يقينًا، تكاد العين لا تخطئ أمرين اثنين حين نتحدث عن الرمز الفلسطيني ياسر عرفات/ أولهما: أفعاله التي تخطت عميم الأشراك والأفخاخ والمكائد التي نصبت لشعبه الفلسطيني، فكان يمر من بين الغيوم الداكنة العابسة الجهوم مرور البرق، فيتفاداها مثلما تتفادى النجوم، بأنوارها، العتمات الحالكة، ولعل مواقفة زمنية قصيرة بدءًا من عقد السبعينيات في القرن العشرين الفارط وحتى رحيل هذا الرمز الصلد، تخبرنا بجلاء عن أفعاله، فهو من أنقذ الشعب الفلسطيني من مقتلة أعد لها الأعداء الكثيرون بإحكام وتخطيط شديدين لتكون هي الكي للوعي الفلسطيني الذي تجلى حدثا ومكنة بهرا العالم وفحواهما: أن الشعب الفلسطيني لم ينس أرضه، وتاريخه، وعمرانه الذي أثثته العقول والأيدي الفلسطينية ليصير قرى آمنة، وأنهارا مأنوسة، وحقولا زاهرة بالغلال والألوان، ومواسم لا تشبع منها العين الرائية، ومدارس يتعالى فيها النشيد الماجد: بلادي، بلادي..

وهو من جعل السياسة العربية المتنافرة والصدود، تتوحد من أجل القولة الحق: فلسطين عربية، وهو من جعل الدول، في جميع أركان الدنيا، تتسابق كي تكسب شرف الانتماء والتأييد لحركة التحرر الفلسطيني، لذلك صارت قضية فلسطين قضية تحرر عالمي تسابق شرفاء العالم، من سياسيين، ومناضلين، وفنانين، وكتاب، وشعراء، ليكونوا في السفينة الفلسطينية، سفينةِ الحرية المنددة بالظلموت الذي أوقعته قوى البغي الغربية، وبأساليب شيطانية، فوق الأرض الفلسطينية ليكون الكيانية الإسرائيلية الزائفة؛ الزائفة في كل شيء. ولكم كانت المتناقضات، ووجهات النظر المختلفة، والحوارات الصاخبة، والنقاشات النارية..

كثيرة داخل السفينة الفلسطينية، ولكنها كانت جميعها مجمعة على حقانية كفاح الشعب الفلسطيني الذي لصت أرضه، ودمرت أرضه، واقترفت المجازر بحق أهله، فشردوا وهجروا، بدعم بيّنٍ جلي من عتاة الاستعمار. في عقد السبعينيات، غدت فلسطين، وغدا كفاح أهلها، الخبر الطالع في العالم كله، وما كان هذا ليتحقق لولا مصداقية هذا الكفاح، وصلابة النفوس، ونورانية العقول التي قالت: ستكون أرض فلسطين المقبرة لآخر أشكال الاستعمار في العالم. الأمر الثاني: يتمثل في الكاريزما المهابة التي تحلت بها شخصية ياسر عرفات القيادية، فقد تقلد صورته وبثيابه الفوتيك، وحطته الفلسطينية، غالبية شبان العالم، ومعظمهم من طلاب الجامعات الذين شكلوا مستقبل بلدانهم في العقود التالية لعقد السبعينيات، وهم يرفعون سؤال الحرية عن مصير الشعوب، وجدوى القول: إن العالم قرية صغيرة، ولهذا كان ياسر عرفات واحدًا من أهم قادة العالم المطالبين بالحرية لشعبه المظلوم، وكان لمطلبه هذا أنصار ومؤيدون. في عهده، تواجد في القاعدة الفدائية اللائذة بالأحراش والمغر والكهوف والتلال والجبال: الفلسطيني، والعربي، والكردي، والأرمني، والياباني، والإيطالي، والهندي، والسنغالي، والكوبي، والروسي، مثلما تواجد في الخندق الثقافي الفلسطيني: العرب، والأفارقة، والآسيويون، والغربيون، واللاتينيون،.. كتابًا وفنانين وأهل رأي، وصارت دور النشر، والمطابع، ومعارض الكتب، والترجمة..

ملحقة بالأحداث والأخبار الفلسطينية، وتلاحق القصيدة، واللوحة، والقصة والرواية، والسيرة الفلسطينية. ذلك الزمن، زمن النشور الفلسطيني، هو الذي عاد بالفلسطيني، وهو بثياب الفوتيك والحطة الفلسطينية، والبندقية الفلسطينية إلى رام الله، وبذلك تجلى إنحناء الخط البياني للغطرسة الإسرائيلية لترى بأم عينها، هذه المرة، حقيقة الشعب الفلسطيني، ولترى الفلسطيني الابن، والفلسطيني الحفيد، وهما يعانقان أشجار الزيتون، وأبواب البيوت، وأعمدة المساجد والكنائس، ولترى، أيضًا، الفلسطيني الذي حناه الشوق، وهو يخر ساجدًا ليقبل تراب الدروب التي مشتها عافية الأجداد والآباء.

بلى، كان الرجل.. رجل البيوت، والخنادق، والمنابر، والمدونات الثقيلة، وكان هو.. الحديث الذائع العميم بكل اللغات.. وكان رمزا لسنوات البناء، والتأسيس، والتعب الجميل، والأحلام العوافي.. وسيبقى.

المصدر: الحياة الجديدة