لم تكن إلّا "رسالة" بعثها وزير خارجية بريطانيا أرثر بلفور عام 1917 الى أحد زعماء اليهود في بريطانيا اللورد روتشيلد منح بموجبها وطنًا قوميًا لليهود على الأراضي الفلسطينية، لم تجلب تلك الرسالة سوى الصراعات والحروب في المنطقة، لم ينعم الفلسطينيون بالسلام ولم تحقق إسرائيل حلم دولتها الآمنة والمستقرة على كامل الأراضي الفلسطينية بعد أكثر من مئة عام.

 

وإن ما بني على باطل فهو باطل، وما غاب عنه الفلسطينيون في صفقات مصيرية سرقت وطنهم على مراحل لن يأخذ شرعيته بمرور الزمن، وإلا فما جدوى وعود ترامب اليوم لو أن وعد بلفور كان يتمتع بالشرعية التي تكفيه للاجهاز على فلسطين وحقوق أهلها كاملة.. فإنَّ سرقة القرن الأخيرة التي وضعتها إدارة ترامب لم تأتِ إلّا في سياق تدعيم المشروع الاستعماري الأول والهش على الأراضي الفلسطينية ومنح الجانب الإسرائيلي ما لم يتمكن من الاستيلاء عليه عبر التفاوض مع الفلسطينيين أو عبر مؤسسات المجتمع الدولي التي تجاوزها مرارًا وجهارًا".

 

بعد أكثر من مئة عام تنضم بريطانيا إلى مجموعة الدول الأوروبية المعترضة على سياسة ضم الأراضي الفلسطينية.

 

أكثر من 240 مشرعًا (بريطانيا) من بين ألف برلماني أوروبي يوقعون على وثيقة تشجب خطة الضم وتحذر إسرائيل من عواقبها ليأتي بعدها موقف رئيس وزرائها بوريس جونسون الذي اعتبر ان الضم سيشكل انتهاكًا للقانون الدولي، وأن المملكة المتحدة لن توافق على الخطة.

 

الموقف البريطاني أتى متجانسًا مع الموقف الألماني والبلجيكي والفرنسي ودول أوروبية عديدة لا شك أنها لعبت دورًا أساسيًا في كبح جماح نتنياهو في تنفيذ مخططه في الأول من يوليو إنما ظل ينقصها القرارات التنفيذية التي من شأنها فرض العقوبات على إسرائيل فيما لو شرعت بالضم.

 

وإن الأخيرة لبعيدة عن الشرعية الدولية وقراراتها، ففي كل حقبة لها بلفور يستكمل تطبيق مشاريعها الاستعمارية، لكن اليوم لا يمكن تجاهل مكانة دولة فلسطين على الساحة الدولية عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة والـ77 + الصين وعدد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية جعلت خطط العدو تواجه عالميًا ولو بشكل نسبي لكنه متقدم وآخرها الضم.

 

الخلاف داخل البيت الإسرائيلي ما بين مؤيد ومحذر على مصير إسرائيل وتريث ترامب الذي عبر عنه موقف صهره كوشنير الذي بدا الأكثر قلقًا من توقيت تنفيذ الخطة بالإضافة الى الموقف الأردني الأكثر تأثيرًا بالنسبة للاسرائيليين والأميركيين بحكم الحدود المشتركة التي قد تهدد زعزعتها الوجود الإسرائيلي وبالرغم من مناورة تل أبيب في الأيام الأخيرة بعدم ضم الاغوار فإن العاهل الاردني عبدالله بن الحسين لم يرض حتى بضم محدود لأراضي الضفة فكانت النتيجة واحدة.

 

كلها عوامل تسببت في تأخير بلورة القرار الاسرائيلي حول الضم الذي تابعنا سقوط سقفه من 30% الى مستوطنة أو اثنتين بالقرب من القدس، وهو التراجع الذي لم نكن لنشهده بشكل أساسي لولا الموقف الفلسطيني الرافض والجامع لأي ضم كلي أو جزئي تحت أي ظرف أو شرط والذي واكبته المواقف الدولية المتعددة التي لم يعد بامكان الجانب الاسرائيلي القفز فوقها بسهولة.

 

وأمام الغموض الذي ما زال يلف خطط الضم التي وحسبما كان متوقعا، لم تنفذ في تاريخها المعلن، يحاول نتنياهو عدم اسقاط وعوده أمام جمهور الضم في إسرائيل معلنًا نيته في التنفيذ خلال أوقات قادمة، في وقت الكل مدرك أن هواجس نتنياهو تتركز حول تفرده برئاسة الوزراء وتفلته من حسابات الفساد والرشاوى، فبالأمس هدد بانتخابات جديدة فقط لأن شريكه في الحكومة بني غانتس (وزير الجيش) طالب بمنح وزارة الجيش مسؤولية أكبر بشأن الاستجابة لجائحة كورونا التي تتفشى بشكل كبير في اسرائيل.

 

نتنياهو الذي يبدو دائمًا متحمسًا لمشاريعه، يستخدم وعدًا "جديدًا" (وعد ترامب) مكملاً "لوعد بلفور"، لكن جرائم تزوير التاريخ لا يصح أن تكون حبل خلاص لفرد أو مجموعة، وبالتالي مصالحه لو جنحت مجددًا في تخطيها للشرعية والمحاذير الدولية، فعلى الأرجح هذه المرة أن حسابات الحقل لن تتطابق مع حسابات البيدر، ولن تعدو فرص السلام الأخيرة ان تكون جنازة العصر والدولة اليهودية على رأس الحاضرين فيها.. وإن كان الاحتلال ما زال يمعن على أرض الواقع في هجمته الاستيطانية والاستيلاء على مئات الدونمات الزراعية التي تعود للفلسطينيين فإن السرقة تبقى السرقة التي لا تنتزع بمرور الزمن شرعيتها.