بدون أدنى شك استطاع الفلسطينيون، عبر ذهابهم إلى الأمم المتحدة لطلب الاعتراف بعضوية دولتهم، أن يلقوا حجراً كبيراً في مياه العملية السياسية الراكدة منذ فترة. قد لا يحصلون على الاعتراف الدولي في غضون فترة قريبة، ولكنهم أطلقوا قطار الدولة الذي لن يعود إلاّ بها مهما طال الزمن. ونجحوا مرة أخرى في جعل قضية فلسطين مركز الاهتمام الدولي بعد أن غابت عن الأضواء سنوات طويلة في دهاليز عملية تفاوضية لم تكن مجدية.

الشعب الفلسطيني وقيادته يدركون أن العملية طويلة وشاقة وقد يترتب عليها صعوبات ومشقة إضافية في حال نفذ الأميركيون والإسرائيليون تهديداتهم بتطبيق عقوبات على الجانب الفلسطيني، ولكنهم يدركون كذلك أنه لا بديل عن خوض معركة الحرية والاستقلال من جديد بأساليب مبتكرة وإبداعية تتجاوز مجرد انتظار نضوج الموقف الدولي، فالذهاب إلى المنظمة الدولية للحصول على الاعتراف بدولة فلسطين عضواً كاملاً فيها على أساس حدود العام 1967 هو أحد هذه الأساليب والآليات الكفاحية، ولكن يجب أن يكون هناك المزيد منها ليفاجئ الشعب الفلسطيني العالم من جديد بقدرته على الإبداع، كما هو الحال في كل المحطات الكفاحية التي مر بها هذا الشعب حيث شكل مدرسة نضالية مميزة، تتعلم منها الشعوب الأخرى.

الفلسطينيون حققوا انتصاراً معنوياً مهماً بهذه الخطوة، لأنهم أخذوا زمام المبادرة من جديد، ولأنهم تجرّأوا على الخروج من القالب الذي وضعوا به منذ اتفاق أوسلو، والآن هم يرسمون قواعد جديدة للعبة السياسية، بعد أن تحطمت وفشلت القواعد السابقة التي بنيت عليها العملية السياسية والتي لم تؤد إلى أية نتيجة جدية. وهذه القواعد لا تتعلق بالمرجعيات فهي محددة وواضحة وتستند إلى قرارات الشرعية الدولية وخاصة القرارين 242 و338 وقرار 194، بل تخص كيفية إدارة العملية التفاوضية بحيث لا تبقى في اطار خض الماء وإضاعة الوقت والسماح لإسرائيل بفرض المزيد من الوقائع والحقائق على الأرض بقوة الاحتفال وبفعل الاستيطان. وهم مستعدون لدفع الثمن، ولكنهم مصممون على الوصول إلى النتيجة التي لا يقبلون بديلاً عنها: تحقيق حلم الدولة المستقلة في حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

ثلاثة أطراف تبدو خاسرة من الخطوة التي اتخذتها القيادة الفلسطينية والتي عبر عنها بوضوح تام وقوة وتصميم وإرادة فولاذية خطاب الرئيس أبو مازن في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي إسرائيل والولايات المتحدة وحركة "حماس"، فإسرائيل على الرغم من حبور الأطراف اليمينية فيها واستمتاعها بخطاب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وأيضاً فرح جميع الإسرائيليين باستثناءات قليلة بخطاب الرئيس باراك أوباما الذي كان مؤيداً لإسرائيل أكثر من كل التوقعات الإسرائيلية، فقد حظي برضى وإعجاب وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان الذي ما كان ليكتب خطاباً أفضل منه للوقوف إلى جانب إسرائيل، وعلى الرغم من شعور الإسرائيليين بأنهم محميون دولياً بغطاء أميركي في مجلس الأمن، وأن إدارة أوباما تفعل ما في وسعها كي تفشل الخطوة الفلسطينية حتى لو استخدمت حق النقض ضد أي قرار يصدر عن مجلس الأمن لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، إلاّ أن إسرائيل على كل مستوياتها تدرك أن شهر العسل الذي تعيشه شارف على الانتهاء، والقرار الفلسطيني بالتوجه إلى الأمم المتحدة يؤرخ لمرحلة جديدة ستكون فيها إسرائيل في أشد حالات العزلة الدولية، وستضطر في النهاية إلى الرضوخ لإرادة المجتمع الدولي.

يمكن القول إن ذهاب الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة قد قسم إسرائيل إلى ثلاثة اتجاهات تبعاً لرد الفعل على القرار الفلسطيني: الأول، هو الذي تعبر عنه الحكومة والاتجاهات المتطرفة، الذين لا يعتقدون أن على إسرائيل أن تفعل شيئاً حيال الخطوة الفلسطينية، بل عليها أن تواصل سياستها الراهنة القائمة على الاستيطان والرافضة لمرجعيات العملية السياسية، واعتبار أن الحفاظ على الائتلاف الحكومي أهم بكثير من أي شيء آخر.

والثاني، هو الذي يقول إن على إسرائيل أن تعترف بالدولة الفلسطينية وتضمن أن تسير الأمور وفق مصالحها على أساس أن حل الدولتين هو مصلحة إسرائيل، وموافقة إسرائيل الآن على الاعتراف بفلسطين على حدود 1967 في اطار اتفاق دولي يتيح لها الحفاظ على قدرة كبيرة على المناورة، وأفضل من أن يفرض عليها حل على هذا الأساس تخسر فيه أهم أوراقها التفاوضية. أما الاتجاه الثالث، فهو الذي يرى أن الفلسطينيين بخطوتهم هذه قد أظهروا أنهم يريدون دولة ولكنهم لا يريدون السلام مع إسرائيل، بينما نتنياهو يريد سلاماً ولا يريد أن يمنح الفلسطينيين دولة. وهؤلاء يعتقدون أن الظروف لم تحن بعد لعملية سياسية تؤدي إلى تسوية.

على كل الأحوال إسرائيل بدأت تفقد زمام المبادرة، وكل شيء يتعلق بالمفاوضات سيكون من الآن فصاعداً ليس على رغبتها ومزاجها مثلما كان في السابق. والشيء نفسه ينطبق على الولايات المتحدة التي ظهرت ضعيفة أمام الاصرار والإرادة الفلسطينية، وباتت في موقف محرج أمام الجماهير العربية التي تدعي أنها تدعم نضالاتها، وأمام العالم أجمع. كما أنها أضحت بلا حول أو قوة في إدارة العملية السياسية بعد فشل هذه العملية وكل أشكال التدخل والوساطات الأميركية. بل إن الموقف الأميركي قضى على دور "الرباعية الدولية" التي باتت هي الأخرى عاجزة تماماً. وسيكون للخطوة الفلسطينية انعكاسات مهمة على نظرة الشعوب العربية للولايات المتحدة ولدورها في المنطقة.

أما "حماس" فقد اختارت هي وليس أي طرف آخر أن تكون مع الخاسرين، والمواقف التي تكررت عن قادتها تعكس قصر نظر سياسي بل بالأحرى عمى سياسياً. و"حماس" تظهر على نقيض الشعب الفلسطيني الذي يطمح في تحقيق استقلاله السياسي ودولته المستقلة، ربما لأن "حماس" لا تريد التخلي عن إمارتها في غزة وتشعر بتهديد حل الدولة لهذه الإمارة. وأيضاً، بسبب أن "حماس" شعرت أنها على هامش الحركة السياسية، لا دور لها فعلياً في هذه الحركة.

وقرار "حماس" بالوقوف ضد خطوة القيادة وضد الذهاب إلى الأمم المتحدة ليس فقط خاطئاً بل هو عدمي، لأنها لا تملك بديلاً واقعياً. والتصريحات المتكررة بتحرير الوطن بديلاً عن الذهاب إلى الأمم المتحدة هي في اطار الشعارات ليس إلاّ. ومن الغريب أن قيادة "حماس" لا تزال تعيش الوهم أو تروج له كذباً بأنها من حرر قطاع غزة، فقطاع غزة ليس محرراً، وإخلاء المستوطنات أحادي الجانب كان فخاً إسرائيلياً أدى إلى الكارثة التي لحقت بالقطاع بعد فوز "حماس" وانقلابها على السلطة الوطنية هناك. وشعبنا في القطاع مسكين يعاني من قمع واضطهاد مزدوج من إسرائيل و"حماس"، ولا أعتقد أن أحداً من أبناء شعبنا يريد مصيراً مماثلاً للضفة الغربية.

"حماس" خاسرة لأنها تعارض إرادة الشعب وحلمه وطموحه ولا تهتم سوى بمصالحها وكيفية الإبقاء على سيطرتها على هذا القسم العزيز من الوطن، لتمص خيرات القطاع وتبتز مواطنيه وتقاسم الاحتلال دوره في قمع وإذلال المواطنين