الاعلام اللبناني كان رائدًا في العالم العربي والسبب الرئيسي هو الحرية الإعلامية وحرية التعبير والتنوع وهي حريات كانت ميزة لبنان ولا زالت. وحقيقة الأمر لم يعد الإعلام بسلطة رابعة. فهو السلطة الأولى التي تسوّق السياسات والسياسيين وتتحكم بصناعة الرأي العام وبالتالي فإن المقياس هو في الوظيفة التي نريدها للإعلام. وظيفة البناء أم الهدم. فهو قادر على الإثنين معًا. ففي مراحل الانقسام السياسي والطوائفي تغلب وظيفة الانقسام وفي مرحلة السلم الأهلي وفي ظل دولة المؤسسات تغلب وظيفة البناء والوحدة.

البيان الوزاري الأول لحكومة الاستقلال الأولى في 7 تشرين الأول 1943 اعتبر أن الطائفية "تقيّد التقدم الوطني من جهة وتشوّه سمعة لبنان من جهة أخرى فضلاً عن أنها تسمّم روح العلاقات بين الجماعات الروحية المتعددة التي يتألف منها الشعب اللبناني. وقد شهدنا كيف أن الطائفية كانت في معظم الأحيان أداة لكفالة المنافع الخاصة، كما كانت أداة لايهان الحياة الوطنية في لبنان إيهاناً يستفيد منه الأغيار". ... والواضح أن الطائفية السياسية هي مصدر أساسي من مصادر الخلل والانقسام اللبناني والنزاعات اللبنانية. وهكذا يمكن للإعلام اللبناني أن يُسهم في بلورة مفهوم أننا نريد أن نكون مواطنين في وطن لا مواطنين في طوائف ومزارع سياسية وهذا يتطلب إسقاط لغة التحدي في العلاقة بين اللبنانيين وبين الموالاة والمعارضة خصوصاً وأن تكوين لبنان الهش يجعله أكثر عرضة من غيره في لحظة الضغوط والتأزم التي تمر بها المنطقة. فالتفاعل بين الطوائف على قاعدة المواطنية يغني حوار الطوائف ويجعل من الصيغة اللبنانية التي هي عبارة عن حوار تفاعل بين الأديان رسالة حضارية إلى العالم على ما يقول ويستنتج الامام موسى الصدر ويجعل من لبنان ليس مجرد بلد بل رسالة على ما يقول قداسة الحبر الأعظم يوحنا بولس الثاني ..    

الاعلام اللبناني صورة عن النسيج السياسي والطوائفي. وهو يعبّر إلى حد بعيد عن الواقع الطوائفي ومصالح الطبقة السياسية. وبالتالي لا ينبغي أن نبالغ في دوره الإصلاحي وفي إشاحة اللثام عن الفساد المستشري والرشوة المتحكمة. فالأمر يتطلب رؤية إصلاحية للوضع برمته. والإعلام يمكن أن يكون جزءً من هذه الرؤية التي تبدأ أولاً بالإصلاح السياسي الذي هو مدخل لكل إصلاح.

أما الكلام على دور الإعلام في التوعية الاجتماعية وتعزيز الوحدة الوطنية والسلم الأهلي والخروج من الطوائفية البغيضة وتصويب الاداء السياسي والإعلامي فيفترض أن يكون هناك "رؤية إعلامية" تمتلكها الحكومة في هذا الإتجاه – هل هناك مثل هذه الرؤية. ولأن إنتاج مثل هذه الرؤية يحتاج إلى ورشة إعلامية تشترك في صياغتها الدولة ومؤسساتها والجامعات والنخب في المجتمع المدني.

فالسؤال المطروح أي نوعية من الإعلام نريد. فالإعلام يمكن أن يكون بناء أو هدامًا وفقًا للوظيفة التي نريد أن نعطيه إياها.

- فالمطلوب تبادل التنازلات من أجل وقف الإنهيار ذلك أن معادلة لا غالب ولا مغلوب: هي عبارة من هدنة مؤقتة أو طويلة لكنها ليست هي الحل... يمكن أن تمهّد لسلم أهلي يُعمل خلاله على بناء الدولة القادرة والعادلة والتي همّها إرساء فكرة المواطنية الجامعة. فالهواجس المتبادلة هي مصدر للتوتر المستمر... وهكذا لا بد من التوافق حول معنى المفردات: الديموقراطية، العيش المشترك، المواطنية، السلم الأهلي، السيادة، العروبة، الإرهاب، الفصل بين السلطات .

كما قال ابن خلدون: العصبيات لا تبني أوطانا. وهذه العصبيات أصبحت السمة الأساسية في حسابات المجتمع السياسي وفي الترويج الطوائفي.

التاريخ اللبناني هو تاريخ حروب تقطعه هدنات طويلة أو قصيرة طالما لم تـُربط فكرة الدولة بقيام مواطنية حقيقية وطالما هناك سقوف متعددة لهذه المواطنية وطالما لم يلغ اتفاق الطائف تعددية السقوف هذه ولم تنفذ مقرراته المرتبطة بإلغاء الطائفية السياسية وبإنشاء مجلس الشيوخ. بمعنى آخر السلم الأهلي الظاهري الذي نشهده الآن هو مؤقت وعابر وقابل للانفجار ويمكن للإعلام تظهير هذا السلم الأهلي وتثبيت معادلاته عبر الخطوات الآتية :

- الإلتزام بالموضوعية والإستقلالية والأمانة والتنوع.

- الإبتعاد عن المبالغة وتقديم صورة حقيقية واضحة.

- الإلتزام بالمواثيق والأعراف الدولية والتعامل الشفاف مع الأخبار.

- تعزيز روح التسامح والألفة والتشجيع على ثقافة الحوار لا الخلاف.

- الاعتراف بالخطأ لدى وقوعه والمبادرة إلى تصويبه وتفادي تكراره.

- التمييز بين النقد والتجريح.

- عدم بث كل ما من شأنه إثارة النعرات الطائفية أو التعرض للنظام العام ومقتضيات المصلحة الوطنية أو التحريض على العنف في المجتمع.

- الترويج لحوار الثقافات والأديان بديلاً من مقولة حرب الحضارات.

- إغناء المشاهد والمستمع والقارئ بالمعارف والثقافات وتعريفه بحرياته وحقوقه الأساسية وواجباته تجاه عائلته وشعبه.

- أداء المؤسسات الإعلامية رسالتها كأدوات فاعلة في بناء الإنسان وتطوير الذوق العام.

- احترام الشخصية الإنسانية وحرية الغير والطابع التعددي في التعبير عن الأفكار والآراء.

- التركيز على دور التنمية في تعزيز وربط الأطراف والأرياف بفكرة الدولة.

- يمكن للمؤسسات الإعلامية استنادًا إلى القوانين حجب كل تصريح سياسي فيه مساس بكرامة الآخر أو الاعتداء على حريته أو التحريض على الإثارة الطوائفية والسياسية. وفي هذا المجال أذكَر ببيان صدر عن المجلس الوطني للإعلام ونقابة الصحافة ونقابة المحررين في 26 حزيران 2012 جاء فيه أن المسؤولية الوطنية تفرض على اللبنانيين والإعلاميين منهم على وجه الخصوص القيام في هذه الظروف المشحونة بكل ما من شأنه تحصين السلم الأهلي وتعزيز منطق الدولة والاحتكام إلى القوانين والمساهمة في بلورة وتعزيز الموقف الشعبي الرافض لدفع البلاد في دوامة العنف الأهلي والفتنة أيًا كان مصدرها وهذا ما يقودنا إلى دعوة مالكي وسائل الإعلام وجميع الإعلاميين لحجب جميع العبارات والمفردات التحريضية والمواقف التي تحض على العنف الأهلي وتعزز الانقسام بين اللبنانيين والدور السلبي لمقدمات الأخبار التي بدلاً من أن تكون تعريفًا مختصرًا للأخبار الواردة كما هو الحال عليه في الاعلام الغربي، في لبنان تصبح مادة للإثارة والترويج السياسي بخلفيات مسبقة. فمسؤوليتنا تجاه الشعب والوطن تفرض علينا توجيه صدمة معنوية تشمل محاصرة وحجب كل صوت للفتنة والتحريض أيًا كان مصدره السياسي .

- يمكن للإعلام أن يصوّب الأداء السياسي ولا يعطي فرصًا للانقسام السياسي والطوائفي في التحوّل إلى "حالة اسرائيلية" محكومة بالهواجس والمخاوف المتبادلة وتفسح المجال أمام اسرائيل للتسلل إلى "الداخل اللبناني".

- دعم الجيش اللبناني ومساندته باعتباره الأداة الأساسية للسلم الأهلي ووحدة الدولة. كما المقاومة عنصر أساسي في وقف الاعتداءات الإسرائيلية واستعادة مزارع شبعا والحؤول دون التوطين وسرقة اسرائيل للمياه اللبنانية.

- معالجة موضوع اللاجئين السوريين في لبنان بالتفاهم بين الدولتين اللبنانية والسورية وخارج الضغوط الغربية التي تتخذ منه للضغط على الدولتين بصورة مختلفة على قاعدة أن التعويضات التي تعطى من الأمم المتحدة للاجئين في لبنان تعطى نفسها في سوريا لهم لتشجعهم على العودة.

وفي كل الاحوال ثمة تبادل للتأثير بين الاعلام المرئي والمسموع والنخب الثقافية. فمن المعوقات الأساسية لقيام الاعلام بمهمة تربوية غرضها توحيد المجتمع غلبة المسألة الطائفية ومعها كون الاعلام المرئي والمسموع بغالبه تجاري النزعة ويحتضن إعلام الإثارة سواء السياسية أو الغرائزية إضافة إلى غياب النخبة اللبنانية عن القيام بدورها على صعيد تعزيز الثقافات الموحّدة وصهر القيم المشتركة وبسبب التحاقها بالمصالح الطائفية. وفي هذا المجال لا بد من تطبيق قانون المرئي والمسموع لجهة الالتزام ببرامج الانتاج الوطني والتنشئة وحماية البيئة والأطفال... كما أن هناك حاجة موضوعية لإيجاد جواب على مشكلة فعلية تتلخص في كون الصناعة في المرئي والمسموع غير مربحة. فالسوق الاعلاني في لبنان لا يكفي لأكثر من محطتين تلفزيونيتين مما يقتضي أن تشجع الدولة على سياسة الدمج بين المؤسسات كما تفعل في قطاع المصارف. كما أنه لا بد من تخفيض الرسوم المتوجبة على المؤسسات المرئية والمسموعة لصالح انتاج برامج تربوية ومناطقية.

واستطرادا التشديد على "المشترك" بين اللبنانيين يأتي على رأس الأولويات بالنسبة للإعلام. وتوحيد المفاهيم ازاء ما هو مشترك بين اللبنانيين هو مهمة ملحة تسهم في تفكيك عناصر التوتر الموجودة في أكثر من مكان.  فالالتباس في المفاهيم حاليًا قائم حول فكرة الميثاقية وحول مفهوم الديموقراطية والديموقراطية التوافقية... وهذه المفاهيم بحاجة إلى نقاش وتوضيح. فالديموقراطية الطوائفية تلغي مفهوم الديموقراطية الحقيقية. كما أن الميثاقية الطوائفية تعني تمثيل الأقوى في الطائفة وتنقل الصراعات إلى داخل كل طائفة وتهمِّش الأقليات وكل ذلك على حساب فكرة المواطنية الواحدة.

لا شك ان الإعلام اللبناني يمر بأزمة عميقة. فالإعلام المكتوب هو في الطريق إلى التهميش إن لم يكن إلى الموت. ذلك أن العدد الواحد من الصحيفة يتجاوز سعرها بثلاثة أضعاف. كما أن السوق الإعلاني يرتبط بوضع متقدم للاقتصاد الذي يعاني حاليًا من أزمة بنيوية. وأكثر من ذلك لم يعد الإعلام اللبناني عنصر إغراء للمال السياسي والعربي والخليجي وهذا ينطبق بدوره على الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني ولم يعد يمتلك أي تأثير في الداخل العربي الذي أدرك أهمية وخطورة الإعلام فأسس مئات القنوات التليفزيونية التي تغطي كل النشاطات الإنسانية وغير الإنسانية وحجب المال السياسي عن القنوات اللبنانية التي تدرك تمامًا بأن القانون قصر مواردها المالية على الإعلان والصناعة الدرامية. وهي مصادر في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية تهدّد مستقبل هذه القنوات ودورها.

ما المطلوب إذن؟ المطلوب أن تدرك السلطة السياسية أن صورة لبنان في العالم والمنطقة ترتبط بدور إعلامي. فتراجع الإعلام هو تراجع لفكرة الدولة ومكانتها ووظيفتها. ولذلك برزت دول عربية منافسة للبنان في الإعلام. فالمدينة الإعلامية أول من طرحها هو لبنان ولكن أنجزتها دبي وعمّان والقاهرة وبقي لبنان متخلفًا، علمًا بأن لبنان يمتلك المقومات لمثل هذه المدينة والمتمثلة بالطبيعة المؤاتية والكادرات واللغة والجغرافيا. ولذلك فإن إحياء المدينة الإعلامية في لبنان هو عنصر جاذب للتوظيف في الصناعة الإعلامية كون الحرية الإعلامية في المنطقة لا تتوفر إلا فيه. وسيكون لمردود المدينة الإعلامية ما يزيد على المليار دولار وفقًا للتقديرات كما سيستتبع ذلك فرص عمل تصل إلى ما يزيد على الثلاثة آلاف لخريجي كليات الإعلام. أيضًا هذا الأمر يفترض إعادة النظر في تكوين المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة بفتح المجال أمام الاستثمار العربي والدولي فيها بالسماح بالتملك في الأسهم وهذا ما لا يتيحه القانون المرئي والمسموع الحالي رقم 382/94. فالبعض يتخوَّف من ملكية العرب والأجانب أن يؤثر على سياسات المؤسسات الإعلامية اللبنانية. لكن هذا التخوّف في غير مكانه. ففي تعديلات القانون المرئي والمسموع هناك نصوص على تطبيق القانون اللبناني وعلى أن يكون رئيس مجلس الإدارة لبنانيًا وأن لا تتجاوز ملكية الأجانب الـ 49% من الأسهم.

في مشروع القانون الإعلامي الجديد هناك نصوص تنطبق على تنظيم الإعلام الإلكتروني وعلى التزامه بقواعد الإعلام المرئي لجهة صحة المعلومة ودقتها والموضوعية وتجنب القدح والذم.

هناك إلى الآن ما يزيد على 1300 موقع إعلامي أنجز العلم والخبر لدى المجلس الوطني للإعلام. المشكلة هي الافتقاد للمهنية والخبرة الصحافية وغالبًا الاعتماد على الإشاعة وعلى الطابع المحلي. وهذا ما يترك آثارًا سلبية على مستقبل هذه المواقع وتحديدًا على الواقع السياسي– الطوائفي. ذلك أن الاعلام الالكتروني هو إعلام اللحظة. من هنا يصبح من الصعب وقف الإشاعة وتكذيبها ودورها في إثارة الفتن وتناقلها. والحل لا يكون إلا بتطبيق القانون. وهذا يفترض حضور الدولة الغائبة والمغيبة ومعه حضور فعلي للقضاء لا الحضور الصوري. وواقع الحال يحتاج البلد إلى إصلاحات عميقة تحتاج إلى حاملة اجتماعية وثقافية ونخبوية وتضامن واسع غير متوفر في الوقت الحالي.

ختامًا لا يبدو في الأفق القريب والمتوسط أي أمل بتغيير النظام الطائفي وإقامة الدولة المدنية الحقيقية. لكن هذا لا يحول في ضوء ما نحن فيه من إجراء تلطيف لهذا النظام الطائفي وتخفيف التوتر بين المكونات يمكن أن يبادر إليهما اثنان: رجل دين هو غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ورجل الدولة والسياسة دولة الرئيس نبيه بري.