بِتُّ على قناعة أكيدة، أنه ومنذ الشقشقة الأولى، عرف النور مثلما عرفت العتمة، وعرف الحق مثلما عرفت الباطل، وعرف الظلم مثلما عرفت العدالة، ولهذا انقسمت الدنيا إلى جهاتها الأربعة، جهة تناصر إحدى الجهتين، إما النور وإما العتمة، وجهة تقاومها، وجهة تقف في المربع الرمادي، لا إلى هنا ولا إلى هناك، وجهة رابعة اخترعت عالمًا اسمه عالم الفرجة.

أقول هذا، وأنا أتذكر جزئية من أساطير الإغريق، تتعلق بـ أوديسيوس الذي لعب دورًا هائلاً في حرب طروادة، وعلى أكثر من صعيد، فهو، بعد أن حطت الحرب أوزارها، أراد العودة إلى إيثاكا، حيث هو ملكه، وزوجته، وابنه، لكن غضب بوسيدون، ملك البحر عليه جعله يتيه عشر سنوات في البحر العمي كي لا يعود إلى بلده/ الوطن، وزوجته/ العاطفة، وإلى الابن/ المستقبل، ومدة هذا التوهان في البحر الذي أفقده بصره، هي مدة الحرب التي عرفتها الحرب الطروادية نفسها، أي عشر سنوات، وهذا معادل موضوعي للأهوال التي عرفتها الحرب والأهوال التي عرفها طريق العودة أيضًا.

تذكرت هذه الجزئية الأسطورية، وتلك الثنائيات التي جعلت أهل الإغريق يقولون إن الدنيا هي الحق، والخير، والجمال، وما خالف هذه المعادلة هو اللاحياة، وأنا أسمع خطاب نتنياهو في الكونغرس الأميركي، وقد ضبطت نفسي وأنا أشهق، أكثر من مرة، لسببين أولهما: كمية الكذب والسذاجة والفبركة وقلة الحياء والغطرسة والمبالغة والاستعلاء، التي سيلها نتنياهو، وثانيهما: العرض المسرحي المعد للتصوير والخداع والضحك على الناس، وعدد مرات التصفيق والقيام والجلوس، ومحاكاة جميع الحضور، إلا من عصم ربك، لرئيسي الجلسة في كل تصرفاته وسلوكياته، فإن صفق الجميع، وإن قام الجميع، وإن أطال وقفته أطالوا، وإن جلس جلسوا. 

أمر مدهش وغريب ولا علاقة له بالقيم ولا بالإنسانية ولا بالحضارة ولا بأوليات الاجتماعات وآدابها، لأن ما حدث طوال وقت مقيت يدعو للإقياء، هو حدث لا يليق بطلاب مدرسة ابتدائية، أو ربما لا يليق بتلاميذ روضة أطفال، ناهيك أنه لا يليق أبدًا بخلق جعلوا السياسة مهنتهم وحياتهم! وضربت على رأسي مرات ومرات، وأنا أصرخ بنفسي، أهؤلاء هم من يقودون العالم، أهؤلاء هم أرباب السياسة، أهؤلاء هم أهل الفطنة والذكاء والعلوم والمنطق، أهؤلاء هم فعلاً من يمثلون العالم الحر، ويعرفون مبادئ رئيسهم "ويلسون" التي تباهى بها عام 1914، وفيها القول، باحترام الشعوب والأمم، واحترم تاريخها وجغرافياتها، واحترام اللغات والعادات والتقاليد، أي احترام هويات الأمم والشعوب، ونصرة السلام، والوقوف بوجه الحروب الظالمة التي تطال كل نبيل وعزيز.

بلى كدت أفقد عقلي وأنا أراهم يصفقون قيامًا، في الكونغرس الأميركي، لنتنياهو الذي حول التوراة من كتاب ديني إلى كتاب تاريخي، ومحى كل ما قالته التواريخ السابقة على التوراة من أجل أن يقول بأن أرض فلسطين هي أرض أجداده، وهو لا يعرفهم بالمطلق، وكي يقول إن أرض فلسطين هي أرض إبراهيم، والتاريخ الذي تعرفه جدتي، ويقول إن إبراهيم عليه السلام اشترى مترين من الأرض الفلسطينية وداخل مغارة، كي يدفن زوجته، وهذا أمر معروف لدى حضور  الكونغرس الأميركي، ومع ذلك يصفقون وهم في وقوف ذليل، وقوف المذعن لمالك المال والنفوذ داخل أميركا نفسها، وهو لم يكذب ويلفق ويدلس في التاريخ القديم فقط، بل فعل مثل هذا وهو يتحدث عن الشهور العشرة التي مضت، أي شهور الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهل غزة، وأهل الضفة الفلسطينية أيضًا، فروى لهم أنه لم يقتل مدنيًا واحدًا في مدينة رفح التي احتلها جيشه منذ شهور، وأن أخلاقيات جيشه هي أهم من أي أخلاقيات عرفتها جيوش العالم، وروى لهم أن المساعدات تدخل إلى قطاع غزة، وأن من يموتون، يموتون لأنهم يحبون الموت، وأن لا تشريد ولا تهجير في غزة، وخفت، والله خفت، أن يقول كل شيء هادئ وطبيعي في غزة والضفة الفلسطينية، لأن الحضور يصفقون له وقوفًا.

إذًا، من قتل أكثر من أربعين ألف نسمة، نصفهم من النساء والأطفال، ومن دمر الجامعات والمدارس والمشافي، وحرم الطلاب من الدراسة، ومن حرق مستودعات تخزين الطعام والشراب والأدوية والعتاد، ومن دمر 85% من بيوت غزة، ومن هجر أهالي الشمال في غزة إلى الجنوب، ومن هجر أهالي الجنوب في غزة إلى الشمال، ومن عطل وجوه الحياة كلها في غزة، الاقتصاد، والاجتماع، والحياة المدنية، والثقافة، ومن سحق القانون الدولي تحت قدميه، ومن رفض أوامر أميركا ومقترحاتها؟ ومن أغلق المعابر كلها. ومع ذلك، ويا للغرابة والوقاحة، هم يصفقون له وقوفًا وينحنون.

أي كذب هذا، أي نفاق، أي ظلم، أي تدليس يقوله نتنياهو، وأي تصديق مستغرب وهجين من هؤلاء أرباب السياسة، وأي دورة يدورها العالم من أجل أن يسوق الظلم والشر والعربدة والعنصرية؟ بلى، ما حدث مشهد لا إنسانية فيه، ولا أخلاق، ولا صدق، ولا منطق، لأن الكونغرس تحول إلى صورة تشبه صورة اللامبالاة تجاه ما يحدث في غزة، أي التصفيق للقتل والتشريد والوحشية والإبادة الجماعية وأمام الكاميرات.

بلى، غضب بوسيدون حال دون عودة أوديسيوس إلى وطنه وزوجته وابنه، مدة عشر سنوات، ولكنه عاد أخيرًا، وهزم بوسيدون، وهو مالك القوة.

وهتلر، انفعل كثيرًا في خطاباته، وهز يده في الفضاء كثيرًا، مهددًا متوعدًا، وبغضب شديد، وبدق على المنابر، وقد جحظت عيناه، وتراجفت كتفاه حين كان يشعر بأنه استولى على عقول من كان يخاطبهم، لكنه كان يعرف جيدًا بأنه يكذب، لذلك مضى إلى مصيره، وبقيت الشعوب المؤمنة بالحق والخير والجمال، تمامًا مثلما ستذهب أنت أيها الكاذب، يا نتنياهو، إلى مصيرك، أما الشعب الفلسطيني فسيبقى حافظًا لنشيده الأبدي الخالد، بلادي بلادي، والأيام بيننا.