإحداث شروخ عميقة أفقية وعمودية في هرم البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الثقافي الوطني، وإشغال الجماهير بصراعات عمل عملاء الاحتلال على إشعال حرائقها، بجهد ليس أكثر من جهد إشعال قشة يضمن الفاعل امتداد لهبها المتواضع ليحرق الغابة كافة. وهذا تمامًا ما يحدث بين ظهرانينا في هذه الأيام، ولنا أن نتخيل الصورة إذا علمنا أن منظومة الاحتلال لم تعد بحاجة إلى جواسيس وعملاء النخبة، بل يكفيها ضغائن وكراهية، وعدائية، وتعاليم وتعاميم تكفير وتخوين، أصلتها جماعات وفئات سياسية استخدمت مصطلحات دينية وشعارات وطنية، فتنمو الإشاعة المصممة بمكاتب الشاباك مثلاً "كالفايروس القاتل"، وتنتشر بالهواء أسرع من "الكوفيد 19" بحكم البيئة التي أوجدها المعنيون بتخريب الكينونة الوطنية الفلسطينية، ظنًا أن العاقبة ستكون لهم، بعد انهيار هرم بناء المشروع الوطني، فهؤلاء ومنظومة الاحتلال اسرائيل معنيون بارتداد أشكال الصراع نحو الجبهة الداخلية الفلسطينية، وأدواتهم لتحقيق ذلك: مضللون، وهم الأوسع انتشارًا، وآخرون أسقطوا أو سقطوا في فخ أجهزة أمن الاحتلال، فباتوا ذراعه، تنفذ أوامر المركز بعد نزع عواطفهم ومشاعرهم وفكرة الانتماء من جذورها.

والسؤال الآن كيف ينجح العدو بتحقيق أهداف هامة؟ وهو لا يسيطر إلا على بضعة أفراد هنا أو هناك، أما الجواب فبسيط جدًا، وهو استغلال تكنولوجيا الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي، والفضاء المفتوح فيها بلا حدود تحت أسماء وهمية، إذ يكفي لأحدهم بث إشاعة، أو فبركة خبر، أو حرف واقعة ما، لتكوين ردود فعل انفعالية لا مكان فيها للتفكير وتحليل الوقائع والمستندات المادية، تلتقطها وسائل إعلام كبرى وتضعها في خانة الرأي العام، وتبدأ في الطعن بجسد المشروع الوطني الفلسطيني، وتقطع أوصاله، وفي الحد الأدنى تعمل على تخريب جسور الثقة بين قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، وقادة ومناضلي مؤسساتها الرسمية القائمة أصلاً لخدمة الشعب، وأولها المؤسسة الأمنية الفلسطينية بفروعها كافة، العاملة بإخلاص، على صون وحماية وحفظ أمن المجتمع، ما يعني أن "الجاسوس والعميل" النخبة لدى منظومة الاحتلال، الكفيل بتوصيل الإشاعة بكبسة زر إلى أبعد الحدود المستهدفة، موجود بشكل "هاتف ذكي"، أما ضماناتهم لتحقيق أهدافهم المرسومة، فهي التركيبة الخاطئة لمعاني المواطنة، وتشويه رؤية المواطن لمعنى الحقوق والواجبات، وحرف منطق حرية الرأي التعبير، حتى لو بلغ الأضرار بأمن وسلامة الوطن، ناهيك عن تأصل العدائية، حتى صار الاختلاف، خلافًا جوهريًا وجذريًا.