توفي محمد صدوق أبو السعدي الرجل الثمانيني وابن قرية ديربان المهجرة يوم الجمعة 8-3-2024 وعلى أبواب شهر رمضان الفضيل، لقد هوى جسمه الهرم أمام مشاهد وأخبار الحرب الدموية والهمجية على قطاع غزة، إنهيار جسده وسكت صوته أمام هول الفاجعة، اختنق جفافًا ومرضًا وعطشًا كما يختنق أهل غزة، اختنق جوعًا وبردًا وحسرة على 25 طفل ارتقوا شهداء بسبب الجوع والجفاف، لم يحتمل العجوز أبو السعدي براكين الدم تتلاطم مجزرة تلو مجزرة، توفي وساعته الزمنية تشير إلى 31 ألف شهيد وأكثر من مائة ألف جريح ومفقود، وما يزيد عن مليون ونصف نازح في العراء والخيام البائسة، أبو السعدي أوقف عقارب الوقت حتى يتوه الموت.

رأيته آخر مرة يجلس أمام مدخل البيت على كرسيه المتحرك كأنه ينتظر قدوم أحد، شفتاه ترتجفان ويجد صعوبة في إشعال السيجارة، جسمه يرتعش بسبب تدهور حالته الصحية ولكن في عينيه الخافتتين بصيرة حارس، يجلس كأسد يضيئ بجمر سيجارته حدقات العتمة، ينظر حوله، يشرب قهوته المرة، يتفقدنا، كنا ناقصين، سأل عن الكثير من الأصدقاء والأحباء الشهداء والأحياء، دمعت عيناه كأنه تذكر ذلك اليوم الثقيل في قريته ترمسعيا عندما استشهد المناضل زياد أبو عين وزير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان يوم 10-12-2014 خلال الاعتداء عليه من قبل جنود الاحتلال واستهدافه بقنابل الغاز خلال فعالية شعبية بزراعة أشجار الزيتون في أراضي قرية ترمسعيا المهددة بالمصادرة.

أبو السعدي لا زال يحمل تلك العصا العتيقة، عصا العودة والأمل، عصا يحارب بها زمن اليأس والضجر، عصا يضرب بها حتى ينفلق الحجر، عصا تفتح الطريق المغلق بالحواجز العسكرية والمستوطنات، عصا العابرين الى حريتهم وكرامتهم وسط هذا الليل الحالك، عصا الشهداء والأسرى والفقراء التي تصير أحيانًا علمًا ذو ألوان أربعة، تصير شجرة وارفة، تصير يدًا ومقاومة، تصير بندقية وجذع منتصب القامة، عصا تنبش الماضي لتصنع الحاضر في جدلية التراث والأصالة والهوية والحضارة.
هجم أبو السعدي بعصاه على قاتل زياد أبو عين، ضرب الجنود المتوحشين، كان أبو السعدي غاضبًا، غضب الكهل الصخري الذي انفلق كالزلزال، غضب الخميرة والزيت والبراهين، غضب الأرض المسروقة وقد استعادت جذورها وعظامها الدفينة، رأى أبو السعدي الشهيد زياد يختنق، قنابل غاز ورصاص، أنفاس زياد تحترق وعيناه تحدقان في وجه القاتل، عينان مفتوحتان على الطوفان، عينان تتموجان بتراب الأرض، عينان حادتان كشفرة السكين، عينان فيهما الرفض والبصيرة البعيدة، عينان تجمعان كل الصور، عينان ترسمان أفقًا آخر أبعد من الموت وأقرب إلى عطش الحياة.

أبو السعدي يضرب الجنود بعصاه، لا ينسحب ولا يتراجع، الجميع شاهد أبو السعدي يحرك بعصاه أرواح الصامدين واجنحة الهواء المخنوق، العصا والكوفية الرقطاء والوجه العنيد، الجنرال أبو السعدي يقود بعصاه تلك الكتيبة، يصرخ ويزمجر ويبرق كرعد سماوي ألقى على المحتلين ناره الحامية، هذه العصا عمرها 75 عامًا، العصا هي التاريخ، عصا أبو السعدي هي الارادة عندما يخنقك الموت والجدران وصمت العدالة الكونية، أمام الإبادة الوحشية غير المسبوقة في قطاع غزة.

عصا أبو السعدي هي كل مدينة وقرية وحارة، الرمز والدعوة والرسالة، العصا فيها دماء وشرايين، فسلام على تلك العصا الصلبة المقاتلة، فاحملوا عصيكم أيها الناس واخرجوا، المستوطنون قادمون، المستوطنون ينهبون الأرض ويعربدون ويقتلون، أخرجوا، عصا أبو السعدي أرسلت الإشارة إلى غزة، أعلنت النفير، فمن رأى عصا أبو السعدي فلينهض الآن ويكسر هذا الصقيع، يضرب بعصاه الأرض حتى ينفجر الصخر قرارًا ومصير.

سلام على تلك العصا السحرية، لا تضعوها في متحف للنسيان أو للذاكرة، هي عصا الأعمى إذا ضل الطريق، هي عين ثالثة، وهي عصا المقرور إذا أصابه البرد لينبش الجمر ويشعل الحريق، عصا الفدائي الذي لا يرفع يديه مستسلمًا في غرف التحقيق، عصا تقود إلى الأمام، جيل وراء جيل يفيق ويفيق، عصا من شجرة زيتون أو خروب أو من جسد واقف في رفح وخانيونس وسط النيران اللاهبة، عصا أبو السعدي هي الباقية، عجوز يتعكز عليها ويقاتل بها رغم كبر سنه، لا زال يمشي، يقول نستطيع أن نمشي، العمر لا يشيخ في فلسطين، العمر يتجدد ويتوالد وينهض عندما تناديك الحياة الحرة القادمة.

عصا أبو السعدي هي ابنة الأرض، ابنة كل الاشجار والنباتات البرية، العصا التي منعت بني إسرائيل من عبور البحر واحتلال الأرض، عصا مذكورة في كل الكتب السماوية، عصا مقدسة لأن الذي يحملها عجوز نجا من النكبة عام 1948، حمل عصاه وجلس فوق الجبل يرقب عودته الى قريته المنهوبة.
عصا الجنرال أبو سعدي تهاجم قاتل الشهيد زياد أبو عين، تتصدى لكل هؤلاء الغزاة الذين لازالوا يلاحقوننا بالقتل والنهب والسجن والاستيطان، يتصدى للغزاة الذين يكرهون البشر، يحملون البنادق والمجارف ويتغولون بالجرافات، يرتكبون الفظائع في غزة تجويعًا وتشريدًا وقتلاً وتجريفًا وقهرًا للتاريخ والمكان، لعلهم يجدون في الارض لهم هيكل أو آله، يصابون بجنون الفاشية والعنصرية عندما لا يجدوا سوانا تحت التراب وفوق التراب.

استشهد زياد أبو عين وما زال الجنود ينقضون على أبي السعدي، هي عصا في مواجهة السلاح، هي عصا مصنوعة من عضلات القلب، لا تنكسر، عصا أسطورية تحرك الشمس حيث تشاء، عصا من إرادة تحطم حديد الزنازين عندما ينتفض الأسرى خلف القضبان، عصا شهيد جعل من الأرض سجادة للرحمة والصلاة.
عصا الجنرال أبو السعدي هي تلك العصا التي تنبأ بها العالم الفيزيائي اينشتاين عندما قال: أنا لا أعرف السلاح الذي سيستخدمه الإنسان في الحرب العالمية الثالثة، لكني أعرف إنه سيستخدم العصا والحجر في الحرب العالمية الرابعة، وربما هي تلك العصا التي تحدث عنها محمود درويش عندما قال: هي مسلتي وهويتي الأولى ومعدني الصقيل، ومقدسي العربي في الصحراء، يعبد ما يسيل من القوافي كالنجوم على عباءته ويعبد ما يقول، عصا لها دلالات في القول وفي النسغ والعقل وتاريخ يكتبه الشهداء.

سلام على تلك العصا، ربما هي من زيتونة مزروعة في جبل الطور في القدس، عصا تشق الغيب، ربما هي يد الملاك تقرأ الضوء، ربما هي من نخلة ولدت تحتها مريم العذراء، ربما هي مطرقة الحرية، ربما هي ترفع في رفح عمود الخيمة، إنها تعليمات العصا، تعليمات أبو السعدي، لا تذهب إلى القدس إلا حاملاً عصاك، القدس تكره الفراغ، خذ عصاك واستغفر، فالمياه العذبة والرياح اللوافح تخرج من تحت صخرة ببيت المقدس، قال ذلك ابو هريرة عندما التقى بأبي السعدي في باب العامود وتحت قبة السماء.
الجنرال أبو السعدي هو أول من حمل الصافرة لتنظيم المركبات في الشوارع وفي دوار المنارة في رام الله بعد قيام السلطة الفلسطينية عام 1995، اول شرطي فلسطيني متطوع، أول من شعر بالحرية، استعاد حياته المصادرة، الجميع سمع الصافرة، مرحلة جديدة تحتاج إلى صافرة فلسطينية، يخرج صوتها من أعماق الصدر، زفير رجل كان يحلم أن الدولة الفلسطينية قادمة لها رئة وأرض وحدود وعلم وهوية وسيادة، غزة تحتاج إلى صافرة أبو السعدي، صوتها أعلى من الطائرات الحربية لعلها تكسر الصمت المريب، صافرة تصرخ من صدور وحناجر شعب يذبح من الوريد إلى الوريد.
أبو السعدي يحمل عصاه في كل اعتصام للأسرى خلال فعاليات التضامن معهم، يلوح بها، يكتب بها، يرفع صور الاسرى عليها، يشير بها الى المعسكرات والسجون، العصا تتجاوز الحدود والاسلاك الشائكة، عصا الوعي يطل على المعتقلين من خلف الجدار ومن كل نافذة، عصا الراعي في كل ربيع، عصا المقعدين والمشلولين في سجون الاحتلال، عصا القدم واليد وبوصلة الأسير الضرير.

لازالت سلطات الاحتلال تفتش عن عصا ابو السعدي، العصا التي ضربتهم وهددتهم عندما استشهد زياد أبو عين، العصا مطاردة ومطلوبة، العصا هي الشاهد وهي المحكمة، العصا هي الغابة الجماهرية تكتبها الارض وترويها الفصول، العصا زنود تقذف الحجارة، فمن العصا كانت النقافة والقوس والرمح والفأس وعمود البيت وعمود الشعر، العصا تتحول الى حية، من يحمل عصا ابو السعدي لا يعرف الخوف، عصا لا تتردد ولا تعرف الشك والمساومة، عصا اللحظة الحاسمة.
توفي أبو السعدي وهو يبحلق في وجوهنا ويقول: ما هذا؟ الجميع يهربون من موت إلى موت ومن كل الأسئلة، قالوا قامت القيامة، وأن الصهيونية الفاشية وضعت نهاية للتاريخ والثقافة والقيم والمبادئ الإنسانية، وقالوا أن حرب البشاعة والانتقام من النساء والأطفال والمرضى والأسرى والبيوت والطبيعة وصلت الى اقصى مداها، اين اولادي؟ يسأل أبو السعدي، هل هم في المدارس أم في القبور؟ في المظاهرات أم في السجون، أم محنطين في الدهشة، ما هذا؟

توفي أبو السعدي وكان يرتجف كما ترتجف ارض غزة، رفض أن ينظر إلى السماء، هناك طائرات حربية وقنابل وفسفور، وهدير وزنانات، هناك سلات غذائية تهبط للجوعى والنازحين والجياع، ثم تمتزج بالاشلاء والطحين، عصا أبو السعدي تتحرك وتهتز أمام التقارير الصادمة والمفزعة عن اغتصاب النساء والأسيرات في معسكرات غزة، إعدام الأسرى المكبلين والمهانين والمحرومين من كل وسائل الحياة، خذوني إلى غزة ولن أنظر إلا إلى الأمام يقول أبو السعدي، الموت هناك له ضجيج ومعاندة.
الجنرال أبو السعدي افعل ما أمرك به رب العالمين بقوله "الق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون".