بات واضحًا في هذه الأيام بعد محاولة الانقلاب القضائي، وبعد ما جرى في السابع من أكتوبر وما تبعه من حرب دموية طويلة، أن في إسرائيل دولتين مختلفتين اختلافًا جوهريًا في الفكر والعقيدة، كما صار الصراع الحاد بينهما أشد وضوحًا مما قاله نصر بن سيار:

أرى خلل الرماد وميض نار، ويوشك أن يكون له ضرام، فإن النار بالعودين تذكي، وإن الحرب أولها كلام.

الدولة الأولى: هي دولة إسرائيل التي نعرفها والتي نشأت في شهر أيار 1948 ولها علمها وشعارها وقوانينها ومؤسساتها وتعرف نفسها بأنها دولة ديمقراطية يهودية أو دولة يهودية ديمقراطية، كما يرى الحزب الحاكم فيها، وهي دولة تحكمها سلطة تنفيذية وسلطة تشريعية وسلطة قضائية، كما أن للسلطة الرابعة (الصحافة) ثقلاً كبيرًا، وتفخر هذه الدولة بجهازها القضائي (يوجد قضاة في أورشليم) على الرغم من أن هذا الجهاز لا يقف على بعد واحد من جميع مواطنيها وبخاصة المواطنين العرب، ولهذه الدولة جيش (بقرتها المقدسة) يحظى بالقسط الأكبر من ميزانيتها، ويرى البعض بأن هذا الجيش له دولة وليست دولة لها جيش. ولن أطيل في توصيف هذه الدولة التي نعرفها جميعًا إلا أنه من الضروري التأكيد على أن يهودية الدولة أخذت تقضم ديمقراطيتها شيئًا فشيئًا منذ حرب حزيران 1967 فلا ديمقراطية مع الاحتلال.

وكان هذا الواقع الحاضنة الطبيعية لولادة دولة أخرى تختلف عنها فكرا وعقيدة وممارسة وهدفا.

الدولة الثانية: هي دولة يهودا التي كان جنينها حركة "غوش إمونيم" اليمينية الدينية الاستعمارية ومركزها في المستوطنات التي أقيمت في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ حكومات حزب العمل، ونمت في حكومات الليكود أي في حكومات مناحم بيغن وإسحاق شمير، وتطورت في حكومات بنيامين نتنياهو وصارت تصول وتجول في حكومة نتنياهو الحالية اليمينية المتطرفة.

تغلغلت هذه المجموعة الدينية الاستعمارية اليمينية المتطرفة في أجهزة الدولة رويدًا رويدا: في الشرطة وفي الجيش وفي الكنيست وفي جهاز القضاء حتى محكمة العدل العليا كما تغلغلت في شتى الوزارات بوظائف هامة، من وزير إلى مدير عام، مثل وزارة الزراعة ووزارة "الشرطة" والمعارف والأديان والداخلية وغيرها كما شاهدنا من هذه المجموعة قادة بارزين في الجيش لهم تأثير كبير على ما يجري في المناطق المحتلة منذ العام 1967.

لا تعترف هذه المجموعة بوجود شعب عربي فلسطيني وتعتقد أن الله تعالى منح هذه البلاد التي تسميها أرض إسرائيل للشعب اليهودي فقط وترى أن الأردن هو أرض إسرائيل الشرقية وهي تريد "أرض إسرائيل" خالية من العرب الذين تراهم جنسا دونيا وترى أن المسجد الأقصى هو جبل الهيكل، وهو لليهود فقط، وتخطط لهدم قبة الصخرة والمسجد الأقصى وبناء الهيكل مكانه.

هذه المجموعة تعادي الديمقراطية وتسعى لإقامة دولة يهودية دينية بل هي تنادي بالدكتاتورية، وصرح أحد أعضائها علانية بأنه يريد دولة دكتاتورية يرأسها بن غفير.

لا مجال للإطالة في سرد معتقدات هذه المجموعة التي تسيطر في هذه الأيام على حكومة إسرائيل ومنها عدة وزراء مثل وزير المالية ووزير الأمن الداخلي ولها صلاحيات واسعة في وزارة الجيش بل إن بقاء هذه الحكومة الحالية وسقوطها مرهون بالوزيرين بن غفير وسموطرتش أو بأحدهما فقط.

يرى الكثيرون أن رئيس الحكومة في هذه الأيام رهين للوزيرين بن غفير وسموطرتش وأنه ينفذ برنامجهما والحقيقة أن أفكار بنيامين بن تسيون نتنياهو لا تختلف كثيرًا عن أفكار الوزيرين الحليفين له.

تشكل دولة يهودا إذا قامت خطرًا كبيرًا على الفئات العلمانية والديمقراطية والليبرالية في دولة إسرائيل كما تشكل الخطر الأكبر على الشعب العربي الفلسطيني وعلى الأقلية العربية الفلسطينية في دولة اسرائيل.

قد تنتظرنا أيام سوداء إذا سيطرت هذه المجموعة على الحكم سيطرة كاملة لذلك نحن في هذه الأيام بحاجة ماسة إلى العمل والتعاون مع الفئات والقوى العقلانية والليبرالية والديمقراطية اليهودية التي تشكل دولة يهودا خطرًا عليها كي نمنع سيطرتها.

لست نذيرًا متشائمًا ولكن لا بد لي من أن أحذر من الآتي وأقول: أمامك أيها العربي أيام تشيب لهولها النواصي السوداء، وأيامك الحالية فيها نار ذكرها نصر بن سيار وحذر منها:

فإن لم يطفها عقلاء قوم، يكون وقودها جثث وهام.