مضت تسعة أيام على عملية قتل المواطن الأميركي جورج فلويد الأسود على يد ضابط شرطي أبيض، شهدت فيها عشرات المدن ثورة غضب شعبية كردة فعل على الجريمة العنصرية النكراء، وحتى أمس تم اعتقال قرابة عشرة آلاف مواطن أميركي في العديد من الولايات، فضلاً عن شلل الحياة بكل مناحيها، وحدوث ردود فعل سلبية من القيادات والنخب السياسية والإعلامية والدينية على الآليات والسياسات، التي انتهجها الرئيس دونالد ترامب في معالجة الأزمة الجارية على الأرض، وانعكس الأمر في استطلاعات الرأي الأميركية إلى تراجع شعبية الرئيس دونالد ترامب حتى أوساط في البيض عمومًا والأنجليكان خصوصًا.

ومع إسقاط المتظاهرين تمثال جورج وشنطن، رمز أميركا، وهي المرة الأولى، التي تحدث فيها هذه العملية، تكون جريمة القتل الوحشية لجورج فلويد خرجت عن السيطرة، ودفعت الولايات المتحدة إلى متاهة جديدة، من السابق لأوانه الجزم بما ستكون عليه صورة أميركا في المستقبل المنظور. إلا أن من المؤكد أنها عمقت أزمة النظام الرأسمالي النيوليبرالي، ووضعته وجها لوجه في مواجهة التحديات غير المسبوقة في التاريخ الأميركي. وبالتالي الأزمة لا تقتصر على جائحة كورونا، ولا على الأزمة الكارثية عام 2008، إنما هي الامتداد الأعمق لكل ما تقدم، وما قبلها من أزمات، حيث ضاعفت من التناقضات التناحرية الاجتماعية، وأطلقت المارد الشعبي الأميركي من القمقم الذي اعتقل فيه عقود طويلة من الزمن، إنما هي أبعد وأعمق من ذلك، وتطال بنية ومركبات النظام الأميركي برمته، ولعل ما أشار إليه الرئيس باراك أوباما في مقال نشره قبل يومين، استخلص فيه نتيجة علمية تقول: إن الأحداث الجارية في الولايات المتحدة تدفع الأمور نحو تغيير بنية النظام الأميركي، وليست الأزمة أزمة انتخابات رئيس بديل لترامب، وإن كان الرئيس الحالي بسياساته الحمقاء، وأقصويته العنصرية، وأكاذيبه، وعدم رجاحة عقله في إدارة الأزمات ساهم في فتح كل الجروح التي لم تندمل خلال تلك العقود.

ومع أن العنصرية كانت ومازالت أحد أبرز عناوين الصراع داخل المجتمع الأميركي، رغم إلغاء التمييز العنصري في أواسط ستينيات القرن الماضي، بيّد أنه لم يقض عليها، بل بقيت متجذرة في الوعي الجمعي الأميركي، وما مواصلة عمليات القتل والخنق والتجويع وارتفاع منسوبها بين أبناء الشعب الأميركي من العرق الأسود إلا شاهد على ذلك. وغطت تلك العمليات العنصرية على الصراع الاجتماعي الطبقي الشامل، الذي فجرته ثورة الأول من أيار 1886 في شيكاغو الأميركية وتورنتو الكندية، مع أن الوجه الآخر للعنصرية الأميركية يحمل في طياته صراعًا طبقيًا ضد العمال والفقراء والمسحوقين والطبقة البرجوازية الصغيرة أو ما يطلق عليها الطبقة الوسطى، التي تعاني من الجوع والفاقة والديون المتراكمة.

إذاً ما يجري الآن من مظاهرات واحتجاجات شعبية في المدن الأميركية المنتفضة ضد الإدارة الحاكمة لم يعد محصورًا في البعد العنصري، إنما بات يطال جوانب الحياة كلها، ولم يتوقف الأمر عند اعتقال ومحاكمة الضابط الأميركي ومن معه، الذين قتلوا فلويد، بل ارتفعت الأصوات لتطالب بإسقاط الرئيس، وبالعدالة الاجتماعية بعد ان ألقت البطالة في زمن الكورونا ما يزيد عن 30 مليون أميركي على قارعة طريق العاطلين عن العمل؛ ورفعت شعارات تتعلق بتلقيص الفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء المسحوقين، بين الغالبية العظمى والطغم المالية، الذين تجاوزت ثروات عدد منهم عدد أصابع اليد الواحدة ما يعادل دخل أكثر من 50% من جموع الشعب الأميركي؛ وكذلك المطالبة بإلغاء السياسات الطبية التي انتهجها الرئيس الأفنجليكاني، التي فاقمت من حرمان عشرات الملايين من الأميركيين من الرعاية الطبية؛ وحتى تريليونات الدولارات التي رصدتها الإدارة الأفنجليكانية لمواجهة الكورونا ذهب جلها لأصحاب رؤوس الأموال والأغنياء عمومًا، ولم ينل منها الفقراء والمسحوقون سوى النذر اليسير، ما فاقم من معاناتهم وقهرهم؛ وهناك أزمة القضاء، وتفشي ظاهرة الفساد في أوساطه، واستخدام القضاة الفسدة لتنفيذ سياسات رجال الطغم المالية وعلى كل الصعد والمستويات؛ وزادت المديونية الداخلية والخارجية الأميركية حتى قاربت الـ 30 تريليون دولار، وهي المديونية الأعلى في العالم.  

إذا لو نظر المراقب للوحة الأميركية الماثلة الآن أمام العيون، لوجد أن كل المنظومة الأميركية السياسية والاجتماعية والاقتصادية/ المالية والقانونية والتربوية/ الثقافية والبيئية والصحية تعاني من زلزال عميق، وهو ما يعني إحداث إرهاصات شديدة القوة لإحداث التغييرات النوعية في بنية المجتمع الأميركي. قد لا تظهر التحولات خلال الأيام والشهور المقبلة، ولكنها تؤصل للتحولات القادمة، وكلما تراجعت مكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي، كلما زادت وتوسعت عزلتها، ولهذا عميق الصلة بعمق الأزمة العضوية في الداخل الأميركي. المستقبل الأميركي حالك، ومن الصعب استشراف آفاقه، لكنه يحمل في طياته كل السيناريوهات.