بين عشية وضحاها بات الفلسطينيون في بؤرة أحداث تفشي فيروس كورونا الجديد "كوفيد-19 "، ففي تلك الليلة بتاريخ "الخامس من آذار/مارس"، سُجلت بيت لحم كأول مدينة فلسطينية يظهر فيها الفايروس، كأن الزمن توقف ولم تعد تلك المدينة المُفعمة بالحياة والزحام كما كانت، يخيّمُ عليها الصمت، الحركة التي تعج ليلاً ونهاراً رغم الظروف الإقتصادية وتذبذب الأوضاع السياسية قد غابت .. تغيرت مجريات الأحداث وصار تزايد الأعداد المصابة هو الخبر الثابت في النشرات اليومية.
تلك الجميلةُ النابضة بالحياة بات جمالها اليوم بارد لا روح فيه، الفرق ليس في التفاصيل والملامح، فما بين الشعور بالدّهشةِ والإحباط إلى مجهولٍ غامض فقير بالإجابات.
فبين واقع وحقيقة شوارع وأزقة خاوية .. تدابير أمنية عاجلة، رُفعت حالة الطوارئ، وجملة من الإجراءات الإحترازية الوقائية اتخذتها الحكومة الفلسطينية بقرارات متتالية بإغلاق متاجر وأندية ومقاه، جامعات ومدارس، ولم تُستثن منها المساجد والكنائس، حملات توعوية، انتهت بمنع الدخول أو الخروج من وإلى المدينة، أُغلقت المداخل بالحواجز، وأخيراً بفرض حظر تجول، للتصدي لفايروس لا يُرى بالعين المجردة يهددنا بخطر محدق كما العالم، شريطٌ من الأحداث المفاجئة كان كفيلاً لأن يعيد لذاكرتنا حصار الأربعين يوماً عام ٢٠٠٢، وكأن للعدو أوجه مختلفة، فرغم صعوبة الظرف، إلا أن المواطن بقي هو الحلقة الأهم وفي مقدمة كل الأولويات لتجنيبه الوباء.
فبيت لحم التي يقصدها آلاف المسيحيين والحجيج والزوار من داخل فلسطين ومن أقطار العالم، "بلحظات ضاع هذا المشهد"، كان الزائر فيها قبل ساكنيها يكاد لا يجد فيها موطئ قدم لنفسه، نتساءل هل جاء المخاض عسيراً منذ لحظاته الأولى؟
كل شيء جديد ومربك، أحداث لم نعتد عليها، صعوبات داهمتنا دون موعد، وكأننا نشاهد أحداث بلد آخر، تعابير وجوه الناس بدت تحمل في جوفها اسئلة مبطّنة كادت أن تنطق بوضوحها، في ظل ما تعكسه صورة العالم اليومية من إصابات بالآلاف ووفيات بالمئات، "فهو وباء عالميّ"، لا مفرّ منه إلا المواجهة، وتحت ضعف الامكانيات وتضييق الاحتلال، ربما يتفشى حتماً كما المحتل الذي يحاصرنا ولا يفارق أنفاسنا ولا أراضينا، ويسرقها نفساً نفساً، كلما سنحت له الفرصة.
زحمة أحداث، من التوجيهات، والتحذيرات ومنها التي تمنعنا من الزيارات، تعليمات صارمة تنفذ دون نقاش .. ما يعكس رغبة المواطنين في البقاء بالمنازل والالتزام، أثبتت خلالها المدينة الصغيرة الكبيرة بقلوب أهلها أنها قوية مستعدة للانتصّار.
تستوقفنا قليلاً عبارات، منها ما يبثُ روح الايجابية فينا "كلما كان المخاضُ عسيراً كان المولود غالياً، وإن خيوط الأمل تنبثق من مشكاةِ الألم وما هي إلا أن تباكرنا شمس الحرية والنصر".
انقضى أسبوعان، فرغم شُح الامكانيات شاهدنا حكومةً بأجهزتها العسكرية والأمنية وبتكاتف مواطنيها بمشهد الإسناد بحكمةٍ واقتدار، خلية نحل تعمل بتناغم لمواجهة الأزمات وأمام امكانيات مالية تعصف بنا منذ عدة أشهر، إلا أن الجهود تبذل بتوفير ما يلزم المواطن من دواء وغذاء واحتياجات معيشية، وكوادر طبية تتنقل مسرعة بين مراكز ومستشفيات بقفازاتٍ وكمامات، أولئك الذين يقدمون جهوداً جليلة، باذلين نفوسهم في مواجهة هذه المرحلة الدقيقة، فهُم الآن خط الدفاع الأول.
عظيمة هي بيت لحم تخوض معركتها بشموخ وعزيمة، تتحدُ بروح واحدة، تتجسدُ بصورة ذلك الشرطي اثناء تأديته واجبه الوطني والإنساني، يصلي في الشارع ويدعو الله دفع البلاء والوباء عن البلاد وأسوةً برفاقه الجنود المجهولين المرابطين بعيداً عن عائلاتهم في ظل برودة الطقس، وعدسة الحقيقة لصحفي ترصد ما في الميدان وفاعل خير تجده في كل مكان، لتعكس بتمسكها بوادر الشفاء بأجراس تدق بإبتهاج.
لطالما كنا نموذجاً حیاً ورمزًا للتآخي والانسجام والوحدة أمام العالم بإحياء أهلها المناسبات بجانب بعضھم البعض، یتشاركون في الفرح والترح، هنا تجد الكنیسة تقابل المسجد، وأصوات قرع أجراس الكنائس تلتحم بصوت القرآن والأذان، فإحساس الانتصار يسكن قلوبنا ويضيء وجوهنا.
في بيت لحم يُثبت المواطن والمسؤول ان مدينة السلام تستحق، فلنستند على هذه الصلابة والقوة المتجذرة فينا، وعلى إحساس المسؤولية الجماعية، وحتماً ستمضي الغيمة السوداء ليحل مكانها النور على المحبة والسلام.
عروبة النجار
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها