للنزوح مرارات تعض القلب والعقل معًا، للنزوح مرارات النكبة ذاتها، وهذه هي حال أهلنا في قطاع غزة المكلوم، وقد باتوا في نزوح متواصل، يتنقلون كمثل بدو رحل، وليس في أرض الله الواسعة حيث الماء والكلأ، بل في أرض باتت مليئة بالركام تغطيه رائحة الموت. في كل يوم هناك نزوح جديد، من شمال القطاع إلى جنوبه وبالعكس، من هذا الحي إلى ذاك، ومن هذا المخيم إلى آخر، دون أن تكف آلة الحرب الإسرائيلية عن القصف والتدمير! ومع النزوح تتصاعد صيحات القلق، فلا نوم كما ينام الناس ولا أكل كما يأكلون ولا شرب كما يشربون، إنها الجائحة التي لا وصف لها والوجع الذي يتجلى بأقسى حالاته في أنين الجرحى وعيون الأطفال التي تلمع بالخوف، وقلوب الرجال التي باتت تبكي من عجز وفاقة وحرمان، وأقسى الوجع وجع الثكالى، البكايات على ما فقدن من أهل وأحباب.

والجحيم في كل هذا المشهد في الواقع، ليس هو الوضع الكارثي الذي يعيشه أهلنا في القطاع المكلوم، بل هو في المجاز، جحيم الخطاب الحمساوي الذي لا يزال يكابر عنوة، يهدد ويتوعد بأنه سيجعل من غزة مقبرة للغزاة، إنه النكران الذي لا يرى ركام غزة وقد بات مقبرة للمئات من أهلها الضحايا، عدا أرضها التي باتت مقابر جماعية لآلاف الشهداء، رجالاً، وشيوخًا، ونساء، وفتيانًا، وأطفالاً معظمهم ما زال يلدغ بأول الكلمات.

الجحيم جحيم النكران المكلف، الذي يواصله الناطق العسكري الحمساوي الذي تروج له شاشات الخديعة، ومحللوها العسكريون، والسياسيون، خاصة الإخونجية منهم، وقد باتوا يتنعمون بعطايا هذه الشاشات.

ما من أحد يروق له ما تواصله هذه الشاشات أكثر من حكومة الحرب الإسرائيلية، لأنها ترى فيه ما يسوغ لها الاستمرار في عدوانها على القطاع المكلوم، وهي أدرى بأن "قذيفة الياسين" لن تردعها عن مواصلة عدوانها الحربي، حتى تحيل القطاع إلى مجرد ركام بالمطلق، حتى لو كانت هناك صفقة تعقد لوقف مؤقت لإطلاق النار. هذا ما أعلنه رئيس حكومة الحرب نتنياهو أمس الأول الذي قال: إن أي صفقة لا تعني وقفا للنيران الإسرائيلية، حتى تستكمل أهدافها التي ما زالت في خطاب نتنياهو أهدافًا تصفوية تمامًا، لا للقطاع المكلوم بكل ما فيه فحسب، وإنما أساسًا، للقضية الفلسطينية، ومشروع أهلها التحرري .

وللنزوح أسئلة على لسان النازحين كمثل جمرات تبحث بوهجها المؤلم عن طريق الخلاص إذا ما أنصت الناكرون لها، واعترفوا بالواقع كما هو، حتى يصبح بالامكان معالجة كل ما فيه من خلل وعطل وخراب.