لأجل تطور وتنور وازدهار أي مجتمع بشري، يعيش أفراده في جغرافيا محددة، وفي إطار منظم، ومرتبطين بعلاقات ثقافية، واجتماعية، واقتصادية، ثمة وعي ينبغي أن يتسيد العقل الجمعي لهذا المجتمع من أجل  السلوك الصحيح، والقدرة على تحديد الخيارات الصحيحة بشأن هذه القضية أو تلك من قضايا الشأن العام، والخاص معًا، هذا الوعي يسمى وعي الدولة، الذي هو- باختصار شديد- أن الجماعة البشرية بإدراكها أن الدولة بعقدها الاجتماعي ضرورة حرية، بما توفر من أنظمة وقوانين تحتكر من خلالها استخدام القوة المشروعة في سبيل تأمين أفضل منظومات الأمن والأمان للمجتمع لأجل تحقيق أفضل العلاقات الإنتاجية والتنويرية ودائمًا برعاية القانون وسيادته حتى لا يكون ثمة من هو فوق القانون، أو من يأخذ القانون بيده، أو بيد تشكيلاته الاجتماعية المحمولة على النسب والعشيرة، أو بعضها المحمول على الكنية فحسب..!!

ولعلنا نقرأ في إنجاز الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، قيمة الدولة، ووعي الدولة، في دولة المدينة التي أقامها في يثرب، وقد تنورت بحضوره فباتت تسمى المدينة المنورة، خصماء الدهر "الأوس" و"الخزرج" بعد مبايعتهم للرسول الكريم واستقبالهم له رسولاً وقائدًا، ما عادوا الخصماء، بمسماهم العشائري أو القبلي، بل أنصار في أمة ستكون أشمل من العشيرة والقبيلة، وفي دولة باتت في طور التكوين، وقد ارتضوا مؤمنين ما بات الرسول الكريم يسن من قوانين لإدارة شؤون المدينة الدولة، بلا أية محسوبيات، ولا أية انحيازات عشائرية، وطبقًا لما أنزل عليه من قرآن كريم، وما أكده على نحو واضح في حديث شريف "ليس منا من دعا إلى عصبية، أو من قاتل من أجل عصبية، أو من مات من أجل عصبية"، والعصبية أو العصبوية التي حذر منها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقوله "دعوها فإنها منتنة" هي الانحياز الانفعالي الأعمى للعشيرة، أو للقبيلة، أو للعائلة، أو  لحزب ما ، أو لهذه الجماعة المحددة من الناس أو تلك..!!  
ما يوقف هذا الانحياز ويضع حدًا له هو الدولة بقدر ما تكرس في فلسفتها وبرامجها وسلوكها السياسي، والثقافي التربوي، والقانوني، والاجتماعي، مفهوم المواطنة التي تحتكم للقانون، ولا تضع الدولة حدًا للانحياز العشائري مناهضة للعشيرة ومفهومها، بقدر ما تدعو لتمايزها التنافسي الايجابي المشروع في إطار المواطنة، طبقًا للقانون،  فليس لأحد أن يخرج من جلده في النهاية، ولا أن يتنكر لحسبه ونسبه، ولقبه العائلي أو العشائري ولا حتى المناطقي.
في التجربة الفلسطينية، ونحن لا نزال في مرحلة التحرر الوطني مع واقع بالغ التميز، حيث نقيم في كل يوم تقريبًا المزيد من مقومات الدولة، في الوقت الذي نواصل مجابهة الاحتلال، فإن أكثر ما نحتاج إليه هو وعي الدولة، بمعنى وعي الاحتكام للقانون، وسلطة القانون من أجل السلم الأهلي من جهة، وتحقيق أرقى أشكال الوحدة المواطنية إن صح التعبير من جهة ثانية، وهذا ما يكرس المواطنة كقيمة عليا في المجتمع، قيمة إنتاجية، وبناءة تسمح بالتمايز المشروع، وحيث لا يعود لأحد حاجة لحصون أو لمتاريس، من أجل حماية حياته، ومصالحه المشروعة، سوى القانون الذي يمنح الدولة حق احتكار القوة، ونعني دائمًا القوة المشروعة التي لا غاية لها سوى تأمين وتكريس أفضل منظومات الأمن والأمان للمجتمع، تحت سلطة عقده الاجتماعي.  
وباختصار شديد وعي الدولة، هو وعي الضرورة الذي هو وعي الحرية التي تمنح الحياة أجدى سبل التطور والازدهار، وفي تجربتنا الفلسطينية فإن وعي الدولة هو ما سيمنح مسيرتنا النضالية من أجل الحرية والتحرر، المزيد من القوة، والصلابة، والصمود، في إطار المقاومة الشعبية، حتى نزيل الاحتلال الإسرائيلي من على أرض دولتنا، لتقوم حرة مستقلة، وبكامل السيادة، من رفح حتى جنين وبعاصمتها القدس الشرقية.