مطلع شهر آب/ أغسطس الحالي حلت ذكرى ولادة زعيمين تاريخيين، جسدا بكفاحهما البطولي عظمة النضال الوطني والقومي الفلسطيني العربي. وحفرا اسميهما في صفحات المجد الفلسطينية بعطائهما، وانتمائهما اللامحدود لقضية شعبهما الفلسطيني، عاشا النكبة ومراراتها، بيد أنهما لم يستسلما لحظة لمرارات وبشاعة وفظاعة جريمة العصر، التي استهدفت شعبهما وتاريخه وهويته، ولم يضعا رأسيهما بين الرؤوس، ولم يقولا يا قطاع الرؤوس، بل تمردا على الهزيمة، ووقفا كل من موقعه، ومن خلفيته، وشقا طريق الكفاح الوطني التحرري، وتمكن كل منهما بِشكلٍ منفرد بأداته، وبِشكلٍ مشترك من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد من إعادة الاعتبار للقضية الوطنية الفلسطينية، وأخرجاها من البعد الاسترقاقي، بعد كرت التموين والكوبون والمعونات الإنسانية المعزولة عن البعد السياسي، والهادف لسحق وتصفية القضية، ودفنها في سراديب وأنفاق الغرب الاستعماري ومشروعه الصهيوني الكولونيالي الوظيفي.

جمع بينهما تاريخ الولادة، حيث ولد الأول في الثاني من شهر آب/ أغسطس 1926، والثاني في الرابع من آب/ أغسطس 1929، حيث جمع بينهما عقد الولادة ذاته. الأول ولد في اللد الفلسطينية العربية، والثاني في قاهرة المعز، الأول من أتباع الديانة المسيحية، والثاني من أتباع الديانة الإسلامية، فجسدا من حيث لا يدريان، وعبر الصدفة الضرورة الوحدة الجامعة بين أبناء الشعب الفلسطيني. كما أنهما عمقا الانتماء القومي للقضية الوطنية، حيث كرس الثاني بولادته في القاهرة العاصمة المصرية، والأول عبر تشكيله تنظيمًا قوميًا تلك العلاقة عميقة الجذور.

زعيمان اختلفا في الانتماء الفكري، وفي التجربة السياسية وإدارة الصراع مع العدو الصهيوني وقوى معسكر الأعداء جميعًا، لكنهما كملا بعضهما البعض، وأعطيا القضية الوطنية عظمتها، ووضعاها فوق خارطة العالم، وفرضا وجودها عبر الكفاح المسلح، وانتزعا انتزاعًا من العالم اعترافًا واضحًا وصريحًا بالقضية الفلسطينية، وشكلا بتعميق تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة وظاهرتها العلنية في دول الطوق العربية وفي داخل فلسطين التاريخية رأس حربة الكفاح الوطني التحرري في فلسطين والوطن العربي.

رجلان من طراز رفيع، كل منهما له خاصيته وملامحه، لكنهما تعامدا في مدرسة الكفاح البطولية، وتكاملا، وتعاضدا، رغم التنافس بينهما، وبين فصيليهما، الذي لم يحل للحظة من لحظات تاريخهما تكافلهما الرفاقي والأخوي لحماية حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، ورفع راية فلسطين عالية خفاقة.

ورغم أن الأول ولد قبل الثاني، وشق طريق التنظيم والكفاح قبل رفيق الدرب، إلا أنه أقر لرفيقه بالزعامة برضى خاطر، لأن الثاني تمكن بفروسيته وعبقريته التكتيكية من تكريس مكانته، ومكانة حركته على رأس الحركة الوطنية الفلسطينية عبر إطلاقه الرصاصة الأولى في العام 1965 والإعلان عنها. مع أن الأول أطلق الطلقة الأولى في العام 1964 لكنه لم يعلن عنها، ما أعطى الزعيم المؤسس للثورة الفلسطينية المعاصرة سبق المبادرة، وامتلاك ناصية وراية القيادة، والتي كرسها مع حركته بالمشاركة في معركة الكرامة في آذار/ مارس 1968. فضلًا عن تمكنه ورفاقه في قيادة حركة التحرير الوطتني الفلسطيني فتح من تولي زمام الأمور والقيادة في منظمة التحرير الفلسطينية. مع أن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر عرضها على زعيم ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكنه رفض.

جورج حبش، مؤسس حركة القوميين العرب، وياسر عرفات، مؤسس حركة فتح، وزعيم الشعب الفلسطيني، ورمز كفاحه التحرري، اللذان رحلا: الأول في 26 كانون الثاني/يناير عام 2008، والثاني في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004، كانا وما زالا وسيبقيان خالدين في سجل الكفاح البطولي العظيم للشعب الفلسطيني، وعناوين لا يمحوها الزمن، ولا بحلول غيرهما من القيادات، لأن ما صنعاه، وحققاه من إنجازات، رغم كل ما شهده ويشهده المشروع الوطني التحرري من أزمات عميقة لا ولن يحول دون بقائهما وتبوءهما المكانة الريادية الأولى في الثورة الفلسطينية المعاصرة.

في ذكرى ولادتهما لا يملك المرء إلا أن ينحني إجلالًا وإكرامًا لمكانتهما البطولية الخالدة، ولرمزيتهما المتفاوتة بشكل نسبي ولصالح الرمز الختيار أبو عمار، كانا عظيمين، ولم يموتا أبدا، ولن يموتا أبدا، لأن مورثهما الفكري والسياسي وتجربتهما الفذة كرسا حضورهما في أنصع وأهم صفحات التاريخ الفلسطيني المعاصر. كل التحية والمجد والسلام لروحيهما الخالدتين.