وكأنه لا يعلم أن هذه السيدة الطاعنة في السن ولدت هنا، في هذا الحي العتيق، فيتبجح وبوقاحة، ويطلب منها مغادرة منزلها الذي عاشت فيه كل تلك العقود من السنين، ثم يقول لها: إنه بيتي!!

وببساطة، وبلا أدنى تردد، وبينما رجال الشرطة يتفرجون، يستمر المستوطنون الذي يتزعمهم يميني متطرف بمهاجمة أبناء الحي العزل، ويفتعلون الأزمات المتتالية، ويقومون بأفعال عدوانية ليرغموهم على المغادرة في إصرار واضح على نفي حقهم في البقاء، والعيش في المكان الذي ورثوه عن أجدادهم، وعبر أزمنة لم يكن هناك من مستوطن واحد، أو لم يكن قد ولد أجداد هولاء المستوطنين الذين يحظون بمعاملة خاصة من السلطات الإسرائيلية، ولا ينهاهم أحد عن عبثهم وطغيانهم، وهم مطمئنون إلى ضمير العالم الذي يغط في سباته العميق طوال الفصول الأربعة، فلا دفء يحركه، ولا أنواء تهزه ليبدي رأيا، أو يساند مظلوما ضاقت به السبل، فلم يعد يجد سوى الرب ملاذا، وصوته ويديه وقدميه ليذود بها عن حق يستلب منه، وهو أعزل إلا من هذه الآلات الضعيفة التي يمكن أن تصيبها نيران الجنود، أو تقيدها سلاسل الحديد، ثم تودع في سجن كئيب مع صاحبها، لعل صوته يندثر، ولا يعود يعلو في مواجهة آلة البغي والعدوان والهمجية.

يمكن للأكاذيب أن تتحول إلى حقائق يصدقها مفتروها، ويرغم الضحية على تصديقها، ويتواطأ آخرون كثر ليروجوا لها، ويعدوها من المسلمات ما داموا غير معنيين بالأمر، أو لأنهم قبضوا ثمن التزييف، أو لأنهم بلا ضمير، وليس لهم شغل بالقيم والأخلاق والعدالة، وحق الناس في العيش الآمن، ودفع المظالم عن المظلومين العزل الذين لا حول لهم ولا قوة، وينتظرون موقفا من شركائهم في الإنسانية ليقوموا بما عليهَم من واجب تجاه شركائهم الذين يواجهون كل يوم عدوانية المستوطنين وبغيهم وهم متسلحون بالمال والقوة القاهرة، وبالقوانين التي تنسف تاريخا من أجل كذبة اسمها مدرسة، أو روضة للصغار، أو دار رعاية للمعاقين، وما على العزل إلا أن يوافقوا على نسف ذلك التاريخ، وذلك العمران، وذلك الإرث من الدين والأدب والعادات والتقاليد والحياة الحافلة بالذكريات والموت والولادة الجديدة والانبعاث والرغبة في مواصلة الحياة رغم المصاعب والضغط المتواصل.

يفهم أهالي الحي أن معركتهم قاسية، وغير متكافئة، وأنهم لا يملكون سوى قوة الإرادة والصمود، وأن الذين كانوا يساندونهم ولو بكلمة حولوا أنظارهم عنهم، وعيونهم على إخوتهم في الداخل والخارج ليقفوا معهم مساندين، ويعبروا لهم عن شراكة دائمة، وأمل في يوم قريب تنجلي فيه الأمور عن انتصار للحق، وهزيمة للباطل، ونهاية للاحتلال لن تقوم له من بعدها قائمة مهما كثرت أسلحته وأمواله، ومهما تغاضى الأقربون والأبعدون، ومهما حصل على دعم من الدول الكبرى، ومهما تركت المنظمات الدولية مسؤولياتها، وتساهلت مع العدوان، أو عبرت عن عجز، فالقوة التي هي جوهر الحق ستكون مع المظلومين مهما طال زمن الانتظار، ومهما تشابكت المحن والملمات ومهما قل الناصر، وكثر العدو، وقلت الحيلة، والإمكانيات. وسينعمون بنصر الله.

المصدر: الحياة الجديدة