عشية دخول العالم الألفية الثالثة من التاريخ الراهن حدث تطور في السياسة الاستراتيجية الأميركية تجاه مراكز الصراع في العالم، عنوانه الأساس "انتقال مركز النفوذ من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا" ارتباطًا بحدوث تحولات دراماتيكية في معادلات الصراع، وانعكاسًا لتغير أولويات المصالح الحيوية الأميركية في العالم، ولانتفاء الحاجة للنفط ومشتقاته. لا سيما أن الولايات المتحدة استنزفت طاقات العرب النفطية بأبخس الأثمان، وبات لديها مخزون استراتيجي هائل، بالإضافة لتوسيع عمليات البحث والتنقيب في النفط الصخري، وخلق بدائل عن البترول برمته.

وعلى أثر ذلك، خلص العديد من المفكرين والساسة إلى نتيجة مفادها: انكفاء وتراجع الحضور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، لصالح صعود مكانة إقليم جنوب شرق آسيا كأولوية في السياسة اليانكية. بيّد أن الخط البياني للسياسة الاستراتيجية للإدارات الأميركية منذ ولاية الرئيس الأسبق، بيل كلينتون 1992/2000 حتى الآن بقي محافظًا على استمرار الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، ولم يتراجع النفوذ والحضور الأميركي في الإقليم، وأبرز دليل الحربين اللتين خاضتهما إدارة بوش الابن ضد كل من أفغانستان 2001 والعراق 2003 بعد أحداث 11 ايلول / سبتمبر 2001، وما تلا ذلك من متابعة إدارة الرئيس باراك أوباما التأصيل لسياسة ومبدأ "الفوضى الخلاقة"، وتدمير وتمزيق الدولة الوطنية العربية (إفرازات اتفاقية سايكس بيكو 1916) لدويلات وهويات دينية وطائفية ومذهبية وإثنية مع ولوجها ما سمي "الربيع العربي" في نهاية 2010 ومطلع 2011، والتي ما زالت تعيش زلزالها شعوب الأمة العربية حتى الآن. وبالمناسبة كان هنري كيسنجر طرح هذا المبدأ في العام 1975 مع اشتعال نيران الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان/ ابريل 1975. وبالتالي الوجود الأميركي تضاعف حضوره في العالم العربي خصوصًا وفي الإقليم الشرق أوسطي عمومًا. غير أن ذلك لم يحل دون تكثيف الوجود الأميركي في بحر الصين، وما يشهده الصراع المحتدم بين القطبين الصيني والأميركي متعدد الأوجه والعناوين والمستويات يشير بوضح لذلك. بتعبير أوضح أن الولايات المتحدة باتت تعمل على خطين متوازيين، وعلى الجبهتين الشرق أوسطية، وجنوب شرق آسيا، وأعتقد أن الخبراء الأميركيين من خلال قراءتهم للعوامل الجيوبولتيكية بين الإقليمين، وتجاورهما، رأوا ضرورة عدم الفصل الميكانيكي بينهما على أرضية نظرية مفادها: أن تعزيز الوجود الأمني العسكري في الإقليمين يخدم عامل القوة الأميركي تجاه مجموع الأعداء، والنتيجة عدم جواز فرضية التناقض بين الإقليمين، لأن الوجود الأميركي في أي منهما يعزز دور ومكانة القوة الأميركية في كليهما، وفي العالم ككل.

وبالتركيز على إقليم الشرق الأوسط، والسياسة الأميركية التاريخية، وبالاتكاء على النظريات الجيو استراتيجية للولايات المتحدة، فإن الإدارات المتعاقبة وقبل نشوء إسرائيل الاستعمارية، كانت سياسة الولايات المتحدة تعمل بخطى حثيثة وبالتعاون مع الغرب الرأسمالي الأنجلو ساكسوني على إنشاء دولة المشروع الصهيوني لخدمة مصالح الغرب الكولونيالي لنهب ثروات الأمة اللعربية، وللاستفادة من السوق العربية والشرق أوسطية، وأيضا للاستثمار الأمثل من النفوذ العسكري الأمني في الإقليم في مواجهة الأقطاب الدولية الأخرى، خاصة أن الوطن العربي يجاور دول آسيا الوسطى وعمليًا الاتحاد السوفييتي سابقًا وروسيا الاتحادية راهنًا، وكذلك من الجانب الآخر على تماس مع الصين ودول جنوب شرق آسيا، إضافة لذلك، أن الغرب الاستعماري ما زال مسكونا بالحروب الصليبية والميثولوجيا الدينية والأساطير ذات الصلة بالصراع. ولهذا وجد الغرب في نشوء الدولة الوظيفية (إسرائيل) مصلحة استراتيجية، ومشروعها الصهيوني، هو أداة من أدواتها لتحقيق مجمل الأهداف، وجزء لا يتجزأ من معادلات الصراع الجيوبولتيكي في الإقليم.

وارتباطًا بما تقدم، ووقوفًا عند تصريح الرئيس دونالد ترامب، من أن الوجود الأميركي في الإقليم بهدف حماية إسرائيل، وليس من أجل النفط الآن، هو موقف صحيح، لكن بالمعنى التاريخي غير صحيح، لأن وجود إسرائيل كان من أجل نهب النفط والثروات العربية. وبالتالي إذا تحدثنا عن اللحظة الراهنة، فإن موقف ترامب ينسجم مع المصالح الحيوية للولايات المتحدة والغرب الرأسمالي عموما. وكل ما تفعله الإدارات وإن اختلفت في التفاصيل فيما بينها، لكن الثابت والناظم للسياسات الأميركية حتى اللحظة الراهنة هو حماية الوجود الإسرائيلي، وتمزيق وتفتيت دول وشعوب الأمة خدمة لهذا الهدف الاستعماري. وما يجري الآن من تطبيع مجاني، وفرضه بالعصا الغليظة على الدول العربية الخليجية، إنما يعكس البعدين الذاتي الآني لترامب، والبعد الاستراتيجي للغرب عمومًا، وليس لأميركا وحدها.