في فلسفة التحالفات السياسية الطبقية الاجتماعية والوطنية القومية الكثير من المعايير والمحددات والمستويات للتشبيك والتعاون بين القوى السياسية محليًا وعربيًا ودوليًا، وفق طبيعة ومركبات الصراع في هذا البلد أو ذاك. ولا يمكن إقامة وبناء التحالفات مع هذه القوة أو تلك استنادًا إلى التطابق الكامل على كل الأسس والنقاط البرنامجية، لأن هذا وفق منطق ومعادلات تركيبة القوى والأحزاب والمنظمات والدول غير ممكن، لأن لكل منها خلفيته ورؤيته الفكرية والعقائدية السياسية. ومن يعود لتجارب الجبهات الوطنية، منظمة التحرير نموذجًا، يرى بأم عينه، أن التوافق نسبي، وعلى أرضية برنامج القواسم المشتركة وهي الخطوط العريضة الجامعة للكل الوطني.

 

لكن نموذج المنظمة والجبهات الوطنية عمومًا في تجارب حركات التحرر الوطني، ليس النموذج الوحيد المعمول به، لأن هناك قوى في ساحات ودول وشعوب العالم المختلفة تقيم تحالفات آنية ومؤقتة، وتوافقية ومنظورة المدى، وليست تحالفات عميقة وإستراتيجية، وتتقدم كل القوى باتجاه بعضها البعض بمقدار التقارب، والاتفاق على أيّة قواسم مشتركة. بتعبير أوضح، يمكن الاتفاق بين قوتين أو أكثر على خطوة واحدة في انتخابات بلدية او برلمانية، أو بهدف تشكيل ائتلافات حكومية، أو لمواجهة تحد أو خطر ما، أو للتعاون لهزيمة خصم سياسي أو طبقي أو نقابي، ويمكن الاتفاق على أكثر من خطوة. وهذا ما أكد عليه لينين، الزعيم الشيوعي العالمي في كتابه "خطوة للأمام، خطوتان للوراء"، وكل قادة النضال الاجتماعي والتحرري الوطني في العالم عمقوا بتجاربهم الإبداعية إقامة وبناء تحالفات تكتيكية، فضلاً عن التحالفات الإستراتيجية العميقة.

 

وعودة للواقع الفلسطيني، وتعميقًا لقراءة تجربة التقارب الجديدة بين حركتي فتح وحماس، التي دُشنت يوم الأربعاء الموافق الأول من تموز / يوليو الحالي (2020) وتمخضت عن المؤتمر الصحفي المشترك لكل من الأخوين جبريل الرجوب، أمين سر حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، وصالح العاروري، نائب رئيس حركة حماس، وأكدا فيه، على ضرورة وضع إستراتيجية كفاح ميداني مشترك لمواجهة التحديات المنتصبة أمام الشعب العربي الفلسطيني، التي تهدد مصيره ومستقبله السياسي والهوياتي، وهي صفقة القرن الترامبية المشؤومة، وعنوانها المفصلي عملية الضم للإغوار الفلسطينية، التي تصل مساحتها لما يزيد عن الـ30% من الضفة الفلسطينية، والتي تقوض كل أفق لعملية السلام، وتنسف خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، وتأخذ الساحتين والمنطقة عمومًا نحو شفا الهاوية، وتهدد السلم والأمن الإقليميين.

 

الخطوة التحالفية الجديدة من حيث المبدأ، تعتبر خطوة هامة وإيجابية وضرورية في آن. وأعتقد جازمًا، أن الشعب العربي الفلسطيني انتظرها بفارغ الصبر منذ زمن بعيد، ولكن في السنوات الأخيرة زادت الرغبة في تحقيق خطوة للأمام لكسر الجمود في عملية المصالحة، وطي صفحة الانقلاب على الشرعية وخاصة بعد إعلان الرئيس دونالد ترامب، عن صفقة العار مع اعترافه بالقدس عاصمة للدولة الإسرائيلية في السادس من كانون الاول/ ديسمبر 2017، ومن ثم أسقط الملفات الأساسية واحدا تلو الآخر: اللاجئين، الحدود، الأمن، المستعمرات، الثروات الطبيعية وأسرى الحرية.

 

نعم سجل المؤتمر الصحفي للرجلين نقطة تحول إيجابي نسبيًا. ورغم كل المحاذير، والهواجس الخاصة والعامة. لكن على الجميع الدفع بقوة بالخطوة، والعمل على المراكمة عليها، وتطويرها كلما أمكن ذلك. لأنها تحمل في طياتها نقاطًا هامة لمصلحة الشعب والقضية والأهداف الوطنية، منها أولاً وقف حالة التجاذب والتنافر والاستقطاب السلبية المعززة للفرقة وتعميق الانقسام، وخيار الانقلاب بين أقطاب الحركة السياسية الفلسطينية؛ ثانيًا التوافق على الشراكة الميدانية لمواجهة خطة الضم وصفقة القرن، والوجود الاستعماري في الأرض الفلسطينية من جذوره في كل الساحات والميادين؛ ثالثًا العمل على وضع خطة برنامجية ميدانية انتقالية لتطوير الشراكة الكفاحية ضد المخططات والمشاريع الصهيو أميركية؛ رابعًا تعزيز جهود القيادة الشرعية السياسية والدبلوماسية في المحافل العربية والإقليمية والدولية، وقطع الطريق على أية قوى مشككة بوحدانية التمثيل الفلسطيني؛ خامسًا إرسال رسالة للأشقاء العرب والدول الإسلامية ولدول وأقطاب العالم، ولأنصار السلام حيثما كانوا، أن الشعب العربي الفلسطيني وقواه السياسية ونخبه يقفون صفًا واحدا، وفي خندق المجابهة المشتركة للمشروع الصهيو أميركي، وتحت راية فلسطين الواحدة والموحدة، العلم الفلسطيني؛ سادسًا أربك المؤتمر دولة الاستعمار الإسرائيلية وقيادتها الفاشية ومن يقف معهم وخلفهم كإدارة ترامب ومن والاهم من دول الإقليم الكبير؛ سابعًا تم الاتفاق على الشراكة الميدانية بعيدا عن الأضواء، وبعيدا عن الوساطات العربية وغير العربية، وهو ما يشير ويؤكد أن إمكانية بناء أُسس الوحدة قائمة إذا صدقت النوايا والرغبة الحقيقية، وتوطن الجميع في المشروع الوطني.

 

إذًا خطوة التقارب بين الحركتين فتح وحماس، خطوة إيجابية، تأخرت كثيرًا، لكنها تمت، وهي خطوة مطلوب قراءتها كما هي دون مبالغة أو تطير، والعمل على تطويرها لبلوغ تجسيد الوحدة الوطنية الكاملة، وطي صفحة الانقلاب، وعودة محافظات الجنوب لحاضنة الشرعية من خلال انضمام حركتي حماس والجهاد لمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد وعلى أرضية البرنامج المشترك، وفي الأثناء يمكن إجراء انتخابات برلمانية، وتطوير القواسم المشتركة. والمستقبل وحده كفيل بالرد على قدرة الطرفين على تعميق الشراكة من عدمها.