بإمكان إسرائيل المدججة بأحدث آلة عسكرية أن تستخدم قوة البطش التي بين يديها في اضطهاد الشعب الفلسطيني، ولكنها ستظل تفشل في طمس الحقيقة الفلسطينية. هذا الفشل ليس ابن اللحظة، الصهيونية جاءت في مطلع القرن العشرين مع فكرة أساسية هي إنكار وجود الشعب الفلسطيني ونزع العلاقة التاريخية بينه ووطن الآباء والأجداد، وتحويل أرض فلسطين إلى "أرض إسرائيل"، والدولة الفلسطينية العربية  الى "دولة يهودية". وبعد انتصار العصابات الصهيونية الإرهابية على الجيوش العربية عام 1948 اعتقدت إسرائيل أنها نجحت في شطب الحقيقة الفلسطينية.

اليوم وبعد أكثر من 73 عامًا ها هي تقف وجها لوجه مع هذه الحقيقة، مع الشعب الفلسطيني وأمام فلسطين دولة بعضوية المراقب في الأمم المتحدة، وهي موجودة، ولها علم أمام الأمم المتحدة إلى جانب اعلام الدول الأخرى. والأهم أن هذا الشعب، وبالرغم من سرقة أرضه على نطاق واسع، إلا أنه ما زال يسيطر على ثلث مساحة فلسطين التاريخية، بحكم وجودهم المادي فوق هذه الأرض في الضفة والقدس الشرقية وقطاع غزة، وفي مناطق الجليل والمثلث والنقب، وأكثر من ذلك، الشعب الفلسطيني لا يزال يقاوم ولم يستسلم، وأن  كل محاولات إسرائيل لقتل الروح الكفاحية لدى هذا الشعب هي أيضًا قد فشلت.
البطش الذي تشهده الضفة في الأسابيع الأخيرة، وخصوصًا بعد تمكن 6 أسرى أبطال من توجيه ضربة قوية للنظام الأمني الإسرائيلي بانتزاع حريتهم من معتقل "جلبوع" الأكثر تحصينا، هذا البطش الاسرائيلي له علاقة بحالة يأس، وحالة إفلاس في مواجهة الحقيقة الفلسطينية.
أما المسألة الثانية فلها علاقة بالائتلاف الحكومي المليء بالتناقضات وليس له أي ضرورة سوى أن إدارة بايدن لا ترغب بالتعامل مع نتنياهو. هذه الحكومة تعتقد أن أحد أسباب قدرتها على الاستمرار هو بتصعيد البطش ضد الفلسطينيين، فهذه هي الطريقة، من وجهة نظرها، التي قد تقطع الطريق على نتنياهو من إسقاط المتدرب بينيت.  ففي الآونة الأخيرة وفي جنح الظلام يقوم جيش الاحتلال، وفي كل ليلة تقريبًا، بارتكاب جريمة بدم بارد وما أن تشرق الشمس تكون أسرة فلسطينية آمنة قد فقدت أحد  أبنائها أو بناتها. هناك عملية سفك دم متعمدة لشعبنا الفلسطيني.
ومنذ تأسيسها، إسرائيل لا تستطيع العيش بدون حروب، وبدون اشتباك، وسفك دماء، فهذه الاستراتيجية الإسبارطية هي ضرورة لدولة بنت نفسها على رواية زائفة ولا تستطيع أن تحافظ على وحدتها الداخلية إلا بفبركة مقولات الخطر الوجودي. كما تركت إسرائيل نفسها دون حدود لتواصل سياسة التوسع والعدوان، وفي هذا الإطار أعطيت هذه الدولة التوسعية العنصرية عشرات الفرص لتكون جزءا من المنطقة فيما لو وافقت على دولة فلسطينية على حدود عام 1967، خصوصًا بعد ابرام اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.
حتى في ظل الانقسام الفلسطيني المدمر، فإن معارك إسرائيل وتصعيدها المتواصل، هو أشبه  بدونكيشوتية لأنها لن تبدل من الحقيقة على الارض شيئا، لا حروبها وحصارها على قطاع غزة، غيّر من واقع ان غزة شوكة في خاصرة دولة الاحتلال، ولا جرائمها في الضفة ستقود إلى هضم الحقيقة الفلسطينية هناك. ومع حكومة اللمم بقيادة المستوطن بينيت فإن درجة الدونكيشوتية سترتفع، فهي تصعد لتغطية هشاشتها وتحاول إطالة عمرها قدر الإمكان.
إن السبب السيد الرئيس في عدم انكشاف ضعف إسرائيل هو غياب وحدة  الموقف الفلسطيني، وهي تتنمر لأن الفلسطينيين منقسمون، ولأن الوضع العربي في أسوأ أحواله، والمنطقة تعج بالأزمات. هذا الواقع السيئ لن يدوم ولكن ما سيدوم هو أن الشعب الفلسطيني موجود، وهذه الحقيقة لن تستطيع إسرائيل المدججة بأحدث الأسلحة تغييرها أو إلغاءها.

المصدر: الحياة الجديدة