لعل من بين أهم ما علينا أن نعالج اليوم، هو كثرة الفتاوى الصحفية والإعلامية، التي كثيرها على صفحات التواصل الاجتماعي، لكيفية مجابهة التطبيع، فثمة من يريد أن يعود بالتاريخ إلى الوراء، مستذكرًا بنوستالجيا ساخنة أيام الكفاح المسلح، مغيبًٍا تحولات الواقع، وتبدلات موازين القوى، ومنظومات القيم والمفاهيم السياسية، وحتى الأخلاقية، التي استبدلت الحلال بالحرام في أسواق العولمة المتوحشة!! وآخر يدعو لقطيعة مع الأمة العربية، وجامعتها كأننا أمة بحد ذاتها!! ونحن لا نزال نرتب شؤون وحدتنا الوطنية، أن تكون بأفضل حال!! وثالث لا يرى من كأس الماء سوى نصفه الفارغ، فيولول بكلمات اليأس والإحباط، ولا يرى سبيلاً للنجاة بغير كثرة الصلاة والدعاء!!!

وبالطبع نحن نؤمن إيمانًا قاطعًا أن الأمر في الوجود كله، هو لله من قبل، ومن بعد، لكننا نعرف أن الدعاء بلا موقف ولا عمل لا قيمة له، وفي الكتاب العزيز" فإذا عزمت فتوكل"، والعزم هنا دلالة الموقف للشروع في العمل، فمحض الدعاء عجز وكسل، ونستشهد هنا بما قاله الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لذلك البدوي الذي كان يدعو الله أن يشفي ناقته من داء الجرب "هلا جعلت مع الدعاء شيئاً من القطران؟" والقطران دواء عرفته العرب لعلاج الجرب، وهنا تحكمنا الأمثولة، فنرى التطبيع جربا في السياسة حين تخاذلها، ومساوماتها الرخيصة، وتآمرها على أهلها!! ولا سبيل لشفائها من هذا الجرب بغير قطران الغضب الشعبي، إن صح التشبيه، وإن أصابت الأمثولة.

والغضب الشعبي بتجلياته المشروعة، هو غضب العافية، لمجابهة المرض، وغضب الحق لمجابهة الباطل، ولا غضب يندلع إذا ما هيمن خطاب اليأس والإحباط، على منصات الكلام، ولأن الكلمة مسؤولية فلا ينبغي أن تكون باعثة للإحباط، لأنها حينها قد تكون مريبة في نواياها!!!

لا يستهدف هذا الكلام تغييبًا للنقد الموضوعي، فهذا النقد يظل ضروريًا لتصويب مسيرة النضال الوطني بصفة عامة، وأكثر من ذلك يظل اليوم لمجابهة التطبيع المذل، بالغ الأهمية لتفعيل أفضل السبل في هذا الإطار، وما نراه صائبًا أن النقد الموضوعي سيظل نصًا للتشخيص والعلاج، لا نصا للرثاء والتحسر، ولن يكون قطعًا وثيقة وفاة وترحم!! ومن هذا النص الآن نبذ كل كلام لليأس، وكذلك نبذ كل كلام لنكران الواقع الصعب الذي نعيش، فلا بد أن نعرف على أيّة أرضية نقف اليوم، وأيّة مصاعب نواجه، وأية أخطاء ما زالت ترتكب، وأي سلوك ما زال لا يستقيم مع متطلبات المواجهة الفاعلة للمخاطر التي تهددنا!! نخطئ حين لا ننحاز لهذا النص في إطره المشروعة، نعني أطر الحوار الوطني والاجتماعي المسؤول .

 لن نكون كالمطبعين الذين أخطأوا حين ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه دون نقد وتفحص ومراجعة، حتى تطاولوا على المقدس الوطني الفلسطيني، والقومي العربي، وأخطأوا أكثر حين توهموا أننا الضعفاء في عالم اليوم، فقد نسي هؤلاء ولعلهم تناسوا، أن الخصيصة الأبرز التي ميزت وتميز الشعب الفلسطيني، قوته الأخلاقية، والمعنوية، وشجاعته التي سطرت ملاحم فريدة من نوعها، في منازلتها لأعتى قوة عنصرية في عالم اليوم، وما تراجعت يومًا، ولا هانت، ولا مالت نحو الرجاء الخائب، ولا نحو التسالم المذل. والحق أن المطبعين لم يخطئوا بحقنا فحسب، وإنما أخطأوا كذلك بحق أنفسهم، وشعوبهم، وهم يستجيرون من الرمضاء بالنار، هذا على افتراض أن هناك نارا أخطر من نار العدوان والاحتلال والعنصرية..!!

رحم الله الزعيم المصري مصطفى كامل باشا الذي قال "لا يأس مع الحياة، ولا معنى للحياة مع اليأس" ولعلنا نحن الفلسطينيين أكثر من يعرف هذه الحقيقة فنواصل حياتنا، رغم مختلف صعوباتها، بلا يأس، كي يظل لها معناها الحيوي، وهذا ما يجعلنا أبناء الحياة، والساعين إلى تنورها وتفتحها بالحق والعدل والحرية والكرامة والسلام، سلام فلسطين الذي لن يكون هناك سلام غيره.