ليس ثمة نص في الأدب السياسي الفلسطيني، وربما العربي، يلخص تاريخ وحاضر شعب ويقدم رؤية إنسانية وحضارية لمستقبله بهذا الاختصار والعمق والسلاسة كما هو نص وثيقة الاستقلال الفلسطينية.

إنه نص ملحمي يلخص العلاقة العضوية التي لا تنفصم بين الشعب الفلسطيني وأرض وطنه وارتباطه التاريخي بها، ويعبر عن كفاحه الأسطوري للدفاع عنها وخلال هذا الكفاح صاغ هويته الوطنية بالدم والتضحيات.

وبرغم الظلم التاريخي بقي الفلسطيني متصالحًا مع نفسه يعترف بالآخر ويتوق للعيش بسلام ويساهم بفاعلية وبشكل إيجابي في تقدم الحضارة الإنسانية.
 

وبعد أن يؤكد النص على أن فلسطين وشعبها جزء من الأمة العربية، تاريخًا وثقافة وحضارة، فإنه يقدم رؤية مستقبلية لطبيعة الدولة الفلسطينية المستقلة وهويتها ونظامها السياسي البرلماني الديمقراطي.

فهي، أي الدولة الفلسطينية، دولة المساواة التامة لا تميز بين مواطينها لا بالدين أو العرق أو الجنس، دولة تحترم مبدأ سيادة القانون وحرية الرأي والتعبير والتعددية الفكرية والسياسية، وتلتزم دولة فلسطين المستقلة بالمواثيق الدولية والقانون الدولي وبميثاق الجامعة وقراراتها.

ولعل نص وثيقة الاستقلال هو التعبير الأدق لأهمية فلسطين الدينية والتاريخية، وهي أهمية تمزج بين ما هو أسطوري وواقعي فالمكان يتمتع بسحر خاص، من هنا يأتي إحساس الشعب الفلسطيني الخاص بها، ويأتي تصميمه على الدفاع عنها والتمسك الذي لا يلين بها. ففلسطين هي أرض الديانات السماوية، وأرض الحضارات، فبقعة الأرض الصغيرة والقديمة هذه استقطبت كل الأمم ومرت عليه كل الحضارات القديمة والحديثة فهي تتمتع بموقع جغرافي من الصعب أن تستثنيه حضارة من حساباتها.

أما فكرة الوثيقة الرئيسية، فهي أن الشعب الفلسطيني هو حصريًا صاحب حق تقرير المصير على أرض دولة فلسطين باعتبارها وطنه التاريخي، وأن أي حديث صهيوني آخر يدخل في باب التزوير وقلب الحقائق كمقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

لذلك تركز وثيقة الاستقلال على تلك العلاقة العضوية بين الشعب الفلسطيني وفلسطين فهي أمه الطبيعية وأن هذه العلاقة لن تأخذ أبعادها الحقيقية إلا مع تمتع الشعب الفلسطيني بالاستقلال.

وتشكل الوثيقة فلسفة متكاملة يمكن تحويلها إلى دستور الدولة الفلسطينية المستقبلية الحديثة، دولة كل مواطنيها وفيها يعبر الفلسطيني عن هويته الوطنية والثقافية والإنسانية أفضل تعبير. 


اختار محمود درويش، وهو من صاغ وثيقة الاستقلال مفرداته وسلسل أفكارة بعناية فائقة، لأنه كان يدرك أن ما يكتبه هو نص تاريخي سيعيش مع الشعب الفلسطيني جيلاً بعد جيل. ويمكن قياس أهميتها بأنه لو حدثت كارثة طبيعية واختفى معها لا سمح الله كل التراث والتاريخ الفلسطيني فإن وثيقة الاستقلال لو بقيت وحدها موجودة تكفي للتدليل على حضارية وإنسانية الشعب الفلسطيني ومدى ارتباطه بوطنه فلسطين. 

المصدر: الحياة الجديدة