عاشت ألمانيا والعالم مع أنجيلا ميركل أكثر من 15 عامًا، واليوم تترجل ميركل عن منصبها كمستشارة مثل فارس نبيل متواضع خاض معاركه بشجاعة وشرف وحكمة وتبصر. بالتأكيد انا لست مواطنًا ألمانيًا لأحكم وأحاكم تجربة ميركل مع شعبها وبلدها، كما أنني لست زعيمًا دوليًا ممن تعاملوا معها على ساحة السياسة الدولية لأقول بالضبط أي نمط من القادة هي، كل ما في الأمر أسجل انطباعات مراقب وفهم متابع لهذه المرأة العظيمة، التي عملت نادلة في بار وهي تدرس الكيمياء الفيزيائية في الجامعة لتصل إلى أهم منصب في ألمانيا، منصب المستشار، في دولة تحتل المركز الرابع في الاقتصاد العالمي والأول في أوروبا.

ميركل باعتبارها أول امرأة ألمانية تصل إلى منصب المستشارية، وهو بحد ذاته انجاز تاريخي ويحسب لها ولمدى نضج المجتمع الألماني، ولكن الوصول الى المنصب بالرغم من أهميته في حالة ميركل، إلا أن كيفية التصرف والتعامل مع هذا المنصب هي الأهم، وهذا ما سيكتبه المؤرخون ويبقى بمثابة دروس وعبر للأجيال. الصفات الأبرز لميركل إنها سياسية عبقرية في واقعيتها وقدرتها على فهم الشعب الألماني وفهم ألمانيا وموقعها في أوروبا والعالم، ومن هذه الواقعية الذكية أدارت ميركل الأمور بقوة وتصميم  ولكن مع حكمة وتوازن مدهشين، لذلك هي نالت احترام الجميع، من كان يتفق معها الرأي او يخالفها.
وفي وضع دولي شديد التعقيد ومتقلب، وبالمقارنة مع زعماء آخرين في العالم، كانت ميركل هادئة رزينة تعرف ما تريد والأهم ما تريده المانيا لنفسها من موقع في أوروبا والعالم. وبالمقارنة مع رؤساء أميركيين  عاصروها، خلقوا الفوضى على الساحة الدولية، وبالمقارنة مع رؤساء ومسؤولين أوروبيين  وفي العالم اتصفوا بالضعف او التسلط، كانت السياسة الألمانية في عهد ميركل تتصف بالثبات والحكمة ولم يسجل أي تهور او مغامرة غير محسوبة. بل انها قادت السفينة الألمانية في بحر هائج غادر وأوصلتها إلى بر الأمان، فليس صدفة أن يلقبها الألمان بالأم ميركل.
اليوم تتمتع المانيا باقتصاد قوي وقرارها السياسي مستقل وهي ليست رهينة لأحد. وبقدر ما أعطت ميركل لألمانيا أعطت للاتحاد الأوروبي ليبقى متماسكًا، فقد عبر ت بالاتحاد في ذروة الأزمة الاقتصادية العالمي عام  2008 وحتى 2012 وقدمت يد العون للدول الاوروبية التي كانت أكثر تأثرًا بالأزمة مثل اليونان والبرتغال بهدف المحافظة على منطقة اليورو، كما عبرت مع  الاتحاد بسلام من أزمة خروج بريطانيا (Brext) من الاتحاد.
لم يكن صدفة أن تختار مجلة  فورين بولسي (Foriegn Policy) المستشارة ميركل مرتين كثاني أقوى شخصية في العالم، وأن تختارها مجلة تايم (Time) الأميركية شخصية العام ومستشارة العالم الحر سنة 2015. أما جريدة نيويورك تايمز (New York Times)، وبعد فوز ترامب اليميني المتطرف في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، قالت الجريدة أن ميركل هي آخر المدافعين عن الغرب الليبرالي وعن التقاليد الديمقراطية.
البعض حاول مقارنة ميركل برئيسة الوزراء البريطانية في الثمانينيات من القرن الماضي مارغريت تاتشر التي كانت توصف بالمرأة الحديدية. صحيح أن تاتشر كانت أول امرأة تصبح رئيسة وزراء في بريطانيا وتمتعت بالفعل بشخصية حديدية، ولكن لا يمكن تشبيه ميركل بتاتشر، فهذه الأخيرة كانت شخصية فوقية ترغب باستعادة عظمة بريطانيا الاستعمارية، بالإضافة إلى خصخصة المؤسسات العامة ولبرلة الاقتصاد بطريقة أضرت بالطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة في البلاد.
أما ميركل، فقد وصفت إدارتها بالأدارة الإنسانية، خصوصًا عندما قررت استقبال المهاجرين السوريين رغم نقد القوى اليمنية المتطرفة والفاشية لها، والدليل على إدارتها الإنسانية أن ميركل كانت تفاخر بأن عدد سكان أوروبا يمثلون 7% من سكان العالم وحصتهم من الناتج العالمي 25% إلا أنهم ينفقون 50% على الشأن الاجتماعي.
قررت ميركل الرحيل وهي لا تزال تتمتع بشعبية و يعتبرها شعبها ضمانة استقراره، وهي ترحل رغم أن معظم قادة العالم كان يرغب باستمرارها في الحكم ولعب ذات الدور العاقل والواقعي في السياسة الدولية التي طالما لعبته. ولعل الاتحاد الأوروبي سيكون أكبر الخاسرين من رحيل ميركل، وهي التي عملت كل شيء من أجل قوة الاتحاد وتماسكه رغم كل الازمات التي ألمت به.
أما ميركل والقضية الفلسطينية، فبالرغم من خصوصية الموقف الألماني من إسرائيل بسبب التاريخ النازي، فقد تمسكت ميركل بحل الدولتين حتى في ظل تخلي واشنطن ترامب عن هذا المبدأ. كما رفضت إعلان هذا الرئيس باعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، لكون هذا الاعلان ينتهك القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وينسف حل الدولتين. وإلى جانب الدعم الألماني المالي للسلطة الوطنية، فإن ميركل حافظت على علاقة قوية وثابتة مع الرئيس محمود عباس رغم كافة الضغوط.
بعد أسابيع  قليلة، سترحل ميركل ولكن الميركلية كسياسة سيستمر الحديث عنها طويلاً وستدرس في الجامعات الألمانية والعالمية.