شهدت الأسابيع والأيام القليلة الماضية قراءات لعدد من الخبراء والباحثين في علم الفكر السياسي حول تداعيات فيروس كورونا على مستقبل العالم. وطرح الغالبية منهم فكرة أنّ هيكلية العالم ستتغير في أعقاب غروب وباء فيروس "كوفيد 19"، لأن تجربة الأقطاب والدول في مواجهة تحديات الجائحة القومية والأممية، دفعتها لإعادة قراءة خارطة علاقاتها ببعضها البعض.
وحسب الاستنتاج فإنّ النظام العالمي مقبل على تحولات استراتيجية في انتقال مركز القيادة العالمي من الولايات المتحدة للصين، وتفكك منظومة الاتحاد الأوروبي، وتعظيم نموذج النظام الصيني، وتراجع مكانة الديمقراطية الغربية لفشلها في السيطرة على الوباء، وسيعاد النظر في سياسة الانفتاح بين الدول، ووضع ضوابط مختلفة لها، وفي الوقت ذاته ستتسع منظومة التعاضد الإنساني، وإيلاء المعايير الصحية أولوية لحماية الإنسان من كوارث الأوبئة، بعد فشل مساقات وروافد العمل السابقة، حيث تبيّن أنّ التركيز على إنتاج الأسلحة، لا يكفي لمواجهة التحديات، لا بل إنّ العديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية ومعها دولة الاستعمار الإسرائيلية أثبتت فشلها في تأمين ابسط المستلزمات الطبية لحماية الناس، وبالتالي لا بد من تغيير الأولويات... إلخ.
واعتبر هؤلاء الباحثون أزمة كورونا أخطر من أزمة الاقتصاد الأميركي والعالمي الكارثية في الربع الأخير من عام 2008، لا بل اعتبرها البعض أخطر أزمة تواجه البشرية في القرن الحالي. ولهذه الأزمة ما بعدها أسوة بكل الأزمات العالمية.
ومن موقع التقدير لأصحاب وجهات النظر المطروحة، ومع أن بعض استنتاجاتهم صحيحة من حيث المبدأ، غير أن نقطة الانطلاق في تشخيص الأزمة العالمية الراهنة (أزمة فيروس "كوفيد 19"، أو حتى فيروس "هانتا" الذي أعلن عن اكتشافه امس في الصين) لا يجوز الافتراض أنها بدأت نهاية عام 2019 مع اكتشاف الوباء في ووهان الصينية، بل هي محطة جديدة في مسار أزمة الكون، التي بدأت مع الأزمة الكارثية الأميركية نهاية 2008، التي وضعت حدا للعولمة الأميركية، وأسقطت تفردها بقيادة الكون، وسمحت للبشرية بالولوج التدريجي لمرحلة نوعية جديدة في هيكلة العالم، تمثلت في تبلور نظام متعدد الأقطاب على حساب تراجع المكانة الأميركية الأولى. وبالتالي العالم بعد اثني عشر عاما، ومع وصوله لازمة الوباء العالمي "كوفيد 19" الحالية ضاعف من عملية الانزياح الأميركي عن سدة عرش العالم، وزاد من الحضور الصيني في مقدمة الصفوف العالمية، كمنافس أول لراعي البقر الأميركي من خلال نجاحه اللافت للنظر في مواجهة الجائحة العالمية، التي استهدفته أولا- ليس هذا فحسب، بل وبادر التنين الصيني وهو في مرحلة التعافي من مد يد العون للعديد من الدول دون تمييز، في الوقت الذي انكفأت الدول والأقطاب الأخرى على ذاتها، مما وجه ضربة موجعة للولايات المتحدة ولدول الاتحاد الأوروبي، التي سقطت في اختبار مواجهة الوباء. وعليه فهذا العامل سيساهم في إعادة النظر في بقاء الاتحاد كمنظومة واحدة، لأنه فشل في الدفاع عن الكل الأوروبي مع انطواء الدول على ذاتها.
رغم هذا التحول المهم والكيفي في هيكلة العالم، إلا انه من المبكر الحديث عن بلوغ المنظومة العالمية من بناء صرحها النهائي. لان النسر الأميركي لن يسلم بسهولة في رفع راية الاستسلام للتنين الصيني. وهو ما يعني، أنّ البشرية مقبلة على محطة عالمية جديدة إما أن تكون عبر المواجهة بحروب جديدة من خلال إنتاج نماذج إضافية من الفيروسات، أو الذهاب إلى حرب عسكرية نووية، أو العودة إلى الحرب الاقتصادية، التي أعتقد أنّ الأخيرة فشلت، وتمكنت الصين من هزيمتها.
إذًا التسرع في الاستنتاجات، واعتبارا أن المحطة الفاصلة، ونقطة الذروة في الصراع بين أميركا والصين، هي وباء الكورونا، أو ما يسميه البعض غاز السارين يعاني من قصور علمي وفكري. لان تجارب التاريخ السابقة تشير إلى أنّ الإمبراطوريات في الحقب التاريخية المختلفة لا تقبل الهزيمة من أول وثاني جولة، فإنّ لم تكسر شوكتها، ويمرغ انفها في التراب، من الصعب عليها رفع الراية البيضاء. وأميركا تعتقد أنها مازالت تملك أوراق القوة الكافية لإعادة الاعتبار لذاتها، ومكانتها الدولية. وبالتالي العالم مطالب بالانتظار والاستعداد في آن للجولة الثالثة، التي قد تكون المحطة الكونية النهائية لصراع الأقطاب الكبار. لكن من شبه المؤكد، أن الصين قادمة لقيادة العالم، وهناك بالضرورة تغيّرات دراماتيكية في البناء الهيكلي للعالم الجديد في زمن غير بعيد، وقد يكون منظورًا للأحياء جميعًا.