الربيع الفلسطيني يدق الأبواب، هكذا ابلغ الرئيس أبو مازن الاتحاد الأوروبي وهو يخاطبه في قاعة مجلس الاتحاد في ستراسبورج، شارحا لبرلمانيي الاتحاد الأوروبي كل الحقائق، وطالبا منهم التصويت لصالح عضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، وشاكرا للاتحاد الأوروبي مساهماته القيمة في بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، التي يتم بناؤها بأعلى المعايير كما تشهد بذلك التقارير الدولية المتعددة.

شكرا لاستحقاق أيلول، لأنه أعطانا الفرصة لهذا الحوار مع العالم، الحوار الجدي، الحوار الذي يفتح ذهن المجتمع الدولي على الحقائق الكبرى والأسئلة الملحة، التي كان بعضها تائها بسبب السلوك الإسرائيلي الشاذ، وبسبب الانحياز الأميركي الأعمى، واختلال الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة كراع وحيد لعملية السلام.

و شكرا لاستحقاق أيلول الذي أضاء بشكل قوي ورائع وشامل في حياتنا الداخلية الفلسطينية، حيث نقطف أول هذه الثمار الحلوة من خلال العودة الجماعية الفلسطينية إلى بنود الأجندة الوطنية والمشروع الوطني الفلسطيني، التي كانت غارقة في التشويش والتشويه بسبب الانقسام وتداعياته.

هل الانقسام انتهى ؟؟؟

لا، الانقسام لم ينته، ولكن صوته خفت، وبضاعته أصبحت بائرة، والتشبث به أصبح خسارة فادحة ومفضوحة للجميع، والخروج منه أصبح وحده اختبار الوطنية والصدق والشجاعة في الوعي الجمعي الفلسطيني، وحسب ما قرأه وأراه في المشهد الفلسطيني، فإن هذا الانقسام لن يصمد طويلا، وباتت أيامه معدودة، وخابت توقعات الإسرائيليين الذين كانوا يبنون على الانقسام كثيرا من الادعاءات والأوهام.

و جاء استحقاق أيلول ليحفزنا بقوة كي نهتدي بعقل مفتوح وإرادة حرة وأمل متوثب، إلى طريقة عملية عميقة وسريعة لإنهاء هذا الانقسام، بديلا عن حوار الطرشان الذي غرقنا فيه لسنوات، وبديلا عن عجز المشلولين الذي أقعدنا في حفرة الانقسام لسنوات، من خلال حوار جدي للكل الوطني !!! فقد رفعنا استحقاق أيلول إلى وعي أعلى، وأضاءنا فلسطينيا بحضور غير عادي لبنود أجندتنا الوطنية. دعوني أطرح مثالاً راهنا على ذلك يتمثل في معركة الأمعاء الخاوية، التي يخوضها أسرانا البواسل، أسرى الحرية والاستقلال الوطني، ونخوضها نحن معهم، فقد بدأ الحراك أول ما بدأ من قبل أخوتنا ورفاقنا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حين أقدمت سلطات السجون الإسرائيلية على عزل المناضل والقائد الوطني الكبير أحمد سعدات في واحدة من زنازين العزل الانفرادي، وهو الأمين العام للجبهة الشعبية فتحركت القضية إلى تضامن واسع النطاق، يشارك فيه أكثر من ستة ألاف سجين فلسطيني دون استثناء، موجات وراء موجات داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وتشارك فيه جماهير الشعب على امتداد أرض الوطن في الضفة والقطاع والقدس، بفعاليات وراء فعاليات, لم يشذ أحد عن القاعدة، لا داخل السجون، ولا خارج السجون، وأعطى أبطالنا صورة مشرقة التقطها شعبنا بكل هيئاته، فأصبحنا جسماً واحدا، ولم يستطع شيطان الانقسام أن يجد له منفذا فاختنق صوته !!! مع أننا قبل سنوات قليلة جدا وجدنا أنفسنا ونقلنا انقسامنا الرديء إلى داخل عنابر وزنازين السجون، حول موضوعات صغيرة تافهة مثل مصاريف “ الكنتينة “ وبعض الموضوعات الأخرى التي هي من نسج الخيال.

اليوم، لا خلافات تمزق أسرانا البواسل، برغم أن شياطين الانقسام موجودين بطبيعة الحال، ولكن صوتهم مخنوق، وأيديهم مكبلة بفعل هذا الحضور القوي الذي أضاء فينا نتيجة استحقاق أيلول.

بل إن نوابنا المنتخبين ديمقراطيا، والذين قام الاحتلال الإسرائيلي باختطافهم، وخاصة نوابنا الأعزاء من مدينة القدس، أصبح صوتهم عاليا وقضيتهم حاضرة بقوة من فوق منصة الأمم المتحدة، وداخل قاعة مجلس الاتحاد الأوروبي في ستراسبورج، حين تحدث عنهم الأخ الرئيس أبو مازن بصفتهم بندا رئيسيا على الأجندة الوطنية، لا تكتمل المفاوضات بدونهم ولا يتحقق السلام بدونهم.

ما أريد قوله :

ان استحقاق أيلول، بشرعيته، بمنطقه، بحقائقه، بصدقه وشجاعته، بنجاحاته التي بدأت تتوالى، بما طرحه من أسئلة كبرى، وما أثاره من حراك على مستوى العالم، يصلح لأن يؤهلنا وطنيا لمرحلة جديدة وخاصة على مستوى علاقاتنا الداخلية، فاستحقاق أيلول ليس لمصلحة طرف على حساب طرف آخر، وليس مكبلا بقيود اليوم الراهن على حساب المستقبل !!! وليس مقايضة بالدولة على حساب اللاجئين، أبدا، إنه ميلاد جديد لقضيتنا، ونحن جميعا في قلب هذه اللحظة الوطنية الخارقة، والحركة النضالية الفلسطينية بجناحيها الوطني والإسلامي مدعوة مجددا لتأكيد الحفاظ على مبرر وجودها، بأن تكون مع شعبها، في خضم آلامه وآماله، في بؤرة جراحاته وأمنياته، وأن تكون بجناحيها الوطني والإسلامي مع الشعب وليس أن تكون عليه، أن تكون منه فترى ما يراه وتحس بما يحس، ولا تكون فيه الشوكة والخنجر ونقطة الضعف، ولا تبتعد هناك لتغزل صوفها بمغزل آخر وتقيس اشياءها بمقياس أخر.

استحقاق أيلول بالنسبة لنا كفلسطينيين في علاقاتنا الداخلية هو جسر الإنقاذ الوحيد الذي أقيم بعناية فائقة وذكاء شديد ووطنية عريقة فوق هذه الهوة السحيقة القاتلة التي اسمها الانقسام، فتعالوا نعبر هذا الجسر بثقة وحرص وتفاؤل وشجاعة، ولا نستمع مطلقا لأولئك الخبثاء والأعداء الذين يعبدون مصالحهم، ويريدوننا أن نظل على جانبي الهوة السحيقة، ننظر إليها بخوف وعجز واستسلام، ثم نهرب من عجزنا بتصعيد وحشية الاتهامات والخلافات ضد بعضنا.

استحقاق أيلول فرصة نادرة، ولحظة وطنية مكثفة، وحراك على أعلى مستوى، لإنقاذنا من الانقسام وتراشقاته وتوجساته التي جرجرتنا إلى مسالك ملتوية وإلى جراح مؤلمة ومهينة في السنوات الخمس الماضية.

تعالوا نعبر هذا الجسر إلى بر الأمان الوطني الفلسطيني، فنكون معا في ربيعنا الذي بدأ يدق بيديه القويتين أبواب العالم.

لك الشكر الجزيل يا استحقاق أيلول، يا من هديتنا بعد التيه، وها أنت تمنحنا الفرصة لكي تعود الطيور المشتتة في سموات أخرى إلى سربها الأصلي في سماء فلسطين.