عمالقة الفن والأدب يرحلون تاركين خلفهم فراغا للأسف لا يسده حداثيون جُدد مهما حاولوا. آخر الراحلين أمس صباح فخري، الفنان العربي السوري، ابن حلب الشهباء، والذي دخل بفنِّه العريق بيوت العرب، وأسعدهم في أحلك أيامهم وأصعبها. أخلص للموسيقى الشرقية ولونه الخاص في الغناء الذي يتناسب مع صوته، فأبدع بأداء القدود الحلبية والموشحات والقصائد الجميلة ذات الكلمات التي عندما يؤديها تبعث النشوة والطرب الأصيل.
في مطلع شبابنا، كنا نستمع إلى الأغاني الوطنية والرومانسية، لكن المحتوى كان هو الذي يشدنا، خاصة إذا كانت الموسيقى والصوت متوافقين ومتميِّزين. عمالقة ذلك الزمن كُثر، نستعيد ذكرياتنا مع كل واحد أو واحدة نفقده/نفقدها. نقارن فنّهم بالجديد، فتصيبنا في غالب الأحيان غصّة، ونبرِّر ذلك بصراع الأجيال واختلاف الظروف ومتغيرات العصر، ولكن بدون تعاطف، ننسب ذلك إلى فساد الذوق وتردي المعاني، والبحث عن السرعة في كل نواحي الفنون لتنسجم مع سرعة الانفعال والتفاعل التي تلامس السطح دون بلوغ عمق التأثير الذي يَخْلد في الوجدان، كالساندويتش الذي يسد الجوع مؤقتا، دون الإحساس بالشبع.
صباح فخري، وهذا اسمه الفني الذي اعتمده بدلاً لاسمه الأصلي، صباح الدين أبو قوس، احتراما ومحبة لفخري البارودي الذي رعى موهبته وأحاطه بالدعم والرعاية منذ نعومة أظفاره، وسهّل له الحضور الطاغي على كل المنابر العربية، فكان انتشاره بين كل الأوساط، الطبقات الميسورة، والأخرى التي كان غِناها بتذوّقها للفن الأصيل يعوِّضها عن ثراء المال.
كانت قدوده الحلبية وأغانيه التراثية تُردَّد كلما كانت هناك حالة فرح، فيا مال الشام يلا يا مالي، وطالعة من بيت أبوها، وقل للمليحة في الخمار الأسود وعشرات من أخواتها، تخلق حالة طرب ونشوة لا يمكن وصفها، وعندما يصل إلى يا طيري طيري يا حمامة، بكلماتها السهلة والمعبرة عن حالة الشوق والوجد، يستبدل الناس كلماتها بأخرى على نفس النغمة، تدفع بألم فراقهم إلى طليعة المشاعر. وأذكر كيف كنا في طريقنا إلى مواقع القتال والمواجهة، أو في ليالي استحضار الأحبة، وشوقنا للوطن والأهل، نستبدل كلماتها الأصلية لتصبح:
يا طيري طيري يا حمامة
من الحِمَّة لأرض الكرامة
جيبيلي من أرضي علامة
حصوة أو ضمة تراب ...
وعلى ديني يا فلسطيني
على ديني الغربة حرام والله
يكملها المشاركون بالأداء بكلمات فيها وجد وحنين وشوق تتوافق مع كلمات الأغنية الأصلية ونغمتها، ورغم الحزن والشجن، ندخل في حالة إنسانية فيها فرح استحضار كل ما هو جميل من أيامنا.
لصباح فخري ولكل الخالدين ممن أغنوا حياتنا الثقافية بالأصيل من المعاني والطرب الأصيل الرحمة، والدعوة للأجيال المعاصرة أن تحاول على الأقل المزج بين هذا وذاك، ستكتشف إن فعلت، أن الفن عظيم ويدوم ويُخَلِّدُ صاحبه، إن لم يكن ساندويتشا سريعا لا يسمن ولا يغني من جوع.

المصدر: الحياة الجديدة