في خطوة غير مفاجئة ولكنها مهمة في ظل هذه الظروف التي تعيشها القضية الفلسطينية، جاء تقرير منظمة العفو الدولية ليعيد تسليط الضوء على مخاطر الواقع العنصري الذي تخلقه سياسات الاحتلال في الاراضي الفلسطينية، وعنوانها "جدار الفصل العنصري" كونه العلامة الكاملة على سياسة الابرتهايد التي تنتهجها الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة مهما اختلفت طبيعة وشكل إخراج تلك السياسات.

قد لا يكون في التقرير الدولي اكتشافات جديدة للواقع الذي يئن تحته الشعب الفلسطيني بمكوناته كافة منذ وطئت أقدام الاحتلال أرضه المقدسة، لكن توقيت صدور التقرير ومن قبل مؤسسة دولية عريقة يشكل العلامة الفارقة، لأن المرحلة الحالية وما تشهده من اختلال لميزان القوى المحلية والاقليمية في صالح اعداء الاستقلال واعداء الحرية والسلام بكل أسف، ولذا سيكون للتقرير أهمية استراتيجية من حيث توثيق وتسمية واقع الاحتلال بحقيقته باعتباره نظامًا للفصل العنصري يقوم على تمزيق الأراضي الفلسطينية وإنهاء فرص التواصل الجغرافي والديمغرافي بين مكونات الأرض والشعب الفلسطيني، لأنه يرى بذلك طريقًا للخلاص من الاستحقاقات السياسية القائمة على السلام العادل والشامل ومبدأ الحد الأدنى من متطلبات الاستقرار الدائم وفق الرؤية الدولية المتمثلة بحل الدولتين.

هذا التقرير إلى جانب عشرات بل مئات القرارات والتقارير الاخرى وفي مقدمتها قرارات محكمة العدل الدولية بشأن جدار الفصل العنصري، وقرارات الأمم المتحدة، تشكل جميعها ساحة معركة كبيرة لقوانا السياسية والقانونية، ساحة لمواجهة بطش وسياسات الاحتلال من خلال تحالف قانوني ومدني مع كافة الجهات المعنية لاطلاع كافة المحافل بطبيعة الاحتلال وحشد التأييد والدعم لهذه القرارات والتقارير الدولية، حتى تبقى هذه القرارات والتقارير في مقدمة الأجندة الحقوقية والسياسية الدولية، ودون ذلك ستذهب هذه التقارير لأدراج النسيان، وستتعرض مؤسساتها للضغط والابتزاز والتهديد لمنعها من العودة لمثل هكذا تقارير مستقبلاً.

المرحلة التي تمر بها قضيتنا الفلسطينية في ظل عواصف المتغيرات الاقليمية تفرض على مؤسساتنا ذات العلاقة التقاط المبادرة وعدم إضاعتها أو تأخير الاستفادة منها والبناء عليها مستقبلاً، ففي الوقت الذي تسعى فيه سلطات الاحتلال للحصول على مقعد مراقب في مؤسسات اقليمية ودولية وآخرها الاتحاد الافريقي، رغم رمزية ذلك، إلا أنها ساحات مهمة كانت لسياستنا الأفضلية فيها ولا ينبغي إخلاؤها مهما كانت الظروف، جهود سياسية وحقوقية محلية ودولية هي المطلوبة لتعظيم الاستفادة مما تقدمه المؤسسات الدولية بحكم مهامها ورسالتها الاستراتيجية، وهذه معركة لا تنتهي إلا بنهاية الاحتلال وفق رؤية السلام العادل والشامل باعتباره أساس الاستقرار في مقابل سياسات الضم والاقتلاع والفصل التي باتت تحت أعين العالم أجمع بدوله ومؤسساته وأفراده.

تقرير منظمة العفو الدولية لا ينبغي النظر إليه كمجرد تقرير صادر عن فريق من المراسلين أو الكتاب، إنه وثيقة تاريخية بكل ما في الكلمة من معنى، فهو شهادة من مؤسسة مهنية مستقلة وليست معادية للسامية كما حاول الاحتلال وصفها، ولولا أهمية هكذا تقرير لما كانت ردة فعل الاحتلال بالهجوم على التقرير وعلى معديه وعلى المؤسسة متهمًا إياها بالانحياز للفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال وانها بشهاداتها المهنية تمثل معاداة للسامية، تماماً وكأن السامية تساوي الاحتلال ومن يهاجم الاحتلال يهاجم السامية وفق نظريات الاحتلال الحديثة.

لقد قدمت القيادة الفلسطينية وعلى امتداد عقود كل فرص ممكنة للوصول لتسوية تاريخية عادلة تنهي الاحتلال وتفتح الأفق للاستقرار في منطقة تحتدم فيها التناقضات والصراعات، وتتفجر فيها الأزمات واحدة تلو الأخرى، ولكن احتكام الاحتلال لمنطق القوة وفرض الأمر الواقعبقي المسؤول عن تفاقم الاوضاع يومًا بعد الآخر، وكلما اتسعت الفجوة بين فرص التفاوض اتجهت الامور للاحتكام للجهات الدولية لتأخذ دورها كما كان الحال في خطاب سيادة الرئيس محمود عباس الاخير أمام الجمعية العامة باعتبارها المنصة الدولية المسؤولة عن مساندة الشعوب في تقرير مصيرها، وأمام أعينها هناك دولة تسمى فلسطين تخضع للاحتلال منذ عقود.

من المؤكد أن تقرير منظمة العفو الدولية الأخير حول انتهاكات الاحتلال ضد الأرض والشجر والإنسان الفلسطيني، علامة فارقة وذات أهمية استراتيجية، وسيكون حافزًا للمؤسسة الدولية لمواصلة رصدها وأعمالها في الأراضي الفلسطينية لكشف صورة الأبرتهايد على حقيقته، وسيكون حافزًا ايضًا لمؤسسات دولية أخرى للتقدم خطوات اضافية لمساندة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة بالاستقلال والحرية في إطار من السلام الدائم في المنطقة، وهو تقرير مهم لكافة مؤسساتنا الحقوقية والقانونية والانسانية للبناء عليه، وإبقائه حيًّا في المحافل الدولية كافة حتى لا يكون مجرد تقرير صدر لينضم للعديد من القرارات التي تنتظر الانتصار على جدران الخزان!

المصدر: الحياة الجديدة