لدى كل شعب في الدنيا قاموس خاص دونت فيه أسماء بماء الذهب، وتركت فيه صفحات بيضاء بلا حدود، لتخط فيها أسماء علم لا يعلم أحد من سيحظى بهذا الشرف، لكن المدرك لمعنى الانتماء للإنسانية والوطن، مالك القدرة على التميز بالعطاء والتضحية والافتداء هو الذي يحجز مسبقًا في ذاكرة الشعب تذكرة الوصول إلى صفحات كتاب العظماء (القاموس). 

خط الدكتور المناضل صائب عريقات الحروف الأولى من اسمه في قاموس قادة فلسطين العظماء قبل حوالي ربع قرن من الآن، وترك بقية المهمة كأمانة لدى ذاكرة الشعب الفلسطيني عمومًا، وذاكرة الذين ناضلوا إلى جانبه وكافحوا، والذين رافقوه في مسيرة أقل ما يقال فيها إنها كانت في حقول الغام، كان انفجارها كفيلاً ليس بتشظية أسمائهم وحسب بل بتدمير ركائز استناد القضية الفلسطينية. 

صائب عريقات المناضل القائد الوطني الانسان مع أسماء كثيرة حظيت بهذا الشرف، نظم منهجًا سياسيًا متميزًا لمدرسة الكفاح الوطني الفلسطينية، كان معلمًا ملهمًا، وكان كالمنارة في زمن هيمنة الظلم والظلام الصهيوني العنصري. 

صائب عريقات الذي كانت فلسطين كنبض قلبه، كأكسجين الدماء في شرايين دماغه، كانت آخر كلماته كما سمعها منه عزام الأحمد عضو مركزية فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير: "أوصيكم بفلسطين"، عاش من أجل شعبها العظيم، من أجل تحرير العدالة الانسانية والقانون الدولي من مغتصبهما الصهيوني والمتمرد عليهما منظومة الاحتلال الاستعمارية  العنصرية المسماة (إسرائيل). 

سار عريقات برؤية ثاقبة بشجاعة نادرة وخاض معارك المفاوضات بإيمان وعقل غني بالمعرفة والعلوم والمنطق مهتديا بمبادئ حركة التحرر الوطنية الفلسطينية متسلحًا بإرادة الشعب الفلسطيني وتجاربه الكفاحية النضالية وبقدراته اللا محدودة على الصمود والمواجهة، كان مؤمنًا بانتمائه لوطن الأحرار في زمن استسهل البعض العبودية والخضوع والذل كأسلوب حياة. 

كان صائب عريقات رمزًا لرجل الدولة، واعتقد أن بحثًا أو دراسة ما ستخلص إلى أنه كان ممن يستحقون سمة رجل الدولة في العالم، فهيبة الروح والعلم والمنطق المتسلسل المتماسك، والقدرة على فكفكة شيفرات الصراع الفلسطيني- الصهيوني، ومتابعة مسارات جذور القضية وتفرعاتها، وتحديد محطات الانتصارات والانتكاسات وتعليل أسبابهما، وأخذ الحكمة واستخلاص العبر، ورسم خطط الهجوم السياسي الدبلوماسي القانوني وكذلك تعزيز خطوط الدفاع على هذه الجبهات ما كان لشخص واحد أن تجتمع فيه كل هذه القدرات ما لم يكن صائب عريقات.. المنطلق من اول مدينة مأهولة في الدنيا (أريحا) رئة القدس، والمسافر دائمًا نحو منابر العدالة الانسانية كرسول لقضية لا أحق منها ولا أعدل. 

ترك لنا صائب عريقات ثروة لا تقدر بثمن، ترك لنا كتبه التي ألفها باليقين قبل تأليفها بالأبجدية، وترك لنا تجاربه وخبرته التي اذا حفظناها وضمنا لها الأمان ومضينا على خلاصاتها، نطورها إلى سلاح فاعل في زمن الصراع السياسي (المفاوضات) وزمن المقاومة الشعبية السلمية، والقانونية والدبلوماسية التي حرص صائب عريقات على أن تكون مادته الأولى عند كل مخاطبة لعقول ووجدان المستمعين اليه، فلغته وجروح المفردات التي يستخدمها لطرح الموقف الفلسطيني لا تتغير سواء كان في اجتماع تنظيمي، أو لقاء دبلوماسي سياسي قيادي أو إعلامي، وأستطيع القول بكل يقين إني شاهد على عصر عريقات، ومنطق الثائر الذي أبدع في اقناعنا بأن كل مسارات حياتنا التي نتمناها تقتضي منا التهيؤ والاستعداد بسلاح الثقة والحق الطبيعي والقانون، والشرعية لمفاوضة نقيضها. 

كتب الدكتور صائب عريقات في مقدمة كتابه الحياة مفاوضات: "المفاوضات علم يقوم على تداخل العلوم، ففي حدوده تعيش السياسة والعلوم الطبيعية والاكتشافات العلمية والموارد الطبيعية والاقتصاد والأديان والقيم والأعراف وصناعة القرار وعلم النفس" وأضاف: "هي طريقة لاستثمار الصمود والتضحيات والبطولات والوفاء لها وترجمتها الى حقائق على الأرض، تبنى من خلالها المؤسسات وترسى على نتائجها أسس الشفافية والحكم والمصالح". 

صائب عريقات إسم خلده الشعب الفلسطيني في قاموس (عظماء فلسطين) فعمله هدي وكفاحه مدرسة الأوفياء تلاميذها، سيعيش في قلوبنا وذاكرتنا ويراه الناس في وطننا بسلوكنا ووفائنا.