من الطبيعي أن يشتمل حديث الفلسطينيين حول صفقة التبادل، على ملاحظات نقدية، وتأويلات تتعلق بالاتصالات التي جرت، ودوافع الأطراف المشاركة في تلك الاتصالات، وعلاقة هذه الصفقة بسيرورات السياسة في فلسطين وفي جوارها العربي.

فعلى صعيد التأويلات، سيكون لتقارير الصحافة الإسرائيلية، دورها في تسميم مناخات الوعي الجمعي للناس، ويستمد هذا الدور أهميته، من استعداد فطري للأسف لتلقف فرقاء الخصومة الفلسطينية، أية تقارير من الصحافة العبرية، لتعزيز محاججاتهم، إذ يطرحون مضامين هذه التقارير، باعتبارها حقائق لا ترقى اليها الشكوك!

ردود أفعال البعض المنتقد، افتقرت الى الموضوعية، كذلك افتقدت الى مثل هذه الموضوعية تعليلات وشروحات وأوصاف حمساوية للصفقة، جاوزت المنطق السوي بمعيار الحقائق التاريخية، كأن يُقال عنها إنها أعظم انتصار في تاريخ الشعب الفلسطيني. وعندما يُقال في نقد الصفقة، إنها تُكرّس سياسة «الترانسفير» لا يكون هناك موضوعية، باعتبار أن شروط إطلاق الأسير المحكوم بمؤبدات، إن اشتملت على إقامته في خارج البلاد؛ لا تعني أن الحياة والصراع والدنيا اختتمت فصولها بالصفقة وبشروطها، وبالتالي سيظل من بقي في السجن، قابعاً في سجنه، ومن كان خارج الوطن سيظل مقيماً خارجه وأن الشروط مقادير أبدية. ثم إن نحو نصف الشعب الفلسطيني ما زال يعيش في الخارج، وعندما يلتحق بهذا النصف، لفترة ظرفية مؤقتة، عشرات من المناضلين، فلن ينتقص ذلك شيئاً من كونهم أصبحوا متحررين من قيود السجن البغيض.

كذلك، جاء قبول حماس، بشرط الإفراج عن بعض المناضلين مع إبعادهم، ليؤكد بأثر رجعي، وفي مثال جديد، على قُبح المهاترات التي كانت، عندما أمطر الحمساويون وسواهم، القيادة الفلسطينية، بزعامة الشهيد ياسر عرفات المحاصر آنذاك، بعشرات إشارات الغمز واللمز، لأنه قبل مضطراً، إجلاء وإبعاد المناضلين الذين تجمعوا، ومن ثم حوصروا، في كنيسة المهد في بيت لحم. لم يأخذ واحد من الناطقين بتلك الإشارات، في الاعتبار، أية ضرورة موضوعية، اقتضت الزعيم الذي قضى شهيداً بطلاً باسلاً، الموافقة على الشرط الإسرائيلي، ولا كان هناك أي تقدير لكون الإجلاء والإبعاد، حققا نجاة الشباب من القتل ومن السجن، علما بأن تلك كانت عملية فض اشتباك، في ظرف ميداني لغير صالحنا، ولم تكن عملية تبادل أسرى، أي لم يكن في جيبنا أسير إسرائيلي، نقايض بحريته حرية أسرى أو مُحاصرين فلسطينيين!

بعض التأويلات، تحدثت عن دور محفّز على إنجاز الصفقة، لعبته جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، وعن أن هذا الدور أملته حساباتها المتعلقة بالاستحقاق الانتخابي، وتطلع «الجماعة» الى أغلبية برلمانية، والى تطبيع علاقات مع الغرب. وقيل في هذا السياق، إن البرهان «الإخواني» المصري، للأميركيين على صدقية ما يقولونه عن «الحكمة» و»الليونة» وبالتالي عن جدارتهم في المشاركة في حكم مصر، جاء مفحماً، قوامه التأثير على «حماس» لكي تقدم بعض التنازلات!

هنا لا يحق لمن يغرقون مثلنا، في عذاب الحبيبة المتمنعّة المطعاجة وغير الراغبة، التي يسمونها التسوية، ويبتهلون الى الله طوال النهار وآناء الليل، بأن يهدي اللهم الإدارة الأميركية؛ أن ينتقدوا بمنطق الذم، اتصالات إخوانية أو حمساوية مع اميركا أو مع إسرائيل. ثم إن «حماس» قادمة الى حلبة السياسة من حيث هي لغة معتدلة، واتصالات يكون فيها الكثير من المسكوت عنه، شاءت أم أبت، لأنها أصلاً هي الآن في قلب السياسة من حيث هي سلوك ميداني، وهدنة، وتركيز على بحبوحة الحكم وهناء أيامه. صحيح، ربما هي تتوهم، أنها بالتمحك التدريجي بالسياسة، ستحافظ على وضعية الحكم المستبد الذي يقهر الآخرين، وأنها ستقتنص لنفسها جغرافيا سياسية قوامها دويلة في غزة؛ لكن الصحيح الحاسم، هو أنها عندما تفعل ذلك، لن تكون «حماس» التي خاضت الانتخابات على «برنامج المقاومة» سيما وأن المقاومة ليست تكشيرة ولا تحزيقة لفظية بلسان الفتى المشير!

أخونا أحمد بحر، يعلق بحدّة، على تصريح للوزير رياض المالكي حول نوايا أميركية إسرائيلية. ما قاله المالكي تنم عنه بعض الإشرارات الإسرائيلية، والسؤال في هذا الصدد هو: هل نستبعد أن يكون من بين أهداف الاحتلال لتمرير الصفقة، ضرب المسعى الفلسطيني السياسي والتشويش عليه، على قاعدة أن حماس ستزهو بالاتفاق ومن ثم تستمر في مجافاة الوفاق الوطني، وتأخذ وضعية كيانية صغيرة بالتفاهم مع الجار المصري. إن هذه فرضية واردة، وليس مستبعداً على المحتلين ممارسة كل أنواع الفتن، ودس السم في الدسم!

كثيرة هي الملاحظات النقدية والتأويلات التي لا تناسب المُقام. لنتعقل على هذا الصعيد لكي نحتفي بالأسرى. يمكن لواحد مثل الفقير كاتب هذه السطور وزملائه من الأسرى السابقين، أن يطرح ملاحظات تتعلق بالمعايير التي كان ينبغي أن نأخذ بها، كلما أتيح لنا أن نفاوض على تبادل أسرى. حتى الآن لا نعرف ما إذا كانت هناك أولوية لجميع ذوي المحكوميات العالية. فالمحتلون يضعون معايير، ونحن ينبغي أن تكون لنا معايير لانتقاء الأسماء. ليست الحركة الأسيرة بحاجة الى «عمداء» و»عقداء» يسلخ الواحد منهم ثلث القرن في السجون. والمفاوض الإسرائيلي، ركز بالطبع على المعيار الأمني، فأراد ان يستثني المحكومين ممن أسروا بعد العام 2000. ومثلما قلنا في كل شأن إداري بخصوص السجن أو إدارة المجتمع، إن الثبات على المعايير يجنّب الزلاّت!

لا بد من النظر الى الإيجابيات. لقد أبرمت «حماس» صفقة جيّدة، وهذا هو التقييم الموضوعي. إنها في تقديري صفقة تليق بمأثرة الحفاظ على سرّية احتجاز الجندي، على الرغم من كل الضغوط والمخاطر، وهذا إنجاز خاض الحمساويون مفاوضات ضارية من أجل تحقيقه، ولم يكن بالإمكان مثلما قلنا أبدع مما كان. فأهلاً بكل أسير يعود الى أسرته والى موقعه، ضمن حركة النضال الفلسطيني، والحرية للأحباب الأسرى جميعاً!