ساءني وساء الأغلبية تحول الأقلية للتعبيرات الفجّة عن الرفض والتنديد بما لا يتفقون معه، فيطال الرفض الموقف والذات والتاريخ وما يغتفر وما لا يغتفر.

حين نختلف مع بعضنا البعض، أفرادًا وجماعات ودول، فإن أول ما يلجأ له البعض الهادر هو حرق الصور أو الأعلام، أو تشويهها، كما حصل في مراحل مختلفة بالخلافات بين حركة "فتح" و"حماس".

ولما كنتُ من أوائل الرافضين لمثل هذه الممارسات الرمزية الفظّة، فإنني والعقلاء الكُثر كما أعتقد مازلنا عند حدود الرفض لمثل هذا التعامل مع الرموز التي نختلف معها.

في الحدث الأكبر الذي صدم الأمة العربية والإسلامية من زيارة السادات إلى القدس عام 1977 فصاعدًا، وما تلى ذلك من أحداث جارفة، ظهرت جلية نزعة حرق الصور والأعلام، والطعن في العروبة والثورية والنضالية لهذه البلد أو الشعب العربي أوذاك، وهي السياسة التي يقوم بها الغوغاء من القوم، وتلقى قبولاً من هذا الطرف السياسي المستفيد أو ذاك، ولكنها في المقابل تنسج حبالًا ضخمة حول أعناق فكرة الأمة أو الثقافة الواحدة، الرحبة المتسامحة التي تجد غوغاءها من المسوغات ما تستخدمه لتحارب به بعضها البعض.

الخلاف المفضي إلى الشِقاق والاحتراب والتفرقة، هو الخلاف الذي يُحَث عليه وتُقام له اللجان وفرِق العمل المتخصصة عند الإسرائيلي، وعند العقول الاستعمارية الامبريالية الغربية المهيمنة، والتي تظهر تجلياتها السخيفة واضحة على المقهى العالمي المسمى (فيسبوك) وأشباهه.

الحلف الصهيوني العنصري الذي لا يبغي إلا افتراش أرض العرب من المحيط إلى الخليج، هو الذي ينظر للعرب بفرح غامر، ماداموا متفتتين مجزئين، ويُحقن في جسدهم كُره أنفسهم، كُره العرب والعربية، وتكثيف عوامل الافتراق رغم عِظَم عوامل الاتفاق.

إن تكامل السياسة العدائية الإسرائيلية مع الفكر العنصري الغربي، وتنامي فكرة الشعوبية (الإقليمية) بين دول العرب، هي دعوة صريحة لحرق جثة الأمة بدلًا من استعادة صحتها وحيويتها، ودافعيتها للتقدم والإبداع، فتتحول إلى تكتل أو قوة إقليمية في العالم القديم على الأقل، في مواجهة تكتلات الغرب والشرق الكبيرة والمزدهرة.

إن من بدايات النزول من علياء الفكرة وفلسفة البناء والنقد والمركزية للقضية والتناقض الرئيسي ومنهج التوحيد هو تحقير الذات وتسفيه الأخ الآخر فينا، ليس فقط برأيه، وإنما بشخصه ورموزه، ما هو في قيم العرب غير قابل للغفران.

إنه بدلًا من أن يتم احتضان كل رموز الأمة وتقديمها جنبًا إلى جنب، تقوم القِلَة المحبطة (في مواجهة القلّة المنتشية بفعلتها) وعن عمد بطعنها وحرق أعلامها، وهي أعلامنا، وكأننا نقدم ذلك في حقيقة الأمر هدية للصهاينة.

نعم إن هناك أشخاص أو مواقف لأشخاص ممن يمكن أن تطلق عليهم اسم المهرولين أوالمتبّعين أوالمتحالفين مع الأعداء، أو المتصهينيين (والصهينة قناعة وإيمان قاطع كما حال الرئيس الامريكي وبعض فُسّاق العرب من اللواكع)، ولكن هذه القلّة-وسعينا أن يظلّوا قِلّة- التي تسير في دروب الظلم والاستبداد واستغلال القوة والسلطة وربما الإعلام وعقول الغافلين لا يجب أن ننصاع لها.

علينا الإمساك بجمرة الحرية والديمقراطية والمدنية الوسطية الجامعة، وتوسيع مساحات الاتفاق وتضييق الخناق حول الآراء المخالفة والمواقف المنحرفة.

علينا مقاومة الظلم والاستبداد والتناقض الرئيس، والتماسك حول إيماننا ومسعانا لتحقيق التآلف القومي والعروبي والديني المتسامح بين كل شعوب الأمة العربية عربًا وكوردًا وأمازيغًا ومسلمين ومسيحيين وكل الطوائف التي تواجدت معًا في هذه البقعة الجغرافية الحضارية المباركة، في حالات من الصعود والهبوط، وفي كليهما حافظت على ثقافة فيها ما فيها، ومازالت تجمعنا باللسان والدين والإرث المشترك والمستقبل الواعد.

أن تختلف مع شخص لا يعني أن تمس ذاته، وإنما أن تتعرض لفكرته أو رأيه أوموقفه بالنقد العلمي الموضوعي، فنقد الموقف هو المقصد وليس شتم الشخوص بذواتها، فالأول قابل للتفهم بموضوعيته، وفي المقابل قابل للتغيير، والثاني لا يُقبل ولو حلف صاحبه ألف يمين أنه يقصد كل الخير.

أن تنفصل الأمة عن ذاتها يبدأ بالترويج المقصود لاحتقار الانتماء لها، لثوبها المعطّر بالمسك، وكأن الحضارة الجامعة بمكوناتها المتسامحة التي ذكرناها قابلة للنزع ما هو مستحيل إلا لمن طاب له العيش تحت مظلة الانبهار بالغرب أو التنعم باستهلاكية الاذلال التي لا تقيم وزنًا للعلم والصناعة والزراعة ومنابع القوة البشرية الذاتية فينا.