فتح ميديا - لبنان

العالمُ بأسره كان ينتظر خطاب الزعيم الفلسطيني رئيس دولة فلسطين، ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فقط الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي وقلةً من الدول الحائرة في أمرها الواقعة في دائرة الابتزاز الصهيوني هي التي ترى  في جلسة الجمعية العمومية المخصصة للخطاب الفلسطيني التاريخي جلسةَ تعزيةٍ بانهزام عصر التمرد والإرهاب الصهيوني، وانبعاث العصر الفلسطيني القائم على العدالة، والشرعية الدولية، والحرية والاستقلال.

الرئيس أبو مازن اختار خوض معركة التحدي رغم المحاذير والضغوطات الأميركية والإسرائيلية ، وكان عليه أن يختار بين الرضوخ للتهديدات والقبول بالإغراءات المالية لضمان سلامة بقاء السلطة الوطنية، أو الإصرار على تقديم الطلب الفلسطيني إلى الأمين العام للأمم المتحدة لنيل الاعتراف بالعضوية الكاملة. لم يجد الرئيس أبو مازن صعوبة في عملية الاختيار والإصرار على حماية حقوق شعبه الوطنية، ورفض أية عملية مقايضة على الثوابت الفلسطينية، وعلى حق تقرير المصير.

الجبروت الأميركي بكل مكوّناته المالية والعسكرية والأمنية، والغطرسة الصهيونية بكل أشكالها العنصرية والإرهابية والاجرامية جميعها وقفت عاجزةً مستجديةً الجانبَ الفلسطيني أن يتراجع حتى لا يشكل بطلبه المقدَّم إلى مجلس الأمن إحراجاً وإدانةً لسيدة العالم المتحكمة بمصير الشعوب، والتي تمارس التضليل، وتكيل بمكيالين.

الرئيس أبو مازن المفوَّض من شعبه الموزَّع بين الداخل والشتات أخذ قراره دون تردد، فقد دقَّت ساعة الاستقلال، وجاء وقتُ الحساب، والشعب الفلسطيني يمهل ولا يهمل. وهكذا جاء الخطاب التاريخي ليثبِّتَ الثوابت، ويفنِّد المزاعم، ويوقظ الضمائر.

من المكان ذاته الذي وقف فيه الرمز ياسر عرفات في العام 1974،  وأطلق خطابه المشهور يقف اليوم الزعيم أبو مازن ليجدد الخطاب الفلسطيني، ويؤكد تواصل الأجيال، ويُعلن استمرار الثورة  حتى إزالة الإحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

الرئيس كان واثقاً من نفسه، ومن خطابه السياسي المُتقَن والمدروس جيداً، خاطب الوفود العالمية على اختلاف لغاتها بالمنطق الفلسطيني المتمِّيز بالوضوح والموضوعية، هذا المنطق المُثقل بالحقائق، والمُستند في قوته إلى قوة الحق الفلسطيني بوجه الباطل الصهيوني.

ظنَّ البعض بأن الطلب الفلسطيني لنيل العضوية الكاملة أسوة بباقي دول العالم سيلغي دورَ منظمة التحرير الفلسطينية، وسيطيح بموضوع اللاجئين. وإنه سيتجاهل القدس عاصمتنا الأبدية، ظنَّ البعض ذلك وإنَّ بعض الظن إثم، إلا أن الرئيس أبو مازن في خطابه ثبَّت الثوابت الفلسطينية وقطع الشك باليقين في رسالة واضحة إلى العدو الإسرائيلي حتى يعيد حساباته جيداً فلا مساومة ولا مقايضة. والرسالة أيضاً إلى الداخل الفلسطيني لطمأنة من يريد الاطمئنان وهو بقلب سليم.

قمة الجرأة في خطاب الرئيس عندما تحدى ضمائرهم فوضع الوفود الدولية أمام مسؤولياتهم بل أمام خيار واحد وهو الاعتراف بالدولة الفلسطينية "لا أعتقد أنَّ أحداً لديه ذرة ضمير ووجدان يمكن أن يرفض حصولنا على عضوية كاملة في الأمم المتحدة.. بل وعلى دولة فلسطين". وقد عزَّز هذا المنطق الجريء بقوله :"إنَّ دعم دول العالم لتوجهنا هذا يعني انتصاراً للحق والحرية والعدالة والقانون والشرعية الدولية، ويقدم دعماً هائلاً لخيار السلام..."

في أطار تثبيت الثوابت الوطنية في خطابه التاريخي فقد كان المضمون السياسي والقانوني واضحاً ولكنه شاء أن يلوِّنه بصور وجدانية وانسانية أسهمت في ترسيخ هذه المضامين وتجذيرها في الرؤية الدولية للعدالة والحرية والسلام.

أولاً: القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة على جميع الاراضي المحتلة في الرابع من حزيران العام1967. فالقدس تتعرض لمشروعٍ استيطاني، ولإجراءات تعسفية تمنع اهلها من البناء، واكثر من ذلك فإنها تصادر بيوتهم، وتبعد ابناءها في إطار "سياسة تطهير عرقي" تطال ايضا هدم الاماكن الدينية، واجراء الحفريات تحتها مما يعرضها للدمار والسقوط.

 

 

ثانيا: إن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني "ستبقى حتى انهاء الصراع من جوانبه كافة" والاعتراف بفلسطين  في القرار 177/43، واي اعتراف مستقبلي بالدولة الفلسطينية لن يؤثر على دور م.ت.ف. بصفتها القائمة كعضو مراقب. والدولة الفلسطينية مستقبلاً سيكون عليها واجبات والتزامات تجاه المجتمع الدولي تختلف عن ما هو مطلوب من م.ت.ف. كحركة تحرر وطني ما زالت حتى اللحظة تشكل البيت الفلسطيني لكافة ابناء شعبنا في الداخل والشتات.

 

ثالثاً: إن موضوع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين كان حاضراً بقوة استناداً الى القرار الأممي 194، ومبادرة السلام العربية، وهو حقٌ مقدس لا يسقط بالتقادم، ولا يمكن معالجة القضية الفلسطينية بعيداً عنه، لأن اي حلٍ من هذا النوع من شأنه تدمير عملية السلام. القرار 194 يشمل حق العودة والتعويض للأفراد والمجموعات، "حان الوقت ان تنتهي معاناة ومحنة ملايين اللاجئين الفلسطينيين في الوطن والشتات، وان ينتهي تشريدهم، وان ينالوا حقوقهم ".

 

رابعاً: لقد قام الرئيس ابو مازن بتثبيت قضية الأسرى كإحدى الثوابت الوطنية الفلسطينية، واستطاع ان يرفع عنهم صفة الإرهاب التي تعمَّد الإسرائيليون إلصاقها بهم، فهؤلاء استناداً إلى ميثاق جنيف العام 1949 هم مدافعون عن ارضهم ضد الإحتلال، وهناك قوانين دولية تحمي حقوقهم لكن الاحتلال لا يقيم وزناً لأية مواثيق، وهو يمارس القتل والتعذيب وزج الآلاف في السجون، وآن الأوان ان يعترف العالم بالدولة الفلسطينية المستقلة لأنه "حان الوقت لكي ينطلق آلافٌ من أسرى الحرية من سجونهم ليعودوا الى أُسرهم والى اطفالهم ليسهموا في بناء وطنهم".

 

خامساً: نجح الرئيس في تقديم صورة الدولة الفلسطينية العتيدة، والمجتمع الفلسطيني بالمضمون المطلوب لنجاح الدولة في علاقاتها الدولية بناءً على القيم الحضارية، والاخلاقية، والقانونية مما يجعل من دولة فلسطين دولةً فاعلة ومتفاعلة في إطار التطور الحضاري، فهي تقوم على "تكريس دعائم الديمقراطية كأساس للحياة السياسية الفلسطينية (...) لأن الدولة التي نريد ستكون دولة القانون والممارسة الديمقراطية، وصون الحريات والمساواة".

سادساً: عندما يؤكد الرئيس مواصلة الشعب الفلسطيني لمقاومته الشعبية السلمية ضد سياسات الإستيطان، وجدار الفصل العنصري فهي "المتوافقة مع القانون الدولي الإنساني والمواثيق الدولية"، والقوانين الدولية تعطي للشعوب حق مقاومة الإحتلال والإستعمار لنيل الإستقلال. والمقاومة الشعبية الحالية هي المنسجمة مع طبيعة الوضع القائم، والتي تأخذ بعين الإعتبار عدم الإنجرار الى مربع العمل العسكري حتى لا نعطي الذرائع للإحتلال لاستخدام العنف تحت حجة الدفاع عن النفس. إن الشعب الفلسطيني ليس عاجزاً عن استخدام كافة الأساليب، لكنه في مثل هذه الظروف يريد ان يقدم للعالم "نموذجاً مبهراً وملهماً وشجاعاً لقوة الشعب الأعزل إلا من حلمه وشجاعته". هذا الخطاب نابعٌ من التقييم الواقعي والموضوعي وليس قائماً على الشعارات الطوباوية، فالمقاومة وسيلةٌ لتحقيق الأهداف، وليست هي الهدف بحد ذاته.

 

سابعاً: لقد تعمدت الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي تسليطَ سيف المفاوضات على العنق الفلسطيني كي تكون غطاء لمشروع توسيع وبناء المستوطنات، وكلاهما يرى ان المفاوضات يجب ان تكون ثنائية، وبعيداً عن أية مرجعية دولية، ودون وجود اي سقفٍ زمني، وأنه لا تَعارُضَ اطلاقاً مع استمرار الإستيطان، والبقاء دائماً تحت رحمة الراعي الاميركي المنحاز للصهيونية وغير النزيه، وبعد هذا كله فإن طاولة المفاوضات برأيهما هـي التي تجلب الدولة الفلسطينية للفلسطينيين وليس قرارات الأمم المتحدة "جوهر المسألة هنا أن الحكومة الإسرائيلية ترفض اعتماد مرجعيةٍ للمفاوضات تستند الى القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة، وهي تواصل وتصعِّد بشكل محموم عملية بناء المستوطنات على اراضي دولة فلسطين المستقلة".

الطرف الفلسطيني لا يريد معاندة المجتمع الدولي، وهو جاهزٌ للعودة الى المفاوضات المنضبطة لقرارات الشرعية الدولية، وليس المفاوضات العبثية التي تستحق تسميتها بالمهاترات، فالمشكلة ليست في المفاوضات ولكن في مرجعية المفاوضات. القيادة الفلسطينية تعتمد الخيار السياسي والدبلوماسي، ولذلك هي تأتي بالمظلمة الفلسطينية الى هذا المنبر الأممي. وأكثر من ذلك "دعونا نبني جسور الحوار بدل الحواجز وجدران الفصل". وبالتالي اين أصبحت وعود أوباما بالعمل على حل الدولتين؟ لقد تم نسف حل الدولتين بواسطة عبوة الإستيطان كما تم " إقامة سلطة الإحتلال المدنية والعسكرية في الضفة الغربية بقرار احادي". مجموع هذه القضايا الست تشكل في الواقع الرؤية الإستراتيجية للعمل السياسي الفلسطيني.

إن ما جاء في خطاب الرئيس أبو مازن حفرَ عميقاً في ذاكرة وعقول اعضاء الوفود، وشعوب العالم التي تتابع تطورات الصراع في المنطقة. وجاءت التساؤلات المحقة والهادفة حول واقع ومستقبل الشعب الفلسطيني لتوقظ الضمائر "فهل يُسمح لإسرائيل ان تواصل اخر احتلال في العالم؟ نحن آخر شعب تحت الإحتلال. وهل يُسمح لها ان تبقى دولة فوق القانون والمساءلة والمحاسبة؟ وهل يسمح لها بأن تواصل رفض قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية...؟"

العالم بأغلبيته الساحقة باستثناء المغضوب عليهم صفَّقوا لفلسطين ورئيسها، صفَّقوا وقوفاً واعتزازاً بهذا الشعب العظيم صاحب أطول ثورة معاصرة. فالنصر كان مؤزراً لشعبنا وللشعوب الحرة، والهزيمة كانت قاسيةً حتى النخاع لأعداء الشعب الفلسطيني. إنه زمن الربيع الفلسطيني، لقد دقت ساعة الإستقلال.